مذكرات قارئ مجنون.. في أحد شوارع ألمانيا

وجدت ذات يومٍ اسم يُولْيُوسْ هَارْتْ على جدران أحد الشوارع؛ بينَمَا كُنْتُ أتمشى وحيدًا. كنت متعبًا جدًّا، فحسبته جِرْهَارْتْ هَاوْبِتْمَانْ. بعدئذ بنحو أسبوع، فتحتُ كتابا فوجدت أول جملة كتبت بخطٍّ إيطالي تعودُ لأَرْنُو هُولْتْسْ. لاَ، ربما كانت تعودُ لِيُوهَانْسَ شْلاَفْ أَوْ لِستِيفَنْ جُورْجِهْ.. الحقيقةُ، أصبحت تَتَخَالطُ عَليَ الأسماء كل مرَّةٍ وكأنَ ذاكرتي دخلت مرحلة شيخوخَتها الأزليةِ. كُنْتُ مَجْنُونًا بِهِرْمَانْ هِسْهْ، مَجْنونًا بِهِ، وكأَنَّ كلَّ ما كتبهُ أسطُورةٌ يصعب نسيانها أو تغييرها بشيءٍ آخر. كُنتُ أقدسُ كلماتِ هُوجُو فُونْ هُوفِمَانْسْتَالْ، كانَتْ أيَّامِي تشبه بقَليلٍ جحيمِ فَرَانْسُ كَافْكَا.. كُنتُ مجْنُونًا بالكُتُبِ، فكلُّ العظماء الذين كتبوا شيئاً، تركُوا لي رسَالةً مشفرة في كتابٍ مَا. أعْرِفُ أنَّ هَايْنِرِيشْ مَانْ تركَ لِي شيئًا في كِتابهِ "الأستاذ أونرات أو نهاية طاغية".. لكِنْ، ربمَا كانَ تُومَاسْ مَانْ يريدُ مِني قراءة أعمالِ شُوبِنْهَاوِرْ وَنِيتْشْهْ وَفَاجْنِرْ، من خلال كتابِهِ "السيد فريدمان القصير".

إعلان

 
كُنتُ معتادَا على قراءة أعمال هرمان هيسه كثيرا، فرحلة بحثه عن الذات دفعتني إلى البحث عن نفسي أيضا. كنت أعرف أنها رحلة طويلة وشاقة، لكن كان من المستحيل التراجع عن هذه الفكرة، فكل كتب هرمان هيسه، كانت تدفعني إلى البحث عن إجاباتٍ لكل الأسئلة، لا أحد يعرف حقيقة ذاته، لا أحد. فعندما تقرأ رواية "دميان" تحس، وكأن شيئا بداخلك يتحرك، كأن رحلة اكتشاف الذات لا تتوقف فقط عند معرفتنا للعالم، فكلما كانت معرفتنا للعالم أعمق، كلما كان جهلنا لأنفسنا أعمق…أنا أشبه هرمان هيسه كثيرا، فأنا أيضا تحملت كل أشكال المعاناة، ودائما ما أتذكر مقولته الشهيرة حول الموت، حينما قال :" تحمّلتُ كلّ أشكال الموت وكلُّها، أريد تحمُّلها من جديد، أريد موتا، كموت الغصون في الشجر ‏كالأحجار في الجبل ‏كالخزف يعود رملا، كالعشبة الصيفية الجافة إذ تطقطق موتاً بائساً، دامياً كما يموت البشر، أريد أن أولد ثانية، زهرة، شجرة، عشبة، سمكة ، أيلاً، عصفورا وفراشة.

 

كان لهاوبتمان أثر في حياتي أيضا، فقد كان من الكتاب الألمان الذين سيدخلون الأدب الألماني إلى العصر الذهبي، وليس غريبا أن يصفه النقاد بالكاتب المتأزم والغريب
إعلان

قد أكون مبالغا في حبي لهرمان هيسه، لكن الحقيقة أنني وجدتُ فيه كل الأشياء التي كانت تنقصني، وجدت طريقا نحو ذاتي، تلك الذات المتمردة التي ترفض أن تكشف لي عن أسرارها. أعرف أنني لن أصل إلى درجة التأمل التي وصل إليها هيرمان هيسه، وأعرف أيضا أنني لن أضحي بخمسين سنة من حياتي بغرض التأمل والبحث عن أجوبة للأسئلة التي تشغلني. وإذا كان هيسه، يهتم كثيرا بالشمس والقمر، فإني كنت أهتم بالرماد واليابسة، كأنني طائر الفينيق لا أكتمل إلا بلمس الرماد…كنت حزينا جدا، لدرجة أنني كنت أقرأ لساعات طوالٍ دون توقف، وكأنني لا أريد مواجهة هذا العالم الشاحب، كنت أريد فقط أن أهرب بعيدا عن طريق الروايات التأملية.

