عندما يحل جنون الارتياب وثقافة القطيع محل العدالة.. قصة فيلم يستحق المشاهدة

the hunt movie 2013
النجم الدانماركي مادس ميكلسن الذي فاز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي تألق في دور لوكاس (مواقع التواصل)

أي جرأة تلك التي تحلى بها المخرج الدانماركي توماس فينتربيرغ وهو يسرد على مدى 115 دقيقة شيئا من جنون الارتياب، وثقافة القطيع، وغياب العدالة.

محنة تشبه "مثلث برمودا اجتماعيا"، ويمكنها ابتلاع سمعة إنسان في لمح البصر، حتى لو كانت بحجم "سفينة تايتانيك"، بسبب تهمة غير حقيقية بُنيت على كذبة صغيرة بريئة، من خلال فيلم "الصيد" (The Hunt)، كتحفة سينمائية دانماركية، وصفها الناقد السينمائي فيليب فرينش بأنها قصة مخيفة ومقنعة للغاية.

ففي الريف الدانماركي المحافظ، الذي أبدعت شارلوت بروس كريستنسن في تصويره، حيث الوقت أواخر الخريف، والظلام يقترب، وأوراق شجر تتساقط ورقائق ثلج تعبث بالهواء، يتجنب فينتربيرغ الغموض ويحتشد خلف بطله المُحَاصر لوكاس (مادس ميكلسن)، كرجل بسيط، يبلغ من العمر 40 عاما، كان يعيش مسالما وراضيا ويحظى بمحبة واحترام الجميع، ويتعامل برضا ومرح في وظيفته المؤقتة في حضانة صغيرة، رغم فقدانه وظيفة مناسبة سابقة، ويكافح للاحتفاظ بابنه بعد الطلاق، ويشعر بأن الأمور آخذة في التحسن بعد حب جديد ظهر في حياته.

لوكاس مدرس مُطلق في بلدة صغيرة بالدانمارك، وعضو فاعل ومشهور في مجتمع مترابط يرى إمكاناته الرجولية الواضحة، ويتصرف بينهم بثقة، خاصة في موسم صيد الغزلان السنوي.

وصادف لوكاس كثيرا الطفلة كلارا (أنيكا ويديركوب)، ابنة صديقه المُقرب ثيو (توماس بو لارس)، وتقف في الشارع بمفردها لتأخر والديها عن الحضور لاصطحابها، فكان يعاملها بلطف أبوي، ويمشي معها حتى يوصلها إلى منزل أسرتها، من دون أن يخطر بباله أنه سيصحو ذات يوم على كذبة منها تؤدي إلى تدمير حياته وسمعته.

فإثر حادثة مخجلة وصادمة تعرضت لها كلارا مع شقيقها الأكبر ورفيقته، شوشت أفكارها تجاه لوكاس إلى درجة جعلته يوبخها على سلوك خاطئ بدر منها، ليغريها خيالها الجامح بدافع من الحقد والإحساس بجرح المشاعر، أن تقوم بتلفيق اتهام شنيع تفجره في وجه مديرة الحضانة، مفاده أن لوكاس تحرش بها بشكل مباشر، كاشفا لها عن أجزاء حساسة من جسده، فتسارع المديرة لاستدعاء طبيب نفسي للأطفال، يطرح بدوره أسئلة إرشادية على الطفلة تؤجج أفكارها في اتجاه المزيد من توريط لوكاس، ثم يقرر هو الآخر أن يُبلغ الشرطة.

الكذبة البريئة

رغم أن كلارا كانت على وشك نسيان كذبتها في اللحظة التالية تقريبا، لكنها أخذت تنتشر وتنتشر في عالم البيروقراطية العتيدة، خاصة بعد اجتماع إدارة الحضانة مع والدي الطفلة، إيذانا بإطلاق ضربة البداية في معركة صفرية اتسعت فيها دائرة الاتهام ببطء، قبل أن تندفع بسرعة لتجرف لوكاس في سيل من الشك، حَوّل الاتهام إلى قناعة، وشكوك الضحية إلى جنون العظمة.

كما حَوّل الرجل اللطيف المحبوب الذي يفيض نُبلا إلى تهديد للمجتمع، وشخصية تحركها العزلة الغاضبة، بعد أن تم تهميشه، وبدأت المحلات رفض تقديم أي خدمة له، ودخل جزار في معركة معه، وأُطلق الرصاص على نافذته، وقُتل كلبه، ولم يتبق بجانبه سوى ابنه.

أصبح لوكاس منبوذا يواجه جنونا جماعيا يجعل الكل يحاربه، بعد أن صدقوا الحكاية باعتبار أن المدعية "طفلة من المستحيل أن تكذب"؛ مما دفعه إلى خوض حرب نفسية بمفرده لاستعادة كرامته، بلغت ذروتها في الكنيسة، في قداس ليلة عيد الميلاد، عندما واجه لوكاس المجتمع بأكمله وجعلهم يضطرون لمواجهة أنفسهم.

لعب فينتربيرغ بإبداع ومهارة وبلا خوف على اثنين من أهم جوانب هذا النوع من الاتهام؛ أولهما "حرص كل شخص في السلطة على إثبات أنه لا يلعب أي دور في أي محاولة للتهدئة، وأنهم لا يتجاهلون شهادة الصغار، حتى لو كانت ضد شخص بريء. وثانيهما "رغم أنه ليس هناك شك في أن لوكاس بريء، نرى كيف يمكن لأناس عقلاء أن يصلوا إلى لحظة لا رجوع فيها عن الهستيريا الجماعية، حيث يصبح المتهم فجأة من المحرمات، أو يكون ميكروبا ملوثا يجب قتله".

أما الصغيرة كلارا فبرغم أنها المخطئة، لكنها بريئة تماما، في مزيج مرعب قابل للاشتعال، بسبب مجتمع يتحد ضد فرد -رغم رفض السلطات توجيه الاتهام إليه للافتقار الشديد إلى الأدلة- بدعوى إزالة الشر، من دون أن يدركوا أنهم يرتكبون الشر بأنفسهم.

مع ملاحظة أن لوكاس لم يستعن بمحام، فشخص في هذه الحالة سيكون مذهولا جدا لدرجة أنه لا يفكر في محام، أو ربما يعتقد أن مثل هذا الإجراء سيكون بمثابة اعتراف بالذنب، واستسلام لواقع خاطئ وظالم.

أيضا بدا فينتربيرغ في نهاية المطاف كأنه يلفت الأنظار بشكل عابر إلى أن الوحيدين المذنبين بارتكاب إساءة المعاملة هنا هم الآباء الذين يسمحون لأطفالهم بالوصول إلى المواد الإباحية على الإنترنت، وفقا للناقد بيتر برادشو.

the hunt movie 2013
فيلم "الصيد" تحفة سينمائية دانماركية وصفت بأنها قصة مخيفة ومقنعة للغاية (مواقع التواصل)

عمل مؤثر

"الصيد" عمل درامي مؤثر عن مُعلم متهم ظلما بالإساءة للأطفال، وشارك فينتربيرغ في كتابته مع السيناريست الدانماركي توبياس ليندهولم، وأخرجه عام 2012، بوضوح وبراعة تجلت "في تقديمه فيلما دراميا تشويقيا، بغلاف فيلم رعب، من دون مساس بقوته المثالية ونضجه وذكائه"، وفقا للناقد بيتر برادشو.

وفي قلب العمل تألق النجم الدانماركي مادس ميكلسن الذي فاز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي عن دور لوكاس، بشكل يوحي بالعذاب المكبوت مع أدق الإيماءات، حتى وصفه الناقد فرينش بأنه "أحد أفضل الممثلين في السنوات الأخيرة، حيث لعب كل أنواع الأدوار، وأعطى كل شخصية حقها من دون أن يخرج عن الإطار".

أيضا كان هناك أداء قوي ومؤثر من أنيكا ويديركوب، في دور كلارا، تلك الفتاة الصغيرة التي ألقت بالجميع في عين العاصفة، أما التصوير فجاء مذهلا من قبل المصورة السينمائية الدانماركية المبدعة شارلوت بروس كريستنسن.

المصدر : الجزيرة