تبييض الاستيطان وتصفية الضفة في عهد ترمب

FILE PHOTO: A Palestinian man rides a donkey near the Israeli settlement of Maale Edumim, in the occupied West Bank, December 28, 2016. REUTERS/Baz Ratner/File photo
 
صادق الكنيست الإسرائيلي مساء الإثنين، على مشروع قانون ينص على شرعنة الوحدات الاستيطانية المقامة على أراض خاصة بمواطنين فلسطينيين في الضفة الغربية، وعدم جواز إزالتها أو هدمها.

ويقود القرار إلى تسوية الوضع القانوني غير الشرعي لقرابة 4 آلاف وحدة سكنية شيدها مستوطنون على أراض يملكها فلسطينيون، وتتوزع هذه الوحدات على 53 بؤرة استيطانية، وتغطي مساحة 8 آلاف دونم من الملكية الخاصة لفلسطينيين في الضفة الغربية وشرقي القدس.

تشريع السرقة
وإن كانت المستوطنات بمجملها مخالفة للقانون الدولي؛ إذ تعد عملية نقل السكان إلى الأراضي المحتلة جريمة حرب وفق ميثاق روما، إلاّ أن إسرائيل دأبت على التمييز بين المستوطنات التي شيّدت برعاية حكومية، وبين البؤر العشوائية التي شيدها مستوطنون على أراض تم الاستيلاء عليها من فلسطينيين يحملون وثائق تثبت ملكيتهم.

يقود قانون تبييض الاستيطان إلى تسوية الوضع القانوني غير الشرعي لقرابة 4 آلاف وحدة سكنية شيدها مستوطنون على أراض يملكها فلسطينيون، وتتوزع هذه الوحدات على 53 بؤرة استيطانية، وتغطي مساحة 8 آلاف دونم من الملكية الخاصة للفلسطينيين

لكن القانون الجديد يلغي هذا التمييز، ويفتح الباب حرفيا أمام نهب المزيد من الأراضي؛ إذ يحمي الأفراد والمؤسسات التي تلجأ إلى ذلك من أي تبعات قانونية، علاوة على حماية المنازل التي أقيمت على أرض مسروقة ومنع إزالتها أو هدمها، كما يحرم الفلسطينيين من تقديم التماسات أمام المحكمة العليا للمطالبة بإزالة بيوت أقيمت على أراض خاصة بهم، ويحصر قرارات المحكمة بخيارين لا ثالث لهما: إما التعويض المالي أو منح أراض بديلة.

ويعد القانون ضربة للقضاء الإسرائيلي وانتهاكا لمبدأ حكم القانون، إذ يُلغي بأثر رجعي أية أحكام أصدرتها المحكمة العليا بإخلاء وحدات استيطانية، ويجعل الكلمة الفصل للجهاز التشريعي والتنفيذي وليس للقضاء.

وقد برز في الأعوام الأخيرة جدل البؤر غير الشرعية بقوة في أطروحات اليمين واليمين المتطرف اللذين يدعمان تسوية الوضع القانوني للمستوطنين غير الشرعيين، تمهيدا لمخططات ضم الضفة الغربية وتوحيد شطري القدس، وإرضاء لخزانهم الانتخابي من المستوطنين الآخذ بالتمدد والتمادي بالتطرف.

وفي أعقاب إقرار المحكمة العليا إخلاء عدد من هذه البؤر، تم صياغة مشروع تبييض المستوطنات (قانون التسوية حسب التسمية الإسرائيلية) الذي صادق عليه الكنيست بالقراءة الأولى مطلع ديسمبر/كانون أول الماضي. وقد سرّعت مشاهد إخلاء مستوطنة "عمونا" مطلع فبراير/شباط الجاري من إصرار شركاء نتنياهو بالائتلاف الحكومي في حزب "البيت اليهودي" المتطرف، على دفع القرار نحو التصويت النهائي رغم محاولات التأجيل.

وفي "عمونا" صدّرت إسرائيل مشاهد درامية للعالم، بتمثيل دور دولة القانون التي تخرج مواطنيها من منازلهم بالقوة لتمنحها للفلسطينيين، بينما هي تتحضر للمعركة الأهم بالانقضاض على مساحات أوسع وأكثر حيوية من أراضي الضفة والقدس.

مباركة من ترمب
حرص نتنياهو على ألا يمضي قدما بالقرار دون التشاور مع الإدارة الأميركية الجديدة، فعكف خلال اليومين الماضيين على تأجيل المصادقة على "قرار التسوية" إلى ما بعد لقائه المزمع مع ترمب في 15 فبراير/شباط الجاري، إلا أن المتحدث باسمه أخبر وكالة الأنباء الفرنسية بأنه لم يعد هناك داع للتأجيل، وذلك بعد تواصل نتنياهو مع الإدارة الأميركية ووضعها في صورة القرار.

يلغي القانون الجديد التمييز الذي دأبت إسرائيل عليه بين المستوطنات التي شيّدت برعاية حكومية، وبين البؤر العشوائية التي شيدها مستوطنون على أراض تم الاستيلاء عليها من فلسطينيين يحملون وثائق تثبت ملكيتهم، ويفتح الباب أمام نهب المزيد من الأراضي؛ إذ يحمي الأفراد والمؤسسات التي تلجأ إلى ذلك

الضوء الأميركي الأخضر لقرار يشرعن نهب الأراضي، ويُلغي أحكام القضاء، ويكرس تغول سلطة احتلال فوق المحاكم، علاوة على كونه "غير دستوري" وفق النائب العام الإسرائيلي ومخالف للقانون الدولي، لا يعني سوى تدشين صاخب لفصل جديد من العلاقات الأميركية الإسرائيلية كان متوقعا منذ تنصيب ترمب.

ويأتي ذلك ليصب في صالح الآراء التي رأت في إعلان البيت الأبيض أن "الاستيطان لا يشكل عقبة أمام السلام"، مزيدا من التأكيد على مواقف ترمب التي أعلنها خلال حملته الانتخابية، وليس نكوصا عنها. وقد لا تعتبر المستوطنات عقبة أمام السلام في نظر ترمب وفريقه؛ حيث لا يشغل حل الدولتين مكانة مركزية في مفهومهم للسلام، وهذا ما انعكس في تصريحات ترمب التي أكد فيها أنه لن يدفع تل أبيب للتفاوض على حل الدولتين.

إضافة إلى كون الرجل قد سمى زوج ابنته جاريد كوشنر مشرفا على عملية السلام، وهو الذي ينحدر من أسرة يهودية معروفة بدعم المستوطنات، إلى جانب مرشحه لمنصب السفير في تل أبيب ديفيد فريدمان، المعروف هو الآخر بدعمه للاستيطان ودفاعه عن "حق" إسرائيل بضم الضفة وشرقي القدس.

ومن المتوقع أن تنظر المحكمة الإسرائيلية العليا في القانون، وقد تلجأ إلى إحباطه، إلا أن نجاح اليمين الإسرائيلي بإقراره بأغلبية 60 صوتا مقابل 52 داخل الكنيست، وإعطاء الولايات المتحدة ضوءا أخضر لتمريره يشي بطبيعة العلاقة الجديدة بين اليمين الإسرائيلي المتطرف وإدارة ترمب.

مستقبل قاتم
تدرك إسرائيل اليوم أنها في لحظة فارقة تمكنها من الذهاب بعيدا في عنجهيتها إلى حد تشريع قانون غير دستوري يحمي الاستيطان ويشجع نهب الأراضي، بعد شهر ونيف من قرار مجلس الأمن (رقم 2334) الذي يجرم الاستيطان ويدعو لوقفه.

وعلى الأرض أعلنت عن ترخيص ستة آلاف وحدة استيطانية جديدة خلال أسبوعين من تنصيب ترمب، ويبدو أن تل أبيب تسارع الزمن نحو خطة اليمين الرامية إلى ضم الضفة الغربية عبر مسار هادئ وحثيث، مما جعلها تنقل رغبتها للرئيس ترمب بتأجيل خطة نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فيما يبدو أنها محاولة لإعطاء الفرصة لخطوات أهم وأكثر جوهرية، لن يقابلها الجمهور الفلسطيني والعربي بنفس الصخب والاهتمام.

ويتجلى مسار اليمين الإسرائيلي في ثلاثة أبعاد هي: التشييد المحموم للوحدات الاستيطانية منذ عام 2009، وحماية البؤر غير الشرعية وتسوية وضعها القانوني عبر القرار الجديد، ومن ثم التحضير عبر قرارات مماثلة لضم التجمعات الاستيطانية الكبرى إلى إسرائيل (مثل معاليه أدوميم)، مما سيعني فصلا تاما لشمال الضفة عن جنوبها، وتشييعا نهائيا لحل الدولتين، وربما التمهيد لإعادة احتلال الضفة الغربية وشرقي القدس.

إعطاء إدارة ترمب الضوء الأخضر لقرار جدلي وشاذ مثل قرار تبيض المستوطنات، بالتزامن مع وضع إقليمي ودولي رخو، ينذر بسعي تل أبيب إلى خلق غطاء أميركي لتصفية القضية الفلسطينية نهائيا، وفق مواصفات اليمين واليمين الإسرائيلي المتطرف

ويبدو الظرف الدولي والإقليمي مواتيا للخوض في هذا المسار الذي يعكس العقيدة السياسية لليكود، والتي أسفر عنها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إلى جانب حاجة نتنياهو للحفاظ على ائتلافه الحكومي مع اليمين المتطرف، ورغبته بالتغطية على تداعيات قضايا الفساد المرفوعة ضده.

على الصعيد الإقليمي لا تجد إسرائيل مواجهة تذكر لخططها، بعد أن تم تحييد الأخطار التي هددتها إبان موجة "الربيع العربي" بعد أن ضمنت نظاما تابعا في مصر، وساحة مستباحة في سوريا، وإشغالا للمقاومة اللبنانية في المستنقع السوري. كما حيّدت تركيا بعد اتفاق إعادة تطبيع العلاقات، وأعطت أنقرة أكثر من إشارة على تبدل في خطابها تجاه الشأن الفلسطيني.

وتتركز الأنظار عربيا على مواجهة الخطر الإيراني وجعله المعيار في رسم مسار التعاطي مع الإدارة الأميركية، إذ انعكست تحذيرات ترمب شديدة اللهجة لطهران على شكل احتفاء عربي بسياسته الخارجية، وقد يأتي هذا الاحتفاء على حساب تطوير آليات لمواجهة سياسته المدمّرة للقضية الفلسطينية.

ولا يبدو الأمر بأحسن حالا فيما يتعلق بأوروبا، أكثر الأطراف الدولية تمسّكا بحماية حل الدولتين، إذ يمر اللاعب الأوروبي بأكثر أيامه انكفاء على الداخل، على وقع سلسلة من التحديات أبرزها مستقبل الوحدة الأوروبية بعد مسار الانفصال الصعب للمملكة المتحدة (هارد بريكست)، وغزو موجة اليمين الشعبوي للقارة وتهديده بالوصول إلى دوائر صنع القرار في كل من باريس وبرلين.

إعطاء إدارة ترمب الضوء الأخضر لقرار جدلي وشاذ مثل قرار تبيض المستوطنات، بالتزامن مع وضع إقليمي ودولي رخو، ينذر بسعي تل أبيب إلى خلق غطاء أميركي لتصفية القضية الفلسطينية نهائيا، وفق مواصفات اليمين واليمين الإسرائيلي المتطرف، في وقت تتراجع فيه القضية الفلسطينية إلى ذيل قائمة الاهتمام العربي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.