الحصاد الاقتصادي لاستفتاء بريطانيا
عبد المنعم هيكل-الجزيرة نت
ولا غرابة في ذلك، لأن الخروج سيتم عبر مسار طويل ومعقد وليس من الوارد أن يتحقق قبل عام 2019، وهناك عناصر كثيرة لن يتسنى تقييمها إلا وفق الاتفاقيات التجارية والاقتصادية التي ستتمكن بريطانيا من إبرامها بعد الخروج.
غير أنه يمكن تحليل التداعيات الفورية التي وقعت، والتي كانت بوجه عام أهون مما توقعه كثير من المتشائمين.
كم يساوي الإسترليني؟
هبط الجنيه الإسترليني عقب الاستفتاء إلى أدنى مستوياته في 31 عاما، لكن بنظرة أكثر شمولا تراجعت قيمة العملة البريطانية من 1.47 دولار عشية الاستفتاء وظلت تتقلب بعد ذلك حتى وصلت إلى نحو 1.25 دولار بنهاية العام، أي أنها انخفضت بنحو 15%.
ومع انخفاض قيمة العملة المحلية تتسارع وتيرة تضخم الأسعار على المستهلك البريطاني، وهو ما يزيد الأعباء المعيشية في المدى القصير على الأقل.
من ناحية أخرى، قرر بنك إنجلترا (البنك المركزي) في أول اجتماع له عقب الاستفتاء خفض سعر الفائدة الرئيسي إلى 0.25%، وهو أول خفض منذ عام 2009 ويهدف إلى تخفيف آثار الخروج والحيلولة دون نقص السيولة في الاقتصاد، لكنه في الوقت نفسه يحمل أثرا جانبيا سلبيا لأنه يساهم في زيادة التضخم.
تباطؤ النمو الاقتصادي
أما في مسألة النمو الاقتصادي فإن معدل النمو البريطاني لم يتأثر بدرجة تذكر في عام 2016 حيث يقدر بنحو 2.1٪، لكن هيئة مسؤولية الميزانية البريطانية تتوقع تباطؤا شديدا في العام المقبل، إذ تشير تقديراتها إلى معدل 1.4٪ فقط.
ويرجع التباطؤ المنتظر إلى انخفاض الاستثمارات وضعف الطلب بسبب الغموض السائد وتسارع التضخم نتيجة تراجع الجنيه الإسترليني.
وفي جانب الموازنة، أعلن وزير المالية فيليب هاموند لدى عرض أول موازنة بعد الاستفتاء أن بريطانيا ستضطر لاستدانة 122 مليار جنيه إسترليني (152 مليار دولار) إضافية على مدى خمس سنوات بسبب النتائج المباشرة وغير المباشرة لقرار الخروج.
وفضلا عن ذلك، فقدت بريطانيا بسبب الاستفتاء تصنيفاتها الائتمانية الممتازة وشبه الممتازة لدى وكالات التصنيف العالمية الثلاث وأصبحت في درجة أقل.
البقاء داخل السوق
أما خارج بريطانيا فهناك موقف أوروبي حازم يصر على منع بريطانيا تماما من الاستفادة من السوق الأوروبية المشتركة ما دامت قد اختارت الخروج من الاتحاد وتقييد الحركة الأوروبية عبر حدودها.
وتبحث بريطانيا عن مخرج من هذا المأزق الخطير، وقد ألمحت إلى استعدادها لدفع رسوم سنوية للاتحاد مقابل السماح لها بالبقاء في السوق الأوروبية على غرار النموذج النرويجي.
وهذه قضية حاسمة يرى كثير من الشركات والبنوك والمستثمرين العالميين أنها ستقرر مصيرهم داخل بريطانيا، لكن البت في هذه المسألة مرهون بمفاوضات الخروج التي لم تبدأ بعد.
أهلا بالشركات والمستثمرين
وتحاول الحكومة البريطانية في هذا الجانب أن تغري تلك الجهات، وأن تطمئنها إلى جاذبية ومتانة البنية الأساسية للاستثمار التي تفتخر بها البلاد أيا كانت نتائج مفاوضات الخروج.
وقررت الحكومة البريطانية لأجل ذلك أن تخفض ضريبة الشركات من 20٪ إلى 17٪ بحلول عام 2020، لتصبح عند أقل مستوى بين دول مجموعة العشرين.
بل وذكرت الصحافة البريطانية أن الحكومة تفكر في خفض الضريبة إلى 15٪ كورقة تقوي موقفها إذا تشددت أوروبا تجاهها في المفاوضات.
الخريطة التجارية الجديدة
وفي موازاة هذه الخطط قامت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بجولات خارجية تهدف إلى رسم الخريطة التجارية الجديدة لبريطانيا.
فقد زارت الهند في نوفمبر/تشرين الثاني لإعادة استكشاف إمكانات التعاون الاقتصادي والتمهيد لعقد اتفاقية تجارة حرة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وقامت ماي بجولة في دول الخليج في ديسمبر/كانون الأول للغاية نفسها، شددت خلالها على أن منطقة الخليج هي ثاني أكبر سوق غير أوروبية للصادرات البريطانية، وألقت كلمة أمام القمة الخليجية في المنامة دعت فيها إلى تطوير هذه العلاقات.
بريطانيا والعالم العربي
أما عن تداعيات الاستفتاء البريطاني على الاقتصادات العربية فإن أغلب التحليلات تشير إلى تأثيرات محدودة حتى الآن، فالأنظمة المالية والمصرفية في أغلب البلدان العربية مرتبطة بالدولار بشكل رئيسي وليس باليورو أو الجنيه الإسترليني، وهو ما أكدته بنوك مركزية كبرى في العالم العربي عقب الاستفتاء البريطاني.
وفي ما يتعلق بالاستثمارات العربية في بريطانيا فإن الأثر الواضح هو خسارة مليارات من قيمة هذه الاستثمارات بسبب انخفاض الجنيه الإسترليني.
لكن في المستقبل ليس من المتوقع أن تتأثر الاستثمارات العربية بشدة بإجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي لأن جل هذه الاستثمارات في القطاعات العقارية والفندقية والتجزئة وليس في القطاعات الصناعية الحيوية شديدة التأثر بسياسات التجارة والجمارك والضرائب.
غير أنه في ملف العلاقات التجارية بين بريطانيا والدول العربية يمكن أن يكون لهذه الدول -إذا أرادت- دور مهم في تحديد طبيعة العلاقة ومدى استفادة كل طرف، وذلك في ضوء حاجة بريطانيا لاتفاقيات تجارية جديدة بعد الخروج من الاتحاد.