معجزة من صنع الإيمان.. ثبات ٌ إقدامٌ ويقين

في كل عام تحل فيه ذكرى استشهاد الشيخ أحمد ياسين (فجر يوم الإثنين غرة صفر الخير 1425هـ، الموافق 22 آذار/مارس 2004م)، تفيض سيول المواد الإعلامية التي تشيد بمناقبه وتستحضر نفحات من سيرته، وتحض على السير على نهجه، وتهرع عدة وسائل إعلامية إلى بيته لمقابلة أفراد عائلته، وأخرى لمقابلة رفاق دربه وجهاده من حركته أو من الحركات الأخرى ممن التقوه وعملوا معه أو اختلفوا أو اتفقوا معه.

 

ولكن هذا لا يعني فقط الوفاء للشيخ، واستلهام سيرته كي تكون بمثابة الوقود للسير في طريق الصبر والرباط والجهاد، بل أيضاً يستبطن الشعور بالفراغ الذي تركه، ولم يتم ملؤه بعد هذه السنين، وكان المعوّل على د. عبد العزيز الرنتيسي أن يقوم بهذه المهمة ولكنه ما لبث أن لحق بأستاذه، بعد أسابيع قليلة.

إعلان

 

الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي
مما يعرف عن الشيخ أحمد ياسين حكمته، وقدرة آتاه الله إياها على حل المشكلات، وينقل عنه أهله وجيرانه وغيرهم، كيف كانوا يلجؤون إليه طالبين رأيه فيما شجر بينهم، فيتمكن من تقديم حل مرض للجميع
إعلان

هذا كان عنوان أول كتاب أقرأ فيه عن سيرة الشيخ أحمد اسماعيل ياسين، أواخر ثمانينيات القرن العشرين، إبان جلسات محاكمته بتهمة تأسيس حركة حماس وإصدار فتوى بقتل بضعة عملاء لمخابرات الاحتلال الإسرائيلي.

 

الكتاب شرح سيرة الشيخ وحياته الدعوية، ودوره الإصلاحي، وصولا إلى اعتقاله ومحاكماته المستمرة، مع مقالات وأخبار وقصائد وخواطر عن وحول الشيخ، ومن غرائب اعتقال الشيخ وقتها أن نجله (محمد) وكان عمره 15 عاما قد اعتقل ليكون معه مرافقا كون الشيخ يعاني من شلل الأطراف.

 

وبالتزامن مع قراءتي للكتاب، سمعت صدفة شريط كاسيت يتناول ما جاء في الكتاب، ولا أدري من الذي كان يتحدث ولكن كان صوته جهوريا مؤثرا؛ واستمعت مرات كثيرة إلى شريط كاسيت لفرقة أم النور الإسلامية، وهي فرقة أناشيد إسلامية من أم الفحم في المثلث الفلسطيني المحتل تتبع الحركة الإسلامية في الداخل (تم حظرها مؤخرا) وكان رقم الشريط (12) وفيه أنشودة عن الشيخ أحمد ياسين:-

ثبات إقدام ويقين

إعلان

هل تعرف من هو يا ولدي أحمد ياسين

من هذا الجبل الرابض فوق صدور الجلادين

من هذا العلم الشامخ في الآفاق

إعلان

من هذا القلب النابض بالأشواق

يتشبث بالأنياب وبالأظفار

بكل عذاب المحرومين أحمد ياسين

إعلان

….

سنحرر أرض الإسراء ونضيء مصابيح الأقصى بدم الشهداء

….

إعلان

أحمد ياسين معجزة من صنع الإيمان ثبات إقدام ويقين

مأساة الشعب يجسدها والوطن المسلوب المنكوب

….

إعلان

 

لم أكن وقتها أستطيع التبحر في عالم ما وراء الكلمات، ولكن تصادف ذلك مع قراءتي لكتاب تفسير الأحلام المنسوب لابن سيرين، وجاء به أن من رأى أنه يسرج في الأقصى فإنه يموت له ولد على الشهادة، وهو ما ربطت بينه وبين مقطع الأنشودة (سنحرر أرض الإسراء ونضيء مصابيح الأقصى بدم الشهداء)!

وسأكبر وأدرك أن أحمد ياسين فعلا كما في كلمات الأنشودة قد جسد مأساة الشعب والوطن؛ شيخ مشلول الأطراف، كشعبه الأعزل، صوته ضعيف، كصوت شعبنا في محافل الأمم التي لا تسمع إلا أصوات القتلة واللصوص الأقوياء، وفي نفس الوقت هناك ذكاء حاد، وإرادة وعزيمة لا تلين، مردها الإيمان بالله والثقة بنصره، حتى وهو في أحلك الظروف.

إعلان

 

الشيخ يحرج الأصحاء!

هذه المقالة، والتي تليها إن شاء الله، لن تضيف ربما شيئاً إلى ما يعرفه الناس عن الشيخ أحمد ياسين، سواء من عاصر الشيخ أو من الجيل الجديد الذي يقرأ ويسمع ويشاهد ملامح وتفصيلات تلك السيرة، وأنا ربما في حياة الشيخ ربما انتقدته في بعض المواقف، ليتبين لي حكمته، وأيضا الحيّ لا يؤمن عليه من الفتنة، والاستنان بمن اصطفاه الله إلى عالم الحياة الأخرى أمر مأمون من كافة النواحي، خاصة بعد هذه السنوات التي كلما مرت سنة يزداد فيها بريق الشيخ في قلوب شعبه، ممن خاصمه وتنابز معه بله ممن أحبه وسار على نهجه على حدّ سواء، فسبحان الله العظيم.

إعلان

 

ولكنها وقفة من العبد الفقير بإعجاب وشعور بالعجز والحرج أمام هذا العملاق القعيد الذي أحسُّ بأن الله -سبحانه وتعالى- قد اختاره واصطفاه لأسباب نعلم بعضها وعلم بعضها أستأثر الله به في علم الغيب عنده، ولكن أشعر، وهو شعور لا يفارقني، أن الشيخ حجة قوية لا مجال لدحضها على الكسالى وعلى الذين رضوا أن يكونوا مع الخوالف وحجة على ما يعلل أو يبرر لنفسه أو للآخرين بصعوبة وتعقيد الظروف الموضوعية أيا كانت، فالشيخ حجة على (محاجّات) الأصحاء، لأنه أقام عليهم بمنهجه الحجة، دون أن يقول ذلك أو يلمح له البتة.

إعلان

ولو أن الشيخ أحمد ياسين لم يكن (شخصية عامة) لكان جديرا بالتقدير والاحترام لمجرد أن نفسه الأبية قد تسامت على العيش عالة على غيرها، رغم ظروف اللجوء واليتم (مات والده وهو طفل لم يبلغ الخامسة) والمرض، وشمّر-وهو المشلول- عن ساعد الجدّ والاجتهاد كي يعتمد على نفسه، فكيف وقد حمل همّ قضية مقدسة، وهموم شعب منكوب، بل هموم أمة بأسرها؟

 

ومن خلال تتبع سيرة الشيخ تشعر وكأن الله-جل وعلا- جعل حكمته تتجلى في كل منعطف وكل موقف عاشه الشيخ حتى اختاره شهيداً في آخر مسيرة زاخرة بالجد والاجتهاد والعمل الدعوي والجهاد والنشاط السياسي والعسكري.

 

حكمة الشيخ وحلمه

مما يعرف عن الشيخ أحمد ياسين حكمته، وقدرة آتاه الله إياها على حل المشكلات، وينقل عنه أهله وجيرانه وغيرهم، كيف كانوا يلجؤون إليه طالبين رأيه فيما شجر بينهم، فيتمكن من تقديم حل مرض للجميع. ولكن على ذكر الحكمة والحلم أكتفي بحادثة رواها لي أحد من التقى الشيخ، وهو رجل من منطقتنا توفاه الله قبل الشيخ بسنوات، وهو ليس من الإخوان المسلمين، وأقرب إلى جماعة الدعوة والتبليغ، حيث قال:-

 

كنا مجموعة نجلس قرب الشيخ ياسين في ساحة من ساحات المسجد الأقصى، وذلك قبل اندلاع انتفاضة الحجارة، فمرت عجوز ورأت الشيخ في حالته، فأخرجت نقودا على الأغلب معدنية (ذكر  قيمة المبلغ وهو بالعملة الإسرائيلية) وتقدمت نحوه، فحالة الشيخ ربما أوحت لها أنه متسوّل يطلب الصدقة بسبب شلله، وخاصة أن المساجد الكبيرة عموما والأقصى خصوصا، يكثر على أبوابها وفي ساحاتها  من يطلبون الصدقة باستخدام عاهاتهم، وعندما كانت تتقدم كي تعطي الشيخ النقود هممنا وقد انتابنا الغضب الشديد، بزجرها وتقريعها، ولكن الشيخ أشار لنا بجسده الضعيف وبكلمات قليلة (لحظة شوي.. أو ما شابه) فتركناها ونحن نتميز من الغيظ، فقد اعتبرنا أنها تهين الشيخ لظنها أنها (شحاد) وقبل الشيخ ما جادت به نفس العجوز، وبصوته الضعيف قال لها (جزاك الله خيرا)!

 

وبعد أن ابتعدت قال لنا الشيخ أحمد ياسين كلاما ظل درسا عمليا لم يغب عني -الكلام للراوي- وما زلت أرويه: هي أرادت أن تكسب أجرا وتعمل خيرا بهذه (القروش) ولو أنكم منعتموها، لشعرت بحرج ولما كررت التصدق أو التبرع، فكان الصواب أن آخذ النقود ونتركها على نيتها الحسنة، وتبسم الشيخ وأعطى النقود لأحد الشباب وطلب منه شراء عصير للجميع، كي تنال (الحجة) أجر ودعاء الجميع!

 

ربما هذا الموقف على بساطته يدل على طريقة تفكير الشيخ وحسن تدبيره، وتسلحه بالحلم وتمتعه بالحكمة، وبعد النظر، يضاف لها ما يجمع عليه كل من عرفوا الشيخ وهو (الكاريزما) ووجود كاريزما عند رجل مشلول الأطراف واهن الصوت يتنقل على كرسي متحرك، هو هبة أو معجزة ربانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان