عمرٌ لا ينتهي!

نحنُ لا نلتقي، إلا في فضاءِ ما أكتُب؛ وهو أكثرُ ما يُحرك الكتابةَ بداخلي، أنا لا أكتُب عنكِ إلا لألقاكِ، ولا ألقاكِ لسدودِ الطُرقِ ومعادلاتِ الزمنِ واستباقاتِ الوقت، كل صفحةٍ أكتُب فيها هي موعدٌ بذاته، ولقاءٌ بدونِ ميعاد، تأتينني بحُلتِكِ التي أُحبها؛ لأن الزمانَ يأبى أن يجمعنا، والأماكنُ تضيقُ بِنا، لأنثُر أحلامي بين يديكِ وأسطِرَ أمنياتي منكِ وإليكِ.
إعلان

 

الكتابةُ شيءٌ من النزق، النزف بنمطٍ متتاليٍ غيرِ خافت، من الشجنِ المتعالي، والبكاءِ بصوتٍ عالٍ، انخلاعُ القلبِ مع كسرةٍ، وضمهِ لضمةٍ، ازديادُ الوصلِ بموصول وانقطاعهُ بنقطةٍ أو فصلة، هو مجموعةٌ من صدى الصوتِ المتكرر، والحنينِ المتخبط، والسيلِ العرمِ الذي يُردي ما يراهُ ولا يُبالي، أو أنهُ يبالي فتندلقُ منهُ علاماتُ الحنينِ وإشاراتُ العجزِ ولحظاتُ الصِدقِ، وكلماتُ الفرح.

أما اللِقاءُ فهو عالمٌ لا أعرفهُ، ولم استطع أن أصلَ إليه، وبيني وبينكِ ألفُ سدٍ وسد، وبابٌ وباب، الطُرقُ بيننا مُغلقة، والأبوابُ موصدة، الجملُ فقط تستطيعُ أن تفكَ شِفرات الماضي والحاضر وتُشكِلَ حلقةَ الوصلِ التي أفقِدُها كلَ يوم، لكنني لا أكفُ أن أُحاوِلَ فألتقيكِ، اللهمَ إن كانَ اللقاءُ عارضًا في خاطرٍ أو مقال، أو سريعًا في حلمٌ أو خيال، يظلُ لقاءً وإن تمسكتُ بأن ألقاكِ لقاءَ المُحبِ في ساعةِ صفاءٍ لا يُكدرُ لقاءنا كلمةً ولا يعكُر صفونا حرف.

إعلان

 

الكتابةُ فعلٌ لا يُطلب، له رهبةٌ كتلكَ التي يسيرُ بها المُقاتِلُ أمامَ عدوه، لا يملكُ أن يدبر، لأنهُ وإن أدبرَ سيعدو وراءهُ جميعُ مكتوبِه وجُلُ رسائله، وما أشقى أن يقاتِلكَ ما هو مِنكَ وما تقبلُ عليه، وإما أن تواجهَ بحرًا من شال الأفكارِ وكمًا من الرسائلِ وفيضًا من الكلماتِ التي تتأرجحُ ببالكَ وتسيلُ بعقلكَ وما أكثرُها، وأشقى السيرَ في خضمها وبينها، الكِتابةُ فعلٌ لا يُطلب، لكنهُ ينتزع، تنتزعُ الفكرةَ فتمخضها، وتسيرَ منها إليها، فتخطَ فيها، وتكتبَ عنها، تراوِغكُ الكلمةُ مرةً لتنثني في أخرى، تتثاقلُ النجوى ثم تأتيكَ وأنتَ في أمسِ ما تكون لها، فتكتُب!

 

ليسَ للكتابةِ فنٌ ولا يُدرسِ لها صاحبُ مذهب، وإنما الفنُ في أن تندلقَ الكلماتُ من صدركَ اندلاقًا بين يدي حبرِكَ، فكأنما خُطًّ ما زَرَّقَ الأوراق من مطاوي قلبِكَ، وأخبِئةِ فؤادِك

كانَ الأمر الأول "اقرأ" وبهِ تمَ آخرُ ما نزل في "النصر" ولولا ما كُتِبَ لاستحالَ النقلُ ولتعسرَ النصرُ والفصل، وبالكتابةِ تواترَ التنزيل، وحفظَ اللهُ الذكرَ من التأويل، بها دوَّن الصحابةُ كلماتِ البعث، وأرسلوا بها رسائل الفتح، وحُفظَ بها عصرُ المجدِ واستمرَ بها العهدُ، فاستقامَ للكُتابِ مناصبُ الرفعة، وأسكِن الشُعراءُ منازلَ الوزراءِ والروادِ والعلماء، فكانوا أهلًا لأن يسكنوها، وعلى قدرِ أن يستأثروا بها دونَ غيرهم وإن استعظَم شأنهُ ووقرَ لهُ دونَ الناسِ عِظم.

 

إعلان

الكتابةُ أمرٌ قلبي، يصدرُ بعد نداءاتِ القلب، ونبضاتِ الخاطر، وحديثِ النفسِ ومسامرةِ القمرِ، واستجداءِ الوجد لتنبعثُ الكلماتُ مقامَ النَفسِ وتقومُ بدلًا عن النبض، وهي فضاءٌ تلتقي فيه أفئدةُ المحبين دونَ ميعادٍ مُسبق، وتتسابقُ إليه حالات الفرحِ أو الحزن، فتولدُ على هيئةِ حروف، ومن الحروفِ تتكونُ الكلماتُ ومنها ينبثقُ العبقُ على هيئة جُمل فتصيرُ بما أوتى جمالًا يتناحرُ البشرُ في وصفهِ بما أوتوا وما لم يؤتَو، فيعيشُ الكاتبُ أضعافَ ما كُتبَ له، لأنهُ خلَّف وراءهُ موروثًا يعيشُ أكثرَ مما يعيشُ هو، وحينَ يأكلُ الدودَ جسدهُ يعيشُ بينَ أظهِرُ الناسِ بما خطت أناملهُ التي التهمها الدودَ بين ما التهم، ولا يبلغُ الدودُ ما خطَّ ولا يملكُ أن يصلَ إلى ما خلفتهُ الأيدي وإن جارَ الزمن.

 
الكتابةُ لمن عرفها راحة يطلبُها ما دبَّ فيهِ النفس، وما سارَ فيهِ العُمر، لكنها تستنزفه فيرتاح، وتدقُ نواقيسها في عقلهِ فيضطرب، فيرضى بذلك ما استزاد منها، وهو في حالِ فقدها أشقى أهلِ الأرضِ وأكثرهم عبسًا وكدرًا. تقولُ رضوى "حين أكتب أرتاح، وكأن الكتابة تبدد الكوابيس وتحكم سحبات الخيال، تتطلب الانتباه فأواليها بما تطلبه، أعاينها في حرص كما كنت أتبع أبي في الشارع، وأنا طفل صغير، أخشى من غفلة عابرة تضيعه وتضيع مني الطريق".

    
   

إعلان

ليسَ للكتابةِ فنٌ ولا يُدرسِ لها صاحبُ مذهب، وإنما الفنُ في أن تندلقَ الكلماتُ من صدركَ اندلاقًا بين يدي حبرِكَ، فكأنما خُطًّ ما زَرَّقَ الأوراق من مطاوي قلبِكَ، وأخبِئةِ فؤادِك، لا تقصد بها مقصدًا ولا مذهبًا سوى أن تبقى وتُصبِحَ ذا أثر، فيطولُ بها ذكرِكَ وتعيشَ أكثر ممن خلفوا وراءهم قصورًا وجنانًا وعمرًا.

 

فجميعُ من وقرت الكتابةُ داخلهم عاشوا، وإن بُليت أجسادهم ووارى الترابُ أبدانهم، عاشوا بما دونوا وأحبهم الناسُ بما خلفوه وراء ظهورهم، لذا عاشت رضوى وخُلد غسان كنفاني وسيعيش أحمد خالد توفيق، وبقي من شوقي شعره، وتتلمذَ الآلافُ على مخطوطاتِ الرافعي والمنفلوطي وعباس وسابقيهم، وإن قضوا جميعًا نحوبهم، إلا أن أعمارهم ما زالت ممتدةً وكأنهم في ربيع حياتهم، أو ريعان شبابهم، لأن العُمر -في حالِ الكتابةِ- لا ينتهي!

إعلان

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان