كيف سقطت النخبة السياسية المصرية في امتحان التحول الديمقراطي؟
لكل من الرأيين أدلته المتعددة وقدرته التفسيرية لبعض جوانب المشهد الانتقالي، لكن ثمة حلقة مفقودة هي التي تعطي للتفسيرين تماسكهما واتساقهما المنطقي، وهذا ما نريد توضيحه في تحليل مواقف النخبة السياسية المصرية تحديدا في مرحلة التحول الديمقراطي التي أعقبت سقوط نظام مبارك.
في نهايات حقبة الرئيس المخلوع حسني مبارك تمكنت النخبة السياسية المصرية بكافة أطيافها الفكرية من بلورة موقف معارض مشترك، تأسس هذا الموقف على الإجماع أن نظام مبارك يمثل العدو الرئيسي للحياة السياسية والنظام الديمقراطي المنشود، وأنه بمجرد إسقاط هذا النظام سينفتح الأفق السياسي والمجال العام، وتصبح الحياة الديمقراطية ممكنة. بصورة ما استطاعت النخب السياسية في تلك المرحلة أن تقدم بعض الأجوبة -ربما بصورة تلفيقية كما اتضح هذا لاحقا- على أسئلة ما بعد نظام مبارك، وهو الأمر الذي لعب دوراً هاماً في قيادة دفة التغيير (2).
تجلَّت ذروة هذا الموقف الموحد للنخبة المعارضة المصرية من خلال إشهار الجمعية الوطنية للتغيير التي تزعمها السياسي الليبرالي محمد البرادعي في 2010، وشاركت في إشهارها مختلف التيارات الفكرية المصرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والتي نادت بإنهاء حالة الطوارئ وتعديل الدستور ليسمح بتوسيع المشاركة في العملية الانتخابية والرقابة القضائية عليها.
كان هذا الإجماع الذي حققته النخبة السياسية في أواخر عهد مبارك خطوة ضرورية للوصول إلى مشهد الثورة المصرية في يناير 2011، حيث بدا حينها أن النخبة السياسية تمتلك مشروعا قادرا على أن ينجز متطلبات الانتقال الديمقراطي في البلاد لما بعد مرحلة مبارك (2).
من الممكن التأريخ لهذا التشظّي عند أول متطلّب من متطلّبات التحوُّل الديمقراطي واجهته النخبة المصرية بعد سقوط مبارك؛ كان هذا في استفتاء تعديل الدستور في مارس 2011، حيث اختار التيار الإسلامي التصويت بنعم للتعديلات الدستورية، بينما كان خيار القوى العلمانية هو رفض التعديلات الدستورية والذهاب إلى وضع دستور جديد، وبمرور الزمن ومع توالي الأحداث ازدادت الهوة بين القوى السياسية وأصبح الاستقطاب في الحياة السياسية قائما على ثنائية إسلامي وعلماني بدل الثنائية السابقة التي كانت قائمة بين الثورة والثورة المضادة(3).
بدا واضحا أن الإجماع الذي تشكل على أساس معارضة نظام مبارك قد زال بزوال نظام مبارك نفسه، وأن النخبة السياسية لم تكن تملك في واقع الأمر تصورا مشتركا لإدارة التحول الديمقراطي وإنجاز متطلبات المرحلة الانتقالية، ففشلت في التوصل إلى تسوية بخصوص قضايا مفصلية لا يمكن تصور قيام نظام ديمقراطي دون تحقيق إجماع حولها.
إذا ما استعرنا من الفيلسوف الألماني "كارل شميت" تعريفه للسياسة بأنها "قبل كل شيء القدرة على استكشاف العدو"، حيث ترتكز السياسة في نظر "شميت" على التمييز الصارم بين الصديق والعدو، ومن هذا التمييز تتبلور الممارسة السياسية التي هي في نظره كفاح دائم ومستمر بين الأصدقاء والأعداء (4).
إذا ما استعرنا مفهومه السابق للسياسة فإننا سنجد أن الخطيئة الأولى التي اقترفتها النخب السياسية تمثلت في أنها لم تميز بين العدو والصديق بعد سقوط نظام مبارك، وقد أدى هذا اللاتمييز إلى سلسلة من الممارسات والمواقف السياسية غير الناضجة -في مرحلة حساسة للغاية- أفضت في نهاية المطاف إلى عودة النظام القديم وقوى الثورة المضادة إلى السلطة مجدداً.
لقد كانت الكارثة حسب تعبير الدكتور عزمي بشارة "في نشوء حالة من الاستقطاب في المجتمع خلال هذه الفترة الانتقالية العصيبة بين العلمانية كنمط حياة لا كأيديولوجيا وبين الحركات الإسلامية السياسية، حتى تحول الأمر إلى شكلٍ من سياسات الهوية"(5). فما حدث لم يكن تعددا سياسيا يجري في داخل نظام ديمقراطي راسخ، وإنما حالة استقطاب وانشطار مجتمعية في ظل غياب لسقف يجري التنافس تحته. والنتيجة هي أن الأطراف المتناقضة لم تتورع عن اللجوء إلى الاصطفاف مع الجيش أو مع النظام القديم في غمرة التنافس والخلاف بينهم.
بعد هذا العرض لمواقف النخب السياسية المصرية، يمكن القول إن هذه النخب كانت قد اتخذت مواقفاً متصلبة ومتشددة حيال بعضها البعض، بينما أبدت تسامحاً وتصالحاً أمام قوى النظام القديم، حدث هذا بفعل حالة الاستقطاب الإسلامي والعلماني التي طغت على المشهد السياسي المصري في المرحلة الانتقالية، وبسبب غياب التمييز بين العدو والصديق الذي رافق حالة الاستقطاب هذه، فكانت النتيجة عودة النظام القديم إلى مواقعه في السلطة والتي كان قد خسرها بفضل ثورة يناير.