ماذا تعني مطالبة موسكو بنظام دولي ما بعد غربي؟

epa04095752 The United Nations Security Council votes on a resolution to boost humanitarian aid access in Syria, at United Nations headquarters in New York, New York, USA, 22 February 2014. The UN Security Council unanimously passed a resolution demanding humanitarian access and ending violence against civilians in Syria. EPA/PETER FOLEY

جرأة مستجدة
الاستدارة الأميركية
هواجس أوروبية

أطلق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف دعوته -في مؤتمر ميونيخ للأمن- التي نادى فيها بنظام دولي جديد، وأن يكون تحديداً نظاماً ما بعد غربي.

وما جاء به لافروف في خطاب ميونيخ يحاكي عناوين تتصدر دوريات رصينة في العواصم الغربية، منذ أن وقع انتخاب دونالد ترمب لرئاسة الولايات المتحدة، علاوة على أنّ مضامين خطابه تلتقي موضوعياً بدرجة ما مع بعض مقولات سيد البيت الأبيض الجديد. إنها حالة غير مسبوقة تقريباً، وترقى لأن تشبه الأحجية في عيون الأوروبيين الذين يفتقدون اليقين بشأن الوجهة الأميركية الجديدة.

جرأة مستجدة
تتّسم دعوة المسؤول الروسي بقدر من الجرأة، إذ تبدو تعبيراً واضحاً عن ثقة موسكو بدورها الجديد في صياغة توازنات أممية تكون للدول الغربية حظوة أقل فيها.

أعادت روسيا تموضعها في السنوات الأخيرة بروح المبادرة والإقدام، بعد عهد مديد تآكل فيه نفوذها حتى في مجالها الحيوي المباشر، وخسرت مواقع متقدمة في جوارها الذي التحق بعضه بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما فقدت امتيازات تمتعت بها في البحر المتوسط

ولم يأت هذا من فراغ؛ فقد أعادت روسيا تموضعها في السنوات الأخيرة بروح المبادرة والإقدام، بعد عهد مديد تآكل فيه نفوذها حتى في مجالها الحيوي المباشر، وخسرت مواقع متقدمة في جوارها الذي التحق بعضه بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما فقدت امتيازات تمتعت بها في البحر المتوسط؛ كما تجلّى في حالة ليبيا ما بعد معمر القذافي مثلاً.

وقد جاء تصريح لافروف في توقيت حساس للنظام الدولي، يوافق لحظة تحوّل أميركية حافلة بالغموض والمفاجآت.

فما تحدث به وزير الخارجية الروسي كان سيبدو دعاية مستهلكة لو نطق به في مؤتمر ميونيخ المنعقد قبل سنة واحدة فقط، لكنّ بزوغ عهد ترمب عزّز مخاوف عميقة في النطاق الغربي ككل، ورسم أسئلة وجودية تتعلق بالمنظومة الأطلسية وخريطة التحالفات الدولية؛ وحتى العولمة ذاتها التي بات مستقبلها موضع شكّ بعد أن عدّها بعضهم من ملامح نهاية التاريخ.

وفي خطاب لافروف مطالبة واضحة بأن ينكمش نفوذ "الغرب" لصالح قوى جديدة تتصدرها روسيا عملياً، ولا يبتعد هذا عن هواجس تتأجج في أوروبا تحديداً بشأن مصير "الغرب" ذاته؛ وليس النظام الدولي فقط.

فعواصم أوروبا منشغلة منذ أسابيع بسبل الحفاظ على التكتل الغربي، وهي تبحث خياراتها الإستراتيجية البديلة في وجه مفاجآت غامضة قد يدفع بها عهد ترمب الذي لم يقع تجريبه عملياً بعد.

لقد تضعضعت صورة الغرب المتماسك تحت وطأة شكوك بشأن جاهزيته لخوض المرحلة المقبلة، ولهذا أبعاد عسكرية واقتصادية وسياسية، كما تمتدّ الخسائر إلى المكانة المعنوية والمعنى الرمزي للغرب بصفته "مجموعة قيمية"، حسب خطاب التمجيد الذاتي التقليدي، فأي قيم تحديداً يمكن التفاخر بها تحت قيادة غربية يتقدمها دونالد ترمب مثلاً؟

الاستدارة الأميركية
لقد حضرت روسياً مؤتمر ميونيخ الأمني هذه المرة مكللة بتاج الوقار، بعد سنوات ثلاث تلازمت خلالها مشاركتها في أعماله مع إثارة الجدل بسبب سياسة المبادرة والتوسع التي انتهجتها.

في غمرة الإزاحات الميدانية والتحولات السياسية وخلط الأوراق على جبهات عدّة يكون لدى موسكو ما تعنيه من دعوتها لإعادة تشكيل النظام الدولي، ومن ذلك ضرورة فتح صفحة جديدة في مجالات متعددة، بما في ذلك الإقلاع عن مساعٍ غربية لمحاصرة روسيا والضغط عليها

وما كان لهذا التحوّل الانطباعي النسبي أن يقع لولا انتقال القيادة الأميركية من دبلوماسية باراك أوباما الرصينة إلى حملات ترمب المفتوحة ضد العالم، والمتلازمة مع نبرته التصالحية مع روسيا تحديداً. ولم يعد "بوتين الشرير" من يشغل الأغلفة الأوروبية، بعد أن استحوذ على هذه المكانة المفزعة رئيس الولايات المتحدة الجديد.

لكنّ حساسية الموقف الأوروبي لا تقتصر على غموض ترمب ومفاجآته التي يصعب الجزم بها، فمشروع الوحدة الأوروبية ذاته دخل طور التآكل وانقشعت عنه هالته منذ قررت بريطانيا الفكاك منه، وثمة استحقاقات انتخابية وشيكة في فرنسا وإيطاليا وبولندا قد تأتي بمفاجآت لها ما بعدها في عواصم أوروبية كبرى.

أما موسكو فتبدو الآن شريكاً بديلاً محتملاً لبعض عواصم وسط أوروبا وشرقها، كما ظهر مؤخراً في التقارب الروسي المجري الذي حمل رسالة لاذعة إلى الشركاء الأوروبيين بأنّ انتقاداتهم لنهج القيادة السياسية في بودابست لا يمكن أن يبقى بلا ثمن.

وفي غمرة الإزاحات الميدانية والتحولات السياسية وخلط الأوراق على جبهات عدّة يكون لدى موسكو ما تعنيه من دعوتها لإعادة تشكيل النظام الدولي، ومن ذلك ضرورة فتح صفحة جديدة في مجالات متعددة، بما في ذلك الإقلاع عن مساعٍ غربية لمحاصرة روسيا والضغط عليها، علاوة على أنها رسالة من موسكو بأهمية الاعتراف بدورها الصاعد في عالم متعدد الأقطاب مثلاً.

والمفارقة في هذا المشهد أنّ تطلعات روسيا قد تنسجم نسبياً مع احتمال أن تميل الإدارة الأميركية إلى نهج الانكفاء على الذات، والتراجع عن دور شرطي العالم الذي كان يسارع إلى التدخلات الميدانية التي لم تعد الولايات المتحدة قادرة على احتمال كلفتها، خلافاً لموسكو التي اتخذت من سوريا حلبة استعراض للقوة على مرأى من العالم ومسمع.

هواجس أوروبية
قد تكون دعوات روسية -من قبيل ما قاله لافروف على منصة ميونيخ- مسعى للتعبير عن تحوّلات تجري في الواقع. وهي على أي حال ليست تصريحات منطلقة من فراغ، بل تتفاعل مع معضلات قائمة وحالات عجز يرى بعضهم أنّ النظام الدولي الراهن مسؤول عنها، كما يتضح في ملف اللاجئين وحرائق العالم العربي.

وتنتصب حالة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مثلاً هاجساً متضخماً في وعي المجتمع الدولي، كما عبّر عن ذلك المتحدثون في مؤتمر ميونيخ، وما يقال أحياناً من أنّ "مارد الإرهاب" قد لا يكون سوى نتاج سياسات باشرتها أطراف دولية، تحت لافتة الحرب العالمية على الإرهاب.

عمد لافروف في ميونيخ إلى رشّ الملح على جرح مفتوح في لحظة يفيق فيها الأوروبيون على هواجس انحسار المنظومة الدفاعية الأطلسية، وعلى احتمال إعادة رسم علاقة واشنطن بموسكو. ولعلّ بعض المسؤولين الأوروبيين قد فهموا المغزى المقصود، بضرورة التسليم بأنّ الزمن قد تغيّر بما يستدعي مقاربة جديدة تعترف بموسكو ودورها المركزي، وتنأى عن مساعي الضغط عليها.

إنّ الأوروبيين هم المعنيون برسالة لافروف في المقام الأول، طالما أنها ليست موجّهة لاستفزاز إدارة ترمب، فالحديث التعميمي عن "الغرب" اختير بعناية على ما يبدو لتحاشي نقد الدور الأميركي مباشرة، رغم أنّ واشنطن هي التي تقود المنظومة الغربية.

ثم إنّ أوروبا هي التي توافقت على سياسة متماسكة للضغط على موسكو، بعد أن اندفعت الأخيرة باتجاه أوكرانيا، بينما لا تبدو إدارة ترمب متحمسة لمسار العقوبات هذا. وما يعزز هذا الانطباع أنّ أوساطاً في مؤتمر ميونيخ تحدثت عن إشارات إيجابية صدرت من لافروف نحو ترمب، خلال مباحثات ولقاءات دارت خلف أبواب موصدة.

وقد تحدث الوزير الروسي في خطابه بنبرة منفتحة نحو الولايات المتحدة، بدعوته لتقوية العلاقات الروسية الأميركية وإبداء الجاهزية لذلك، وعرضه تطوير علاقة "براغماتية" مع واشنطن على أساس "الاحترام المتبادل والإقرار بمسؤولياتنا من أجل الاستقرار العالمي".

وهو ما يرسم لموسكو دور الحريص على إعادة رسم دورها في العالم، وإرساء علاقة تعاونية مع الولايات المتحدة في إدارة الوضع الدولي.

أشهر لافروف سيف النقد المباشر في ميونيخ في وجه المنظومة العسكرية الغربية، فحلف الأطلسي -كما قال هو- إحدى مؤسسات "الحرب الباردة"، ويبدو مثيراً أن هذا المضمون ينطوي على التقاء موضوعي في نقطة ما مع خطاب ترمب عن الحلف ذاته

يبقى من الواضح أنّ مناداة الوزير الروسي بنظام دولي "ما بعد غربي" لا تنفك عن دور حلف الأطلسي. فمعضلة موسكو واضحة في هذا الصدد لأنها عمدت إلى تفكيك حلف وارسو الاشتراكي في نهاية الحرب الباردة دون أن يحلّ الغربيون حلفهم.

بل توسّعوا به ليضم دولاً في وسط أوروبا وشرقها كانت من أعضاء الحلف الاشتراكي السابق، ثم انضوت دول البلطيق السوفياتية السابقة تحت المظلة العسكرية الغربية أيضاً بكل ما استثاره ذلك في موسكو من حنق.

وبعد أن تفاقمت المخاوف على تخوم روسيا الشمالية الغربية منذ أن قضم بوتين القرم سنة 2014؛ قرر حلف الأطلسي بعد سنتين نشر أربع كتائب في دول البلطيق وبولندا، لردع لروسيا وتهدئة مخاوف العواصم التي تستشعر وقوعها في مرمى التهديد الروسي.

وفي النهاية استأنفت هذه التطورات والحشود العسكرية بعض أجواء الحرب الباردة فوق التراب الأوروبي، وصعدت مخاوف القارّة من مخاطر اتساع النزاع القائم في شرق أوكرانيا على نحو يخرج عن سيطرة الأطراف.

تأسيساً على ذلك كله أشهر لافروف سيف النقد المباشر في ميونيخ في وجه المنظومة العسكرية الغربية، فحلف الأطلسي -كما قال هو- إحدى مؤسسات "الحرب الباردة"، ويبدو مثيراً أن هذا المضمون ينطوي على التقاء موضوعي في نقطة ما مع خطاب ترمب عن الحلف ذاته.

وعلى نحو متزامن تقريباً من كلمة لافروف في ميونيخ؛ تحدث ترمب لأنصاره في فلوريدا بشكل مسيء إلى أعضاء حلف "الناتو"، فقال إنهم لا يدفعون ما عليهم دفعه للحلف، رغم أنه أظهر تمسكه بالمنظومة الأطلسية التي اعتبرها -من قبل- متهالكة.

لا يتوقف الالتقاء الموضوعي الروسي/الأميركي عند هذا الحد، بل يأتي في الدعوة العامة إلى صياغات جديدة في الأدوار والالتزامات، عند ترمب، وفي إعادة تشكيل النظام الدولي، عند الإدارة الروسية. ولهذا الالتقاء الموضوعي تأثيرات ضاغطة ومضاعفة على الأوروبيين الذين يخامرهم الشك في فعالية النظام الأمني الجماعي الذي صُمِّم بعد الحرب الباردة، وتتعالى أصوات تنادي بإهالة التراب عليه.

في نهاية المطاف؛ ستبقى تصريحات لافروف مشبّعة بالرسائل والتأويلات التي تؤكد -في مجموعها- إرادة موسكو لترسيخ توازنات دولية جديدة، وانتزاع الاعتراف بدورها الدولي الصاعد مع أولوية الفكاك من العقوبات المسلطة عليها. وهي رسائل اختار الوزير الروسي توقيتها في غمرة مخاض دولي متسارع ومفتوح على مآلات ومفاجآت غير محسوبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.