السينما تحتج على ذاتها
كما كانت الأفلام وسيلة لنقل وقائع الثورات وتأريخا لأحداثها؛ فإن الأفلام أصبحت -وعبر مراحل مختلفة في التاريخ- وسيلة للثورة على السينما ذاتها؛ مما أثرى صناعة السينما بعدد من المدارس والاتجاهات التي خلقت أبعاداً مختلفة للسينما لم تعرفها من قبل.
في ربيع عام 1995 أصدر المخرجان لارس فون ترايير وتوماس فنتربيرغ -إلى جوار مجموعة من المخرجين الدنماركيين- بياناً رسمياً يعلن عن انطلاق جماعتهم التي سمّوها "دوغما 95" دعت إلى مواجهة السينما التجارية عبر وسائل محددة.
فيما أثّر مقال نشره الناقد الفرنسي فرانسوا تروفو في صياغة الأفكار الرئيسة لدى الموجة الفرنسية الجديدة؛ قبل أن يتحول فرانسوا نفسه إلى أحد أهم مخرجيها. عدا بعض النصوص التي رافقت نشأة "السينما نوفو" في البرازيل؛ بالإضافة لبيان تأسيس "السينما الثالثة" في الأرجنتين التي رفضت كلًّا من سينما هوليوود وسينما المؤلف في أوروبا؛ داعية إلى سينما تعبّر عن الثقافة المحلية وتدعم عملية التحرر الوطني من الاستعمار الجديد.
وفي مصر تأسست جماعة "السينما الجديدة" أواخر الستينيات والتي دعت إلى دعم حرية المخرجين المصريين الذين يسعون إلى تقديم أشكال جديدة من السينما تتحرر من سلطة المنتجين وسطوة النجوم. وكلها مدارس سينمائية متمردة على السينما وهيمنة تيارات ثقافية بعينها، ودعمت الصورة كثورة.
لاشك أن تاريخ السينما أنتج تيارات سينمائية يمكن تسميتها بالواقعية، أو الواقعيّة الجديدة، أو السينما المباشرة أو سينما الحقيقة وغيرها؛ لكن نعت سينما معينة بأنها واقعية لا يعفينا من التساؤل عن مسألة العلاقة بين الصورة والواقع، أو الصورة والحقيقة.
يصعب على الصورة السينمائيّة أن تعيد إنتاج الواقع بشكل موضوعي؛ رغم أن ذلك كان ممكناً في بعض الحالات؛ لكن بمجرد أن نقول إنها "صورة" فهي تحولت إلى وعي لمخرج تلك "الصورة". وهو يحدد مسارها وإيقاعها بما يراه مناسباً من وجهة نظره. ومن المفهوم أن الفيلم بوصفه تفكيراً إبداعياً بالصورة فإنه يستدعي دوماً قراءة ما. فتحرّك المعنى في الفيلم بين الصور والأصوات المكونة له لا ينفي تحديد ذلك المعنى من قبل المتفرّج على هذا الفيلم وعبر السياق الثقافي الذي يشتغل فيه وعيه. (*)
فعندما عُرض فيلم "الرسالة" للمخرج السوري الراحل مصطفى العقاد في الولايات المتحدة الأمريكية؛ قام متظاهرون باحتلال عدد من البنايات من ضمنها بناية شهيرة لليهود في العاصمة واشنطن واحتجزوا 149 رهينة، احتجاجاً على ما سموه تشويه صورة الإسلام. وفي فرنسا وبعد عرض فيلم "خارجون عن القانون" للمخرج الجزائري رشيد بوشارب تظاهر نحو ألف من الفرنسيين أمام بوابات مهرجان "كان" من أجل منع عرض الفيلم بحجة تشويهه لصورة فرنسا.
تجسّد السينما اختياراً وإرادة من قبل المشتغلين فيها؛ من أجل إعادة صياغة عناصر الواقع على شكل صور وأصوات تحكي عن موضوع ما. وإدراك صناع الأفلام لهذا زاد من قدرتهم على تدشين تيارات سينمائية مختلفة عما هو سائد بهدف إعادة السينما لمسار التأثير الإيجابي الذي تحمله في داخلها.
كانت هذه التظاهرات السينمائية، بالإضافة إلى غيرها، رافعة للنهوض بقيمة العمل السينمائي كفن إنساني؛ بل وانعكس عملها على أرض الواقع في علاقة تبادلية بين السبب والنتيجة؛ فالواقع الذي يؤثر على طريقة السينما في تناولها للقضايا الاجتماعية نراه في جانب آخر متأثراً بما تقدمه السينما من معالجات. وهو أحد أدوار الفن الرئيسة؛ أن يطرح الأسئلة.