عبد الناصر وسيد قطب ليسا خصمين في كل شيء.. هكذا يلتقي الإسلام السياسي مع القومية العربية

عبد الناصر وسيد قطب

في عام في 1952 في مصر، وصل جمال عبد الناصر إلى السلطة إبان انقلاب الضباط الأحرار بدعم من الإخوان المسلمين، ليصبح بطلا قوميا عربيا فيما بعد. بحلول عام 1954، ألغى ناصر جماعة الإخوان وجعل الحركة الإسلامية في خبر كان. تلخص هذه الواقعة كلًّا من وحشية وتناقض العلاقات بين الإسلاموية والقومية العربية. ومع ذلك، فإن هذا التناقض في بادئ الأمر محير للغاية؛ في الواقع، يبدو أن لمحة تاريخية ومفاهيمية عامة تشير إلى عدم توافق واضح ومعارضة بين هاتين الأيديولوجيتين السياسيتين الكبيرتين في القرن العشرين.

يجدر الإشارة إلى أنه تم تعريف القومية العربية في هذا النص على أنها الإيمان بأن جميع المتحدثين بالعربية يشكلون أمة ويجب أن يكونوا موحدين ومستقلين، وتم استخدام مصطلح الإسلاموية كمرادف للإسلام السياسي؛ أي الأيديولوجية السياسية التي تسعى لإنشاء دولة إسلامية على أساس الشريعة الإسلامية. تتشارك كلٌّ من القومية العربية والإسلاموية تاريخا حافلا من المواجهات العنيفة على مر القرن الماضي. علاوة على ذلك، تبدو هذه المواجهة -منطقيا- نابعة من عداء أيديولوجي جوهري. ووفقا لكتاب بندكت أندرسون "المجتمعات المتخيلة"، فإن الأيديولوجية القومية تحل محل الدين وهي علمانية بطبيعتها أو تمثل على الأقل تحديا وتركيزا متنافسا للولاء تجاه الهوية أو السلطة الدينية. علاوة على ذلك، يرى بيتر ماندافيل أن هذه الأيديولوجية -التي تساوي بين السيادة والأمة- تتعارض مع المبدأ الإسلامي المحافظ "الحكم لله" الذي يعرّف السيادة كملك وسلطان حصري لله.

سيد قطب (يمين) وجمال عبد الناصر
سيد قطب (يمين) وجمال عبد الناصر (مواقع التواصل)

لذلك، وجب على كل شيء معارضتهم، غير مفسحٍ أي مجال للتناقض. ولكن كيف لو كانتا حقا أيديولوجيتين منفصلتين "محكمتين"، هل يمكن أن يفسر أحدهم نمط انبثاقهما المشترك المثير للفضول؛ إذ إن نمت جذورهما الفكرية في أواخر القرن التاسع عشر وظهرت أول مظاهرهم السياسية المهمة في فترة ما بين الحربين العالميتين؟ كيف يمكن تفسير العديد من الاتصالات بين الأيديولوجيين (مؤيدي أيديولوجية ما) والأيديولوجيات؟ وإذا تفحصنا هذه النقطة أكثر وخالفنا وجهة النظر المعارضة، فإن الادعاء بأن القومية العربية والإسلاموية هما في الواقع "وجهان لعملة واحدة" سيكون قد تم تحقيقه. في هذا المنظور، ستكون الحركتان مجرد "تعبيرين" مختلفين لأمر واحد؛ تم تحديد هذا الأمر على أنه رفض للتأثيرات الغربية، أي على توالي القوى الاستعمارية الأوروبية أولا والهيمنة الأميركية لاحقا.

في تقييم هذه الادعاءات والفصل بينهما، سيحاول هذا المقال تجنب المحاذير المنهجية. من ناحية، رفض إعادة النظر في الأيديولوجيات، أي النظر إليها كمجموعات ثابتة وغير متغيرة من الأفكار، إذ سيعترف هذا المقال بأهمية الديناميات التاريخية والسياسية والاجتماعية في تشكيلها. كما يقول ديل إيكلمان: "لا توجد هذه النماذج كأمور يمكن نزعها من السياقات الاجتماعية والثقافية". سيكون هذا العنصر ذا صلة خاصة بمسألة الهوية التي تم تعريفها هنا على أنها بناء اجتماعي بُنِيَ مضمنا وجود "الآخر"، بالمعنى المسند إليه من قِبل عالم الأنثروبولوجيا فريدريك بارث مؤلف كتاب "لا هوية بدون تمييز" الصادر عام 1969. من ناحية أخرى، يسعى هذا المقال إلى عدم إغفال حقيقة أن هذه الأيديولوجيات ليست أمورا فارغة؛ فعلى الرغم من أنها تتغير مع مرور الوقت وتشكلها عوامل غير تابعة لفكر معين، فإنها تمتلك محتوى، ورؤية مفصّلة للعالم بشكل وبآخر، وهي في نهاية المطاف عن قيم وأهداف لا يمكن للمرء اعتبارها غير ذات صلة وأهمية.

ضمن هذا الإطار، سيتم التطرق إلى السؤال التالي: هل الإسلاموية والوحدة العربية هما أيديولوجيتان منفصلتان ومتعارضتان، أم أنهما ظاهرة واحدة تتخذ شكلين مختلفين؟ أولا، سيؤدي هذا المقال إلى إبطال وجهة نظر "المعارضة"، ويُظهِر بدلا من ذلك أن الحركتين متشابكتان ومتداخلتان بطرق مختلفة. وثانيا، سيُثبت أن كلتيهما يمكن بالفعل أن تُعرّفا بشكل صحيح على أنهما ردود فعل تجاه الغرب حيث تحركهما الهوية. ولكنه سيجادل بعد ذلك بأن النظر إليهما على أنهما مجرد أشكال مختلفة من هذا الرفض، قد يغفل عن المضمون الأيديولوجي لكليهما، وستكون بمنزلة لبس بين الأصل والأساس حسب شروط ديكارت. ومن ثم، فإن هذا المقال سوف يحمل وجهة النظر القائلة بأن الإسلاموية والقومية العربية حركتان مترابطتان بشكل وثيق حيث إنهما متحدتان ومختلفتان في آنٍ واحد من خلال علاقتهما بالغرب: كلتاهما ظهرتا كرفض للغرب، ولكن تستند كل منهما في كفاحها وموقفها إلى أسس أيديولوجية مختلفة جوهريا.

الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت  (مواقع التواصل الاجتماعي)
الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت  (مواقع التواصل)

نمط معقد من التفاعل الاجتماعي

إن التحقيق في التاريخ الفكري والسياسي للإسلاموية والقومية العربية يرسم صورة تنوع واسع من أنماط التفاعل الاجتماعي ويدحض بالتأكيد نموذج النظرة الساذجة للمعارضة. الأكثر دقة، أنه يدل على مسارين مرتبطين بشكل وثيق يصوغ كل منهما الآخر من خلال مجموعة متنوعة من العلاقات، بدءا من التعايش إلى استغلالها كأدوات.

أولا، كملاحظة أولية، يمكن للمرء أن يشير إلى أن المذهبين الأصليين بعيدان عن أن يكونا غريبين تماما عن بعضهما البعض، وأن المؤسسين الأوائل لم يصمموهما بروح المواجهة أو عدم التوافق. على جانب الوحدة العربية، أشار المؤسس الأيديولوجيّ لحزب البعث، ميشيل عفلق: "لقد تم إحياء قوة الإسلام لتظهر في أيامنا في شكل جديد، ألا وهو القومية العربية". كما نصح المسيحيين العرب أن يعرفوا الإسلام وأن يحبوا هذا الدين الجديد كما هو، كما صاغ ذلك في كلماته: يكمن "العنصر الأكثر قيمة" في القومية. وبالمثل، فعلى الجانب الإسلامي، جادل رشيد رضا -وهو نفسه الذي اعتبر الخلافة ضرورة- بأن المسلمين يستطيعون إدراك النظام الأخلاقي للإسلام داخل حدود الدولة القومية. في الواقع، خلال سنوات الحرب، كانت الحركات الراديكالية الأقلية -مثل حزب التحرير- تسعى في الواقع إلى جمع الأمة تحت حكم الخلافة. لا تهدف هذه الملاحظات إلى إبطال الاختلافات الأيديولوجية بين هاتين الحركتين، بل تؤكد ببساطة عدم دقة النهج "المعارض" القوي للغاية والذي من شأنه أن يثبتهما بأثر رجعي في صيغتهما الأكثر راديكالية.