 
كهيسه، تخليت عن كل وسائل الدفاع عن نفسي، لم يعد يخيفني شيء في العالم كله، تقبّلت كل الأشياء ‏ووهبت قلبي للكتب. الجرح الذي استوطنني ظلما، كان كالجمرة يحرقني من الداخل. كان من الصعب العيش بشكل متناغم مع ذاتي، بالرغم من أن هيسه قال نكون خائفين فقط عندما نحيا غير متناغمين مع ذواتنا. فالناس يخافون فقط عندما لا يكونون ملكا لذواتهم. سيعتقد البعض أنني ذكرت اسم جِرْهَارْتْ هَاوْبِتْمَانْ عبثاً، أو فقط من أجل التعالي الثقافي أو ما شابه. هاوبتمان ليس مجرد مسرحي، بل روحٌ أثرت بشكل كبيرا على الأدب الألماني.

 

ومن المعروف أن الأدب الألماني يتميز بنهجه فكرا معاكسا للمركزية، ويحرص الكتاب والشعراء على فرض فرديتهم ونفورهم من القواعد الأكاديمية المتعارف عليها، وسعيهم إلى رسم علاقة الإنسان بخالقه وبالطبيعة التي تحيط به، وبظمئهم إلى المعرفة كما ُيجَسِّدُ ذلك غُوته في قصة (فاوست)، وتناولها "توماس مان" في رواية "دكتور فاوستوس". يعتبر بالنسبة لي روحًا، لأنه قاد ثورة ضد التقاليد السائدة في عصره، وتمرد على مدرسته الأولى "المدرسة الطبيعية" وكان يعتبر نفسه جنديا يناضل ضد البؤس والفقر.

 

لست جنديًا، ولا مناضلا. أنا فقط قارئ لما تركه الآخرون من كتب ومذكرات، باحث عن سبب تخلفي في الحياة. وكان لهاوبتمان أثر في حياتي أيضا، فقد كان من الكتاب الألمان الذين سيدخلون الأدب الألماني إلى العصر الذهبي، وليس غريبا أن يصفه النقاد بالكاتب المتأزم والغريب، فقد كان يرسم صوراً ساخرة للحياة المعاصرة، صورت في ظاهرها حياة العصور السالفة. ورغم شهرته ككاتب مسرحي، إلا أن رواياته زادته شهرة، خاصة رواية "جنون إيمانويل كوينت"، يتطرق فيها لتجربة شديدة الخصوصية، وعلاقات متأزمة مع العالم. وفي رواية أخرى تحمل عنوان "ميراث سوانا"، سيسرد لنا الراوي وقائع حياة الراعي الذي يبيع روحه للشيطان، على غرار أسطورة "فاوست"، لتنامي الأحداث بشكل مأساوي، يضع الشخوص على حافة الهاوية.

إعلان

 

غرهارت هاوبتمان (مواقع التواصل)

 

إعلان

بهذه الطريقة الغريبة، كنت أتراجع دائما عن فكرة أنني أقترب من الهاوية، فقد كنت من النوع الذي يفهم عكس الأشياء، كنت أتعارض مع الكتاب الذين أقرأ لهم، ليس لأني لا أشاطرهم التصور أو الرأي، بل لأني كنت أحرص على أن يكون لي تصور خاص. كل ما كان يكتبه هاوبتمان، كان شبيها بأشلاء مقتطفةٍ من حياتهِ، خاصة عندما نقرأ روايته "شبح"، العنوان لوحده كان يدفعني إلى التخيل، وكنت دائما أتخيل نوع هذه الأشباح، هل تشبهنا نