شعار قسم مدونات

ديننا وثقافتنا رسخا الرحمة بالضعفاء والعجزة

دار العجزة في مدينة مهاباد. وكالة صدا و سيما
إحدى دور العجزة (مواقع التواصل الاجتماعي)

في مادتي السابقة هنا تحدثت عن صورة نمطية للعجوز في الثقافة الغربية عموما تجعل منها في الوعي الباطن رمزا للأذى والسحر والجريمة والخبث، وهذا تلقائيا يؤسس قاعدة صلبة للعقوق وتبعاته الملحوظة على كبار السن في البلاد الغربية.

لكن الحالة عندنا ليست مثالية في هذا الشأن، كما أن أوضاع العجزة في حالات ليست قليلة عندنا بائسة ولا فضل لنا على الغرب، بل قد يكون الغرب بما يوفره لهؤلاء من ظروف معيشية رتبها لهم قانونيا عبر اقتطاع الضرائب من مدخولاتهم في أيام قدرتهم على العمل والإنتاج أفضل من حال هذه الفئة عندنا، هكذا يحاجج بعضهم.

وبعيدا عن الانفعال وإطلاق الأحكام السريعة سأسلط الضوء على جوانب ومحاور تتعلق بهذه المسألة في السطور التالية.

في الأحاديث النبوية الصحيحة كثير من الحض على بر الوالدين، والتحذير من العقوق، والتذكير بسوء عاقبة العاق عند الله تعالى

دين وثقافة يؤكدان على الرحمة بهم

الأهمية والعدل أن نشير إلى أن ديننا وثقافتنا أعطيا الإحسان والرحمة والعطف بالوالدين خاصة -ومن هم أسن عامة- أوامر لا تقبل التأويل، ففي سورة الإسراء {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}، هذا الأمر القرآني الواضح جعل الإحسان للوالدين أو أحدهما معطوفا على عبادة الله وحده لا شريك له، أي مقرونا بصلب العقيدة وأصلها التوحيد.

وفي الأحاديث النبوية الصحيحة كثير من الحض على بر الوالدين، والتحذير من العقوق، والتذكير بسوء عاقبة العاق عند الله تعالى.

وأيضا اقترن العقوق بالشرك، ففي الحديث الذي رواه البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الكبائر، فقال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور.

وقد روي الحديث من طرق أخرى وفي كتب أخرى غير البخاري، والعبرة أن العقوق ذنب عظيم مقترن بقبحه وبشاعته بالشرك، والعياذ بالله، فالأساس متين وصلب من هذه الناحية، ولا يقارن بما عليه الحال في الثقافة الغربية المتداولة منذ قرون.

وصلتنا قصة العاق "منازل" الذي دعا عليه أبوه وهو في بيت الله الحرام فأصيب بشلل نصفي بعدما لطم أباه

العاق منبوذ

وقد كان بر الوالدين وما زال صفة حميدة وميزة وخصلة محمودة يشار إليها وتذكر عند الحديث عن إنسان ما.

والعكس صحيح، فالإنسان العاق كان وما زال مرذولا وتتناقل أخباره الأجيال إلا إذا تاب من ذنب وخطيئة العقوق ونال مسامحة الأم أو الأب، ولذا وصلتنا قصة "علقمة" مع أن هناك من يراها لا تثبت ومن الموضوعات، ولكن تداولها وانتشارها دليل على أهمية البر ونبذ العقوق.

ووصلتنا قصة العاق "منازل" الذي دعا عليه أبوه وهو في بيت الله الحرام فأصيب بشلل نصفي بعدما لطم أباه.

وأي خبر من أخبار العقوق ينظر إليه من عموم الناس في مجتمعنا باستقذار ويصنف ضمن أحط الخصال التي يوصف بها المرء في ثقافتنا الاجتماعية، وقبلها بالطبع إسلامنا، كتابا وسنة وأخبار صحابة وتابعين وغيرها.

لدينا تعاليم وأوامر قرآنية ونبوية صارمة وواضحة وثقافة شعبية تؤطر وتهيئ كبير السن كي يأخذ حظا وافرا من الاحترام ويحظى برعاية مع وجود الأبناء والأحفاد حوله

طلب البركة

بل إن الناس عموما يطلبون بركة العجوز والمسن حتى بعد موته، ويرون أن حضوره ووجوده علامة للتوفيق والوقاية والحماية والحفظ من كيد الشيطان وآية لتيسير الرزق وغير ذلك.

لا أقول إننا في حالة مثالية في هذا الشأن، ولكن لدينا تعاليم وأوامر قرآنية ونبوية صارمة وواضحة وثقافة شعبية تؤطر وتهيئ كبير السن كي يأخذ حظا وافرا من الاحترام ويحظى برعاية مع وجود الأبناء والأحفاد حوله، حتى لو اضطرتهم ظروف الحياة للعيش بعيدا عنه، ولكنه يظل في وعيهم ومنظورهم الصدر الحنون، ويسعون إلى نيل رضاه وبركته.

بل لعلك تجد هذا البر أحيانا عند أناس لديهم تقصير في أداء شعائر الإسلام وأركانه، ولكنهم في ما يتعلق بهذه المسألة يبذلون جهدهم بكل تفان وإخلاص.

حالات العقوق تزداد مع مرور الوقت بالتزامن مع صمت عام ولو كان الناس ينكرونها ويحذرون من ازديادها، ولكنهم لا يقاطعون العاق ولا يضعون له حدا

غزو الثقافة الغربية

مع غزو الثقافة الغالبة عالميا -وهي هنا ثقافة غربية (أميركية وأوروبية)- لمجتمعاتنا وتغلغلها في نظام حياتنا رأينا حالات عقوق تقشعر لها الأبدان وحالة نسبية لسكوت مجتمعي عنها.

فالعقوق كان موجودا كحالة محدودة مرذولة منبوذة منكرة وشاذة عبر كل القرون الماضية، وكانت هناك حروب ضد تلك الحالات ولو كانت حربا صامتة، ولكن الغزو الثقافي الغربي قلل إلى حد ملحوظ من النظرة إليه كجريمة كبرى، خاصة من الناحية العملية.

وحالات العقوق تزداد مع مرور الوقت بالتزامن مع صمت عام ولو كان الناس ينكرونها ويحذرون من ازديادها، ولكنهم لا يقاطعون العاق ولا يضعون له حدا ولو من ناحية المقاطعة والنبذ الاجتماعي وهو سلاح متاح ما دام استخدام أدوات أخرى قد يعرضهم إلى مساءلة وضرر.

ومع ذلك فإننا -وبحمد الله وفضله- لم نصل -وبعون الله لن نصل- إلى ما آلت إليه أحوال كبار السن في بلاد الغرب، ولكن يجب علينا التنبيه وقرع جرس الإنذار.

ثمة عجزة ميسورو الحال اختاروا الذهاب إلى بيوت العجزة كي ينسجموا مع أقرانهم بعدما اضطرت الظروف أولادهم للعيش بعيدا عنهم، ليس عقوقا ولكن اضطرارا

بيوت العجزة ضرورية لحالات معينة

دوما تجد من يشن حربا كلامية، بل حتى تأخذ طابعا فنيا أحيانا تجاه بيوت العجزة، بإيحاء أو تلميح أو تصريح أنها يجب ألا تكون موجودة في بلاد العرب والمسلمين، والحقيقة أن تلك البيوت ضرورية لبعض الحالات.

وأقول إن ظروف عمل بعض الأبناء في زمن صار تحصيل الرزق وطلبه صعبا اضطرتهم للابتعاد عن مكان سكن الأب والأم، ويريدون رعايتهما والاطمئنان عليهما من قريب أو بعيد، فيجدون الحل في تلك الأماكن.

بل ثمة عجزة ميسورو الحال اختاروا الذهاب إلى هذه البيوت كي ينسجموا مع أقرانهم بعدما اضطرت الظروف أولادهم للعيش بعيدا عنهم، ليس عقوقا ولكن اضطرارا.

الاعتراض على بيوت العجزة هو مخافة أن تتحول إلى أساس وقاعدة وليس استثناء منضبطا ومكانا تلقائيا ينتظر كل عجوز أو مسن.

التمسك بالأسرة والحفاظ عليها وتطوير العلاقات داخلها وزيادة تحصينها أمور في غاية الضرورة، ومصير العجزة عندنا وأوضاعهم مرتبط بمدى اختراق حصون قلعة الأسرة

الحذر والانتباه

أدوات ووسائل تأثير الثقافة الغربية على مجتمعنا كثيرة ومتنوعة، ومنها ما هو ظاهر جلي، ومنها ما هو متستر خفي، وقلت في مقال سابق هنا قبل سنوات إن ثمة تهديدا لآخر قلاعنا الحصينة وهي الأسرة.

فالتمسك بالأسرة والحفاظ عليها وتطوير العلاقات داخلها وزيادة تحصينها أمور في غاية الضرورة، ومصير العجزة عندنا وأوضاعهم مرتبط بمدى اختراق حصون قلعة الأسرة.

وفي النهاية نقول: بحمد الله وتوفيقه وضع العجزة عندنا عموما أفضل بوضوح من نظيره في بلاد الغرب، أقله نفسيا ومعنويا واجتماعيا، ولكن يجب ألا نركن إلى ذلك، فثمة تراجع متزايد في هذا الأمر يحتاج التنبيه والتذكير والتحذير، ولعل سطوري من ضمن قرع جرس الإنذار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.