ثانيا، إن التاريخ السياسي للحركتين لا يعني بأي حال من الأحوال أن يتسم بالمواجهة المحضة أكثر من أصولهما الفكرية. في الواقع، لقد كان الصراع على السلطة المتغلغل في السياسة والإسلاموية والعلاقات القومية العربية -في بعض الأحيان- صراعا تأسيسيا متبادلا. سلط العديد الضوء على الدور الحاسم الذي لعبه الإسلام والإسلاميون في الحركات القومية ومساعي بناء الدولة -من عصر ما بين الحربين إلى أوائل الحرب العالمية الثانية- كأساس واعٍ للتعبئة أو كقوة فاعلة في صنع سلطة الدولة. وعلى العكس، فقد أثرت عمليات بناء الدولة هذه أيضا على ممارسات الشريعة ومفهومها، كما حدث في ماليزيا أو شبه الجزيرة العربية. وقد اتخذت هذه التفاعلات شبه التكافلية شكل الاستغلال أو -على الأقل- للديناميكيات السياسية حيث تمكن كل طرف من استخدام الآخر كأداة لتحقيق أهدافه الخاصة.

وهكذا، يتخطى استخدام القوميين العرب للإسلام، فعلى سبيل المثال، تم استخدام النظام الديني كأداة لحشد الدعم المحلي والإقليمي لأجندته الاشتراكية العربية -ولا سيما من خلال جامعة الأزهر- التي تستخدم كوسيلة لإشاعة الشرعية العربية؛ أو كما تذرّع صدام حسين بالدين بشكل متكرر لحشد العرب خلال حرب الخليج عام 1991؛ وهكذا تم استخدام الإسلاموية في حد ذاتها كأداة من قِبل الدولة القومية، وهذا ما حصل في لحظة عودة ظهور الإسلاموية بعد سبعينيات القرن الماضي. في باكستان وجنوب شرق آسيا على سبيل المثال، لم تنشأ الأسلمة كتحدٍّ للدولة فقط، ولكنها في الواقع عززت دول ما بعد الاستعمار -خاصة الباكستانية والماليزية- من خلال تزويدهم بأداة أيديولوجية والتي كانت تنقصهم سابقا. وتجسد مقاربة الدولة القوية التي يتبناها الإسلاميون في الشرق الأوسط الديناميكية العكسية.

صدام حسين
صدام حسين

ما ينبع من هذا التحليل هو أن نهج المعارضة والنزاع يبدو مغالطة؛ الإسلاموية والقومية العربية ليستا أيديولوجيتين متناقضتين متلازمتين تماما ولا علاقة لهما ببعضهما سوى المعارضة والنزاع. إن مثل هذه النظرة تحجب التاريخ المعقد المتشابك لهاتين الحركتين المتطورتين إلى حد كبير، والتي يمكن اعتبارها في العديد من النواحي أساسا متبادلا. ومع ذلك، فإن إبطال هذه النظرة يعني بالضرورة أن العكس هو الصحيح. بعبارة أخرى، القول بأن نموذج المعارضة والنزاع في الغالب غير دقيق هو أمر معين من جهة، أما ادعاء أن الإسلام السياسي والعروبة هما شكلان لأمر واحد "وجهان لعملة واحدة" هو أمر آخر بالطبع. والسؤال الذي ينبغي للمرء محاولة الإجابة عنه الآن هو ما إذا كان من الممكن تجاوز هذا التنوع من التفاعلات الموصوفة أعلاه وتحديد عنصر موحد يبرر مثل هذا الادعاء.

رفض مشترك للغرب

سيتبيّن أولا أن كلا من الإسلاموية والعروبة تظهران كرد فعل على الاختراق الغربي للمنطقة ولهما وظائف اجتماعية مماثلة في هذا الصدد. يمكن -إلى حد ما- النظر إلى الحركتين بشكل صحيح على أنهما شكلان من هذا الرفض. تتمثل أول إشارة لوجود عنصر مشترك قوي في الملاحظة التالية: يبدو أن الوحدة العربية والإسلاموية ترتبطان بعلاقة عكسية: عندما ترتفع إحداهما تنحدر الأخرى، وعندما تهيمن إحداهما تتهمش الأخرى. يمكن القول إن هذه العلاقة تعود إلى أوائل القرن العشرين، قبل الحرب العالمية الأولى. فوفقا لكارين دويشا، كانت الهوية الإسلامية أقوى بكثير بين العرب من المفهوم الجديد والهامشي للأمة العربية.

تم عكس هذه العلاقة فقط بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا في بداية الخمسينيات؛ حيث تغلبت القومية العربية على الإسلاموية؛ إذ تم النظر إلى القومية العربية على أنها مرتبطة -على نحو واقعي- في الأقاليم المحلية واللغة والتاريخ والتجربة أكثر من الأمة المجردة والمشتتة. و"اختفت" الإسلاموية تقريبا من مسرح العلاقات الدولية، بينما تصاعدت القومية العربية ووصلت إلى ذروتها في الستينيات في ظل قيادة ناصر ومشاريع الجمهورية العربية المتحدة. شهد تراجع العروبة بعد عام 1967 عودة ظهور الإسلاموية وبدأ التوازن العكسي في التبلور. ولتفسير هذه العلاقة المذهلة، يجب على المرء أن يفهم ما الذي يربط بين القومية العربية والإسلاموية. وبالتالي، الانتباه إلى أصلهما المشترك؛ هذا الأصل موجود في رفض القوة الاستعمارية الأوروبية التي توجد في صميم ظهور الحركتين وانتشارهما.

أما بالنسبة للإسلاموية، فقد وصف جمال الدين الأفغاني أحد أيديولوجياته المبكّرة "الإمبريالية الأوروبية" بأنها تجربة مشتركة بين المسلمين، وسعى إلى تعبئة المشاعر المعادية للاستعمار حول شعور متجدد بوعي الأمة. وبالمثل، كان حسن البنا الذي أسس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 يهتم بالتغريب الثقافي للعالم الإسلامي وفقدان التقاليد الإسلامية. وفقا لآرشین أدیب مقدم: "ليس من المبالغة للغاية" تعميم ذلك على الإسلاميين الحداثيين من عبده إلى الخميني وسيد قطب وأبو الأعلى المودودي وحسن البنا ومحمد إقبال؛ كان الإسلام بالنسبة لهم هو الحل للانحدار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي للأمة مقارنة بالغرب. بالنسبة لراينهارد شولتسه، حتى مفهوم الدولة الإسلامية هو رد فعل على الدولة القومية الغربية، وبالنسبة للكثير من المؤلفين، فإن الإسلاموية هي أيضا استجابة لظهور الصهيونية التي تعتبر مشروعا غربيا.

جمال الدين الأفغاني (مواقع التواصل)
جمال الدين الأفغاني (مواقع التواصل)

ويمكن إجراء التحليل نفسه تماما على القومية العربية التي ترى نفسها أيضا وسيلة لدحر الهيمنة الغربية في المنطقة. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الحدث "التأسيسي" للوحدة العربية: تأميم عبد الناصر لقناة السويس في عام 1956، وهو عمل استهدف بشكل مباشر القوى الأوروبية الاستعمارية السابقة، وتلاه مظاهرات عربية ضخمة مناهضة للغرب أعقبتها مظاهرات في ليبيا والمغرب والأردن وسوريا ولبنان والعراق والكويت وقطر والبحرين واليمن. ومن الواضح إذن أن كلا الحركتين تبرزان من نفس مصفوفة الهوية المعادية للغرب. بعبارة أخرى، لا يقتصر دورها على الحركات القائمة على الهوية فحسب، بل إنها قامت ببناء هذه الهوية ضد "الآخر" نفسه: الغرب. وبالتالي، فإنهما تتشاركان بالضرورة الخصائص الأساسية: فهما لديهما الهدف نفسه -حيث ينظر إليهما على أنهما المصدر الشرعي لتعريف الهويات الجماعية- وهو ما يعني ضمنا القتال من أجل شيء واحد: "الأصالة"، أو كما وصفته داويشا "المكان في قلب العرب" وجمهور واحد. كلتاهما استجابت للانشغال المجتمعي نفسه -المتشكل في القلق من التراجع والانحدار والحاجة إلى استعادة صورة ذاتية إيجابية- ومحاولة تقديم إجابات عن الأسئلة نفسها والتحدي المتمثل في الحداثة التي يهيمن عليها الغرب. وبالتالي، فإن نجاحاتهما أو إخفاقاتهما تخضع للمعايير نفسها لأنهما قادرتان على الوفاء بالوعود نفسها. يبدو أن هذا الإطار يستطيع فقط تفسير وشرح العلاقة العكسية الموضحة أعلاه. مثلا، يمكن للمرء أن يضع بعضا من أكثر الوعود الحاسمة من حيث تأثيرها على مصير الأيديولوجيتين، ومن هذه الوعود تحرير فلسطين وتحقيق مساواة اقتصادية أفضل.

نبع ظهور الإسلاموية مجددا من إخفاق القومية العربية في تحرير فلسطين عام 1967، بعد حرب يونيو/حزيران الخاسرة ضد إسرائيل. في هذه اللحظة، تفوز الإسلاموية بالمعركة الأيديولوجية حول القضية نفسها التي خسرتها بعد الحرب العالمية الثانية: القدرة على تمثيل قوة معادية للغرب ذات مصداقية؛ منتقدة القومية العربية لكونها مجرد تقليد للمؤسسات الأوروبية، فقد تمكنت بعد ذلك من تنصيب نفسها نهجا أصيلا لا مثيل له للتخلص من النفوذ الغربي. يمكن طرح برهان مماثل في مجال الاقتصاد السياسي: عندما أثبتت القوى القومية العربية في سبعينيات القرن الماضي -التي واجهت الأزمة الاقتصادية- أنها غير قادرة على الوفاء بوعدها الاشتراكي بالمساواة الاقتصادية، فقد برزت الإسلاموية كبديل، واقتُرح نموذج إسلامي جديد للعدالة الاجتماعية الاقتصادية.

قد يكون من المغري أن نستنتج من هذا النظام الظاهر لـِ"الأواني المستطرقة"** أن العروبة والإسلاموية هما في الحقيقة جانبان للظاهرة نفسها أو "وجهان لعملة واحدة"، وهذه الظاهرة هي رفض هيمنة الغرب. على الرغم من أن الحركتين هما تعبيران مختلفان عن الرأي المعادي للغرب، فإن وضعهما ضمن هذا الإطار فقط سيكون غير مُرضٍ. إن مثل هذا النموذج سوف يغفل تماما المحتوى الفعلي والدوافع الفكرية الداخلية لكلتا الأيديولوجيتين؛ العناصر التي لها أهمية كبيرة سواء من حيث علاقتهما مع بعضهما البعض أو من حيث تأثيرهما على العلاقات الدولية الإقليمية والعالمية.

أدوات أيديولوجية متباينة

بعبارة أخرى، كلتاهما رد فعل للغرب، لكن ردود الفعل هذه هي في حد ذاتها مختلفة جوهريا. في الواقع، هما لا ترفضان العناصر نفسها في الهيمنة الغربية. إنهما لا تقاتلان الغرب على المستوى نفسه، وبطريقة ما إنهما لا تعارضان ذات الغرب. فبينما تحارب القومية العربية قوة عسكرية وسياسية، تحارب الإسلاموية نفوذا وتأثيرا أيديولوجيًّا. لقد كانت لحظة الانتقال لعام 1967 مفيدة في هذا الصدد؛ عندما انتقد الإسلاميون فشل الدول القومية العربية في إلحاق الهزيمة بإسرائيل، لم يخاطب هذا الانتقاد عدم كفاءة القومية العربية أو حتى عدم صلة المشروع القومي العربي الذي يقع في قلب الهجوم، بل بالأحرى ما يسمى "الإفلاس الأخلاقي" للدول القومية العلمانية المبنية على النموذج الغربي. إن اعتبار هذا الانتقاد موقفا انتهازيا بحتا يمليه صراع على السلطة سيكون لا شك بأنه ينطوي على مغالطة ويقلل من مصداقية هذا الانتقاد. في الواقع، تبدو هذه النظرة الإسلامية متجذرة في العقيدة الأصلية للحركة والتي رغم أنها لم تكن تدعو إلى المواجهة في لحظة تشكيلها وأصبحت متطرفة مع مرور الوقت (لا سيما نتيجة لصراعاتها مع القومية العربية وما تضمنته من القمع الوحشي في بعض الأحيان).

كما يفسرها جون إسبوسيتو: "بالنسبة إلى قطب -كما هو بالنسبة للبنا والمودودي- فإن الغرب هو العدو التاريخي والمترسخ للإسلام والمجتمعات الإسلامية، سواء كان تهديدا سياسيا أو دينيا. وتكمن خطورة الغرب الواضحة في سيطرته على النخب المسلمة التي تحكم وتوجه بالمعايير الغريبة عنها". نتيجة لذلك، لم يكن انتقاد الإسلاموية مرتبطا بالشكوى ضد الأنظمة القومية العربية فحسب، بل قدّم بشكل أساسي إدانة أخلاقية للنظريات السياسية في مرحلة ما بعد عصر التنوير. وبالفعل، فإن هذا المفهوم القومي العربي كونه نتاج الأيديولوجيات الغربية له ما يبرره. استعار مؤسس الفكر القومي العربي ساطع الحصري من كتابات المدرسة القومية الألمانية في العصر الرومانسي، وتم تأطير ولادة المشاعر القومية العربية في شروط وودرو ويلسون، كنضال من أجل "تقرير المصير".

يمكن العثور على مظاهر مهمة لهذه الفجوة الأيديولوجية في سياسات التعليم القومية؛ في الدول القومية الجديدة في مرحلة ما بعد الاستقلال، يتم تعزيز التعليم العلماني بقوة، كما هو واضح في مصر حيث يتوسع تعداد المدارس بمقدار 800,000 في السنوات المحيطة بعام 1952. يبدو أن الانقسام الأيديولوجي الأساسي يتشكل هنا: إنه يعني ضمنا أنه على الرغم من أن الإسلاميين والقوميين العرب يكافحون الغرب على حد سواء، فإن كليهما لا يقودان المعركة ذاتها.

من جهة، كما يقول هيدلي بول: "كانت [القومية العربية] تعاني من آلام لاستيعاب الأعراف والقيم الغربية بينما تستخدمها لمحاربة الغرب كقوة سياسية وعسكرية ولكن ليس كحضارة. بهذا المعنى، تحتضن القومية العربية الأفكار الغربية". اعتماد القوميين العرب للخطاب التحرري الوطني والالتزام بالاشتراكية وتعزيز الأشكال الأوروبية للدولة يوضح تماما وجهة نظر بول. من ناحية أخرى، تقدم الإسلاموية نفسها على أنها رفض للأفكار الغربية (وهو ما وصفه سيد قطب بقوله: "هذه الفردية التي تفتقر إلى الشعور بالتكافل، تلك الحرية الحيوانية التي تسمى التسامح")، كما تدعو الإسلاموية إلى بناء نظام سياسي بديل قائم على القيم الإسلامية. في كثير من النواحي، تعتبر الإسلاموية السلاح الأيديولوجي "للحداثة الإسلامية" الموجه ضد الغرب. لم تمتلك القومية العربية سلاحا كهذا ولا تسعى لامتلاك واحد.

وبالتالي، فإن وجهة النظر التي تعرّف القومية العربية والإسلاموية -بغض النظر عن محتواهاا الأيديولوجي- على أنهما ظاهرتان أساسيتان لنفس ديناميكية مكافحة الهيمنة غير صحيحة. مثل هذا التعريف سيكون بمنزلة نهج اجتماعي وظيفي بشكل مفرط، والذي من شأنه تمزيق الأفكار عن الأيديولوجيات بطريقة ما. من الناحية المفاهيمية، من شأن ذلك التعريف أن يرتكب المغالطة التي يحذر ديكارت منها في خطابه حول الأسلوب: الخلط بين الأصل (في هذه الحالة، رد الفعل على التغلغل الغربي للشرق الأوسط) والأساس (المتمثل في رد الفعل هذا).

في تناول المسألة عما إذا كانت "القومية العربية والإسلاموية وجهان لعملة واحدة"، بدأ هذا المقال بتقييم الموقف المعارض، أي الشخص الذي يرى أن هذه الأيديولوجيات هما شيئان مختلفان تماما ويرتبطان ببعضهما فقط مواجهة بعضهما البعض. تم العثور على مجموعة متنوعة من التفاعلات والصلات بين هاتين الأيديولوجيتين، تم إبطال هذا الإدعاء. ثم تم برهنة نموذج موحد وأصل مشترك لهاتين الأيديولوجيتين ولكن تبين أنه غير كاف للمضي في الاتفاق مع الدوافع التي تمت مناقشتها. بعبارة أخرى، توصل هذا المقال إلى استنتاج مفاده أن القومية العربية والإسلاموية -المتشابكتان بشكل وثيق مع أصولهما- تنبثقان من مصفوفة الهوية نفسها المعادية للغرب، لكن فحوى ووسائل ومعاني هذا الرفض تختلف اختلافا جوهريا.

وعموما، تدور الإجابة عن هذه المقالة حول قضية علاقة هذه الحركات بالغرب التي تربط هاتين الأيديولوجيتين ببعضهما البعض وتميزهما عن بعضهما البعض. وبهذا المعنى، فإن التشبيه بالعملة قد لا يكون غير دقيق في نهاية الأمر. إذا كان الأمر أكثر من مجرد "وجهين" لشيء واحد، فهو يصف شيئين مختلفين تم اختلاقهما من المادة نفسها وموجّهين نحو اتجاهات مختلفة جذريا، وقد يشكل في الواقع صورة عادلة تماما لعلاقات الإسلاموية والعروبة.

——————————————–

ترجمة (آلاء أبو رميلة)

هذا التقرير مترجم عن: E-International Relations ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : مواقع إلكترونية

إعلان