التصحر الديمغرافي

التصحر الديمغرافي


عبد اللطيف الفراتي

 

-سياسة غير محسوبة

-التصحر السكاني

آثار التهرم

-نقطة اللاعودة

 

في ربيع سنة 1966 ألقى الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة خطابا كان له رنين غريب في الآذان, وبقدر ما أثار من معالم الدهشة أثار شيئا من الاستنكار والاستغراب.

 

فقد ركز ذلك الخطاب على موضوع جديد على الأسماع يتمثل في تأثير التزايد السريع للنسل على مستويات التنمية, ونسق التحسن أو قلة التحسن في مستوى المعيشة ونسبة النمو في دخل الفرد.

 

وكان بورقيبة بهذا الخطاب سباقا في مجال التنظيم العائلي وتحديد النسل على مستوى العالم العربي والأفريقي.

 

"
نجاح سياسة التنظيم العائلي بتونس على إيجابياته وصل لغايته وبدأ يعطي نتائج سلبية لم يقع التفطن إليها بعد أو على الأقل البدء بمعالجتها
"

سياسة غير محسوبة

وفي وقت كانت فيه الجزائر والمغرب ومصر وسوريا والعراق تتبع سياسات سكانية تعتمد زيادة النسل وتقوم على أن كل فم يأكل تقابله ذراعان تشتغلان, دشن الرئيس التونسي السابق سياسة التنظيم العائلي.

 

وجاءت هذه السياسة رديفا لتوجهاته بشأن تحرير المرأة ومساواتها بالرجل وتقنين الطلاق ومنع تعدد الزوجات وغيرها من السياسات التي أظهرته عالميا في صورة الرجل التقدمي في عالم عربي وأفريقي متسم بالرجعية وضعف المبادرة الاجتماعية.

 

وقد أعطت هذه السياسات السكانية أكلها خاصة في ظل تطور الرعاية الصحية التي نزلت بمستويات الوفيات إلى أدنى حدودها سواء بالنسبة للأطفال أو الرضع أو بالنسبة للكبار إلى الحد الذي بلغ فيه مؤمل الحياة عند الولادة أكثر من 73 سنة بعد أن كان في سنة 1956 لا يتجاوز 46 سنة.

 

وبينما كان عدد سكان تونس وسوريا متساويا في منتصف الستينيات، بلغ عدد السكان التونسيين هذا العام أقل من 10 ملايين في حين تجاوز السوريون 17 مليونا.

 

ووفقا لمقارنة إحصائية فإن عدد السكان المقيمين في تونس قد مر من 4.5 ملايين عام 1966 إلى 9.910 ملايين عام 2004 حسب التعداد الدوري للسكان, مما يبرز نجاح السياسة التي دشنها الرئيس التونسي السابق قبل حوالي 40 سنة, وهي سياسة مكنت من رفع مستوى الدخل الفردي في البلاد على قلة إمكانياتها بصورة أكبر من المسجل في أي بلد عربي آخر باستثناء الدول البترولية الخليجية.

 

غير أن هذه السياسة السكانية على إيجابياتها وصلت لغايتها وبدأت تعطي نتائج سلبية لم يقع التفطن إليها بعد أو على الأقل البدء بمعالجتها.

 

فكل عملة لها وجه وقفا, والسياسة السكانية المعتمدة في تونس منذ 40 سنة بدأت تظهر لها نواح سلبية لا ينبغي إغفالها وينبغي المبادرة بإصلاحها, وهو ما لا يبدو مطروحا من قبل السلطات العامة.

 

"
التناقص السكاني يهدد بما أسماه ديمغرافيون غير رسميين تصحرا سكانيا من حيث التهديد بتقلص عدد السكان وإقفار جهات بكاملها
"

التصحر السكاني

وبعد أن كان التزايد السكاني تحديا كبيرا قائما أمام السلطة والبلاد, ها هو التناقص السكاني يهدد بما أسماه ديمغرافيون غير رسميين "تصحرا سكانيا" من حيث التهديد بتقلص عدد السكان وإقفار جهات بكاملها, كما يهدد بما يسميه الديمغرافيون أيضا بـ"التهرم" السكاني أو"التشيخ" السكاني من حيث تقلص أفواج الأجيال الجديدة وتضخم أعداد كبار السن مقابل التناقص المتواصل لصغار السن مما يهدد التوازن الديمغرافي للبلاد بل ويهدد أيضا التوازنات المالية في ظل تضخم عدد كبار السن الذين يغادرون مجالات العمل ويتناولون مرتبات تقاعدية تثقل أكثر فأكثر كاهل الصناديق الاجتماعية للتأمينات.

 

في الفترة بين 1994 تاريخ التعداد قبل الأخير و2004 تاريخ آخر تعداد إحصائي كانت النسبة المتوسطة للتزايد السكاني في حدود 1.2% سنويا, وذلك بعد أن كانت في مستوى 2.35% كمعدل سنوي في العقد 1984/1994.

 

غير أن تلك النسبة المتوسطة تخفي اختلالا آخر فقد كانت أكبر في بداية الحقبة الأخيرة من القرن العشرين مما كانت عليه سنة 2004 حيث استقر التزايد السكاني في حدود 1.08% سنويا وهي نسبة لا تفوق إلا بقليل النسب المعروفة في بلدان مثل إيطاليا وتشيكيا والدول الإسكندينافية حيث لا تفوق نسبة النمو السكاني 0.9% مما يعني أن العدد الإجمالي للسكان هو بصدد التناقص.

 

وإذا أضفنا إلى هذا الرقم المفزع رقما آخر يسميه الديمغرافيون نسبة الخصوبة لدى المرأة (أي عدد الأولاد الذين ترزق بهم كمعدل في حياتها) وهو 1.9% فإننا ندرك أن البلاد التونسية مهددة بالوصول سريعا إلى مستوى الاستقرار السكاني قبل أن تبلغ سريعا بعد عقد ونصف أي في ظرف 15 سنة مستوى الانحدار السكاني أي مستوى يتناقص فيه عدد السكان بين سنة وأخرى.

ولعل أكبر دليل على ذلك أن نسبة الخصوبة عند المرأة التونسية حاليا هي بالضبط نفس النسبة الموجودة في فرنسا وأكثر بقليل من النسبة الحالية في إيطاليا, وهي دول تشكو من التقلص الديمغرافي وصولا إلى عدم تعويض السكان الراحلين.

 

وبينما كانت نسبة السكان الأقل من 15 سنة تساوي 34% من مجموع المقيمين في البلد في عام 1975 انحدرت النسبة إلى 26%، وكان الانحدار أكبر بين من هم بين سن الولادة والتاسعة من العمر.

 

والنتيجة أن المدارس الابتدائية أقفرت واضطرت السلطة لإغلاق العشرات منها, وهي ظاهرة أخذت تلمس التعليم الإعدادي في انتظار أن تصل بقوة لرواد التعليم الثانوي في حدود 2009 أو 2010.

 

وفي المقابل فإن نسبة السكان الذين يتجاوز سنهم 60 عاما قد مرت من 5% من مجموع المقيمين في البلاد عام 1975 إلى 9.3% سنة 2004.

 

وفي دراسة استشرافية تولت القيام بها مصالح وزارة التخطيط التونسية في سنة 2001 برزت أرقام اعتبرت مشجعة من حيث نسب النمو السكاني المتراجعة وفقا للسياسات الدافعة للتقليص الديمغرافي.

 

غير أن نتائج تعداد 2004 أظهرت أن نتائج تحديد النسل كانت أعمق مما كان متوقعا, وأن عدد السكان الذي كان يتوقع أن يفوق بقليل 10 ملايين بعد 2004  قد أصابه "التعب" ولم يتجاوز 9.910 ملايين.

 

وبالتالي ينبغي انتظار سنة أو سنتين لتجاوز عتبة عشرة الملايين مع تركيبة سكانية لا تبعث على الارتياح البتة وهي مصابة بالاختلالات نفسها التي نجدها في البلدان المتقدمة من حيث تقلص فئة الشباب والأطفال وتضخم فئة الشيوخ والهرمين.

 

وخلال سنوات قليلة مقبلة سيصل عدد الطلبة في التعليم العالي إلى أقصاه بحوالي 500 ألف طالب عام 2010, وسيبلغ الضغط على سوق العمل الأوج مما يهدد بتفاقم البطالة.

 

"
البلاد التونسية ستكون نقطة استقطاب لهجرة مقننة أو سرية لا يمكن لأي كان أن يقف أمامها خاصة في غياب حاجز بحري
"

آثار التهرم

ولكن أمام انحدار بدا واضحا في الفئات الصغرى التي تقل عن 15 سنة سريعا ما سنرى المرض نفسه أو مرض التقلص السكاني يصيب فئة طلبة التعليم العالي, مع ما يستتبع ذلك من احتمالات تراجع نسب البطالة بل والوصول إلى حالة من العجز عن الاستجابة لمتطلبات سوق العمل بما يؤدي إلى أحد احتمالين.

 

إما اختناق في مؤسسة التشغيل ونقص في اليد العاملة في إطار الكوادر العليا أو المتوسطة أو في اليد العاملة المؤهلة, وهو ما لا يعتبر صحيا بالنسبة لأداة الإنتاج.

 

وإما الاضطرار لتوريد يد عاملة ضرورية لتدوير عجلة الإنتاج بما يتبع ذلك من مشاكل إدماج, وحسن قبول من جهة السكان المواطنين الذين سيجابهون ابتداء من 2020 هذه الحالة بكل تعقيداتها المشاهدة اليوم سواء في أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا أو في دول الخليج العربي.

 

على أن ذلك ليس الخطر الوحيد الداهم والأهم الذي سيواجه تونس في آفاق 2020/2030 عندما يبلغ عدد السكان أقل من 12.5 مليون في عام 1929 (حسب الفرضية الدنيا للدراسة الاستشرافية), وهي دراسة ستجري عملية تحيينها على اعتبار أنها لم تعد منذ الآن مسايرة للواقع, بحيث تجري التوقعات الحالية على أساس أن العدد سيكون أقل من ذلك, وهو وضع غير ملائم من الناحية الإستراتيجية.

 

وإذا كانت أوروبا بالخصوص قد قام التصحر السكاني فيها باعتباره ظاهرة عامة ومنتشرة في كل الأصقاع, فإن الأمر ليس كذلك في المجال الجغرافي المحيط بتونس, فنسب التزايد السكاني تبقى عالية جدا سواء في مصر أو ليبيا أو الجزائر أو المغرب, وحدث ولا حرج عن الجارات الأفريقية الصحراوية, وإن كانت لا تجمعها حدود مشتركة مع تونس.

 

ولما كانت الطبيعة لا تقبل بالفراغ, فإن انخفاض عدد السكان, مع الارتفاع التدريجي في مستوى الدخل والمعيشة بتونس أكثر مما هو لدى الجارات العربيات أو الأفريقيات, فإن البلاد التونسية ستكون نقطة استقطاب لهجرة مقننة أو سرية لا يمكن لأي كان أن يقف أمامها خاصة في غياب حاجز بحري.

 

لذلك فقد ارتفعت أصوات عديدة بين المثقفين والديمغرافيين والإستراتيجيين وحتى كبار الكوادر في الوظيفة العمومية وفي السلطة للمناداة بتطوير السياسات السكانية وفق الواقع الجديد الذي فرضه نجاح منقطع النظير لسياسات تحديد النسل فاق التوقعات وتجاوز الأهداف المقررة بكثير, وألحق البلاد التونسية بأوروبا والبلدان الأكثر تطورا في العالم, في وقت لم تنضج فيه البلاد ولا جيرانها لتقبل مثل هذه الأحوال والتفاعل معها والاستفادة منها إن كانت لها فائدة.

 

ويعتقد الإستراتيجيون بالذات أن هذه التطورات التي جنت منها البلاد التونسية  فوائد كثيرة في وقت من الأوقات تمثلت خاصة في قسمة الكعكة على عدد أقل من الأفراد بحكم التحكم في التزايد السكاني, مما رفع مستوى معاش الفرد بنسق أسرع مما هو في كل البلدان المجاورة, باتت تهدد البلاد إستراتيجيا بأخطر العواقب.

 

"
سياسات تحديد النسل والتحكم في التطور الديمغرافي بدت وفقا لتجربة البلدان المتقدمة أسهل بكثير من العودة والاندفاع على طريق سياسات تشجيع زيادة النسل
"

نقطة اللاعودة

غير أنه ينبغي القول أن اعتماد سياسات تحديد النسل والتحكم في التطور الديمغرافي بدت وفقا لتجربة البلدان المتقدمة أسهل بكثير من العودة والاندفاع على طريق سياسات تشجيع زيادة النسل, على أساس أن الأسرة المتضررة وظروف الحياة والتعود على ثقافة المرأة العاملة وقلة الخدمات الاجتماعية للعناية بالرضع والأطفال كلها تعقد إلى حدود كبيرة احتمالات الاقتناع بزيادة عدد المواليد في الأسرة الواحدة.

 

وقد بات أقصى ما يقبل به الأزواج من أطفال لا يفوق اثنين بل ويكتفون في حالات كثيرة بطفل واحد وهو أمر لم ينتشر في المدن فقط بل حتى في الأرياف, وفي زمن شهد تأخر سن الزواج بسبب طول فترة الدراسة لدى الفتيات والفتيان كما شهد أيضا تفضيل حياة العزوبة بالنسبة للشبان والبنات.

 

وقد جاءت الأرقام مفزعة إذ إن 98% من البنات بين 15 و19 سنة غير متزوجات سنة 2004 مقابل 93% سنة 1984, كما أن 83% من الفتيات بين 20 و24 سنة غير متزوجات عام 2004 مقابل 59% سنة 1984 في حين أن 53% من الفتيات غير متزوجات في سن ما بين 25و29 سنة 2004 مقابل 24% عام 1984.

 

كما إن 28% من البنات غير متزوجات في سن ما بين 30و34 سنة في العام 2004 مقابل أقل من 10% سنة 1984, أما بين 35 و49 سنة وهي السن الأعلى للإنجاب حسبما هو متعارف عليه فإن نسبة العازبات تبلغ 31% سنة 2004 مقابل 7.5% سنة 1984.

 

وهذا يعني أن 35 إلى 40% من النساء في سن الإنجاب غير متزوجات بينما الزواج هو المؤسسة الوحيدة أو تكاد للإنجاب في تونس كما هي الحال في بقية العالم العربي والإسلامي بعكس ما نجده في أوروبا.

 

ويزداد من عام لآخر عدد الفتيات اللائي يؤخرن زواجهن لاستكمال الدراسة حتى يفوتهن قطار الزواج, أو يفضلن الاهتمام بالترقيات المهنية على أن يعرقلن ذلك بزوج أو أطفال مما يؤثر على نسبة الخصوبة في مستوى البلاد وينزل بمعدل عدد الأطفال للسيدات.

 

وهذه أصبحت تقاليد يصعب اليوم تغييرها في مجتمع تجاوز فيه عدد رائدات التعليم العالي عدد رواده, وبات اهتمام المرأة بمستقبلها الوظيفي  يسبق كل أمر آخر.

_________________

كاتب تونسي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.