العمال ينتعشون والتوازنات تتبدل في انتخابات بريطانيا

LONDON, ENGLAND - JUNE 09: Labour Leader Jeremy Corbyn arrives at Labour Headquarters on June 9, 2017 in London, England. After a snap election was called by Prime Minister Theresa May the United Kingdom went to the polls yesterday. The closely fought election has failed to return a clear overall majority winner and a hung parliament has been declared. (Photo by Chris J Ratcliffe/Getty Images)

انتعاش الحزب العمالي
غطرسة وخلط أوراق 

ابتسامات عريضة تعلو وجه جيرمي كوربن تختصر نتيجة الانتخابات البرلمانية البريطانية، تقابلها كلمات أسف تخللت إطلالة الستينية الجريحة تيريزا ماي رغم بقاء حزبها المحافظ في الصدارة.

كانت جولة اقتراع غير تقليدية في منعطف تاريخي تشهده بريطانيا، وما زال المنعطف في بدايته حيث تنتظر البلاد مواسم شاقة تحت قيادة المحافظين الذين عليهم الخروج ببلادهم سريعاً من الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن إدارة ملفات أمنية حرجة في الداخل الذي شهد هجمات دامية في الأسابيع الأخيرة.

انتعاش الحزب العمالي
يعيش العمال -منذ ظهور النتائج- انتعاشاً افتقدوه منذ عهد طويل، فقيادة كوربن نجحت على ما يبدو في استعادة ثقة شرائح عمالية وأوساط شابة. لقد تقلّص الفارق مع حزب المحافظين إلى 57 مقعداً، بينما لا تتعدى فجوة الأصوات بين الحزبين 2.5% فقط، فقد حصد العماليون 40% من الأصوات مقابل أكثر من 42% للمحافظين.

وإذ يثير عدم تناسب فارق الأصوات وتوزيع المقاعد البرلمانية تساؤلات بشأن كفاءة النظام الانتخابي البريطاني، فإنّ النتيجة تبقى واضحة، وهي تقدم كبير للعمال بزيادة 29 مقعداً وتراجع المحافظين بواقع 12 مقعداً.

ومن كان يتصور أن تصدر مع نتائج كهذه إشادة بقيادة كوربن عن جاك سترو وزير الخارجية الأسبق وأحد أقطاب اليمين في حزب العمال، والذي شارك توني بلير سنة 2003 في قيادة الحملة العسكرية على العراق التي عارضها تيار كوربن العمالي.

انتصر كوربن في هذه الانتخابات المبكرة مرتين، الأولى بالقفزة الواسعة التي أحرزها حزبه بعد أن ظلت قيادته موضع تشكيك من يمين الحزب ووسائل الإعلام، والثانية أنّ فوزه جاء محسوباً دون التورط في تشكيل حكومة ستحتمل أعباء عملية الفكاك من أوروبا التي لم يدعمها الحزب أساساً.

بهذا يستهل العمال مرحلة مريحة تضعهم في خندق المعارضة باقتدار وثقة، في مواجهة حكومة أقلية ستواجه المحافظين خلالها اختبارات شاقة تحت قيادة امرأة باتت جدارتها بالمنصب موضع شك.

ولهذه الجولة الانتخابية أبعادها الأوروبية؛ فالفارق الزمني بين ظهور النتائج وانطلاق مفاوضات الانفصال البريطاني عن أوروبا الموحدة لا يتعدى أياماً عشرة.

انتصر كوربن في هذه الانتخابات المبكرة مرتين، الأولى بالقفزة الواسعة التي أحرزها حزبه بعد أن ظلت قيادته موضع تشكيك من يمين الحزب ووسائل الإعلام، والثانية أنّ فوزه جاء محسوباً دون التورط في تشكيل حكومة ستحتمل أعباء عملية الفكاك من أوروبا التي لم يدعمها الحزب أساساً

سيكون على ماي -التي تجرّعت مرارة التدهور السياسي- أن تقود مفاوضات عسيرة لإنجاز الانفصال الجراحي خلال أقل من سنتين. أما أولوية اللحظة السياسية للبريطانيين والأوروبيين معاً فهي سرعة تشكيل، الحكومة حتى تكون جاهزة للتفاوض في غضون أيام.

ليست أوروبا محظوظة بالنتائج الواردة من لندن، فصناديق الاقتراع عطّلت فرصة تشكيل حكومة أغلبية محافظة، وبهذا سيكون شريك الحوار البريطاني مع أوروبا ضعيفاً في ساحته السياسية بما يطيل أمد المداولات في لندن، ويفتح الباب لمزايدات وتراشقات بين الأطراف البريطانية، وربما لهزّات مفاجئة قد تعصف بحزب المحافطين أو بالحكومة أو برئيستها تحديداً.

ومع هذه النتائج تتزايد الشكوك في بروكسيل بشأن قدرة لندن على الوفاء بالبرنامج الزمني لترتيبات "البريكسيت". وفي أوروبا أيضاً تبدو رسالة الناخبين البريطانيين واضحة، وهي أنهم منحوا قسطاً من ثقتهم لحزب العمال بعد أن برز جناحه اليساري المتهم بعدم الانسجام مع تقاليد الطبقة السياسية.

لهذا صلة ما محتملة بخيارات صاعدة لدى الناخبين في دول عدة، يتراجع فيها منسوب الثقافة في الطبقة السياسية التقليدية، على نحو سمح بصعود ماكرون للرئاسة الفرنسية مثلاً، وأبرز ألواناً جديدة من أحزاب اليسار غير التقليدي، مثل "بوديموس" في إسبانيا و"سيريزا" في اليونان، علاوة على ما يكافئ ذلك من تشكيلات أقصى اليمين التي انتعشت عبر أوروبا في السنوات الأخيرة.

ولم تكن آمال الأطياف اليسارية في أوروبا معلّقة على ناصية كوربن كما هي اليوم. فالرجل الزاهد والمتواضع برهن على أنه ليس عابراً في القيادة السياسية، فقد أبحر باقتدار بين أمواج تعالت من حوله منذ صعوده المفاجئ إلى قيادة العمال قبل سنتين، ولم يتوقع كثيرون صموده وسط العواصف.

اجتاز كوربن محاولات الإطاحة به من جيوب ومراكز قوى داخل الحزب، ولم تفتك به الحملات الإعلامية المضادة، أما استخفاف تيريزا ماي به خلال الحملة الانتخابية ورفضها الظهور في مناظرات معه؛ فقد كبّدها خسائر ملحوظة على ما يبدو.

غطرسة وخلط أوراق
راهنت ماي على التصرف بشيء من الغطرسة في مواجهة أوروبا في الخارج وإزاء خصومها العماليين في الداخل، بيد أنّ الجمهور البريطاني لم يدرك فيها نموذج المرأة الحديدية الذي جسدته مارغريت تاتشر من قبل، كما يبدو من نتائج التصويت التي هوت برصيد حزبها، وانتهت بتعليقات ناقدة وشامتة تصدرت الصحف.

ثمة مآخذ عدة على قيادة ماي، من قبيل النقد الذي وجهه كوربن لها -بعد اعتداءات مانشستر ولندن- بمسؤوليتها عن عدم تفريغ آلاف من عناصر الشرطة عندما كانت وزيرة للداخلية.

براغماتية ماي سمحت لها بالتنصل من تعهدات بالاستقالة، أو بتمكين كوربن من تشكيل الحكومة إن لم تحرز الأغلبية. وعلى الأرجح فإنّ هذه الإشارة الأخيرة تحديداً كانت موجهة لتحفيز الناخبين المحافظين، لأجل حشد أصواتهم لصالح حزبها كي لا يأتيهم زعيم عمالي

لكنّ براغماتية ماي سمحت لها بالتنصل من تعهدات بالاستقالة، أو بتمكين كوربن من تشكيل الحكومة إن لم تحرز الأغلبية. وعلى الأرجح فإنّ هذه الإشارة الأخيرة تحديداً كانت موجهة لتحفيز الناخبين المحافظين، لأجل حشد أصواتهم لصالح حزبها كي لا يأتيهم زعيم عمالي.

تكرر من قيادة المحافظين الخطأ ذاته بالإقدام على استعمال متسرع لصناديق الاقتراع. فقد قررت تيريزا ماي قبل شهرين التوجه إلى انتخابات مبكرة على أمل استثمار شعبية الحزب، واستغلال ضعف حظوظ العمال وقتها وحزب استقلال المملكة المتحدة أيضاً؛ من أجل تعزيز قوة الحكومة قبل التوجه إلى مفاوضات "البريكست" مع أوروبا، فجاءت النتيجة معاكسة لتوقعاتها ومخيبة لآمال أوروبا كذلك.

جاء ذلك بعد قرار آخر غير محسوب اتخذه سلفها رئيس الوزراء ديفد كاميرون الذي أعلن فجأة التوجه إلى استفتاء شعبي على البقاء في الاتحاد الأوروبي، فقضت نتيجة الاستفتاء -قبل سنة من الآن- بالفكاك القسري من أوروبا تحت تأثير فارق ترجيحي ضئيل.

أعادت الجولة الانتخابية الجديدة خلط الأوراق، فقد اضمحلّ حزب استقلال المملكة المتحدة الذي بدا وكأنه أنجز مهمته بتنصل بريطانيا من الأسرة الأوروبية، خاصة بعد خروج نايجل فاراج من رئاسة الحزب، فتدهور حزب أقصى اليمين من المركز الثالث بمقياس الأصوات إلى الهامش وخسر مقعده الوحيد.

وكان المحافظون يأملون أساساً اقتطاع نصيب سخي من الأصوات التي قررت الانصراف عن هذا الحزب، لكنّ العمال اقتطعوا نصيباً وافراً من هذا المخزون الانتخابي خاصة في شمال إنجلترا. ولم يبق لحزب الاستقلال هذا سوى أن يأمل عودة زعيمه الشعبوي إليه مجدداً، على أمل استئناف مسيرته السياسية بعد استقالة خلفه باول نوتال تحت وطأة الهزيمة الانتخابية المريرة.

ومن أسكتلندا جاءت إشارة مهمة بتراجع الحزب القومي الأسكتلندي الذي خسر أكثر من ثلث مقاعده لصالح المحافظين والعمال، مما أعطى انطباعات بأنّ الأسكتلنديين ليسوا متحمسين للانفصال عن بريطانيا في ظلال عملية انفصال بريطانيا ذاتها عن الاتحاد الأوروبي.

كشفت النتائج عن تململ الناخبين الأسكتلنديين على ما يبدو من أداء الحزب القومي الذي ينشغل بقضية أساسية هي الاستقلال عن بريطانيا، على حساب شواغل اقتصادية واجتماعية متعددة تمس واقعهم المباشر، علاوة على إشارات ترهل في أداء الحزب وثقة زائدة بالنفس أسفرت عن ضموره الانتخابي هذا.

كشفت النتائج عن تململ الناخبين الأسكتلنديين على ما يبدو من أداء الحزب القومي الذي ينشغل بقضية أساسية هي الاستقلال عن بريطانيا، على حساب شواغل اقتصادية واجتماعية متعددة تمس واقعهم المباشر

لكنّ المفارقة الجديدة هي أنّ التقدم الطفيف الذي أحرزه الحزب الديمقراطي الوحدوي -وهو البيت السياسي لليمين البروتستانتي في إيرلندا الشمالية- سيمنحه وزناً غير مسبوق في الساحة السياسية.

فمع توجّه حكومة الأقلية المحافظة إلى الاعتماد على مساندة هذا الحزب في مجلس العموم؛ سيضغط هذا التطور غير المسبوق على تماسك الحالة في إيرلندا الشمالية، وقد ينفخ روحاً في ضغائن كامنة تحت السطح، علاوة على ما سيثيره هذا الحزب من جدل في لندن على خلفية مواقفه المحافظة في الملفات الاجتماعية مثل الإجهاض وغيرها.

وبعد أن فاجأت تيريزا ماي البريطانيين في أبريل/نيسان الماضي بالتوجه إلى جولة انتخابية مبكرة؛ ها هي تحصد خيبة الرجاء وسيتعيّن عليها بالتالي أن تحمل أعباء مضاعفة في مرحلة "البريكسيت".

لقد منحت ماي بتسرّعها انتصاراً لخصمها العمالي الذي يتطلع الآن إلى إنجاز نوعي في جولة الاقتراع المقبلة، بعد أن يجتاز المحافظون منعطف المفاوضات مع أوروبا الذي لن يكون نزهة ممتعة لهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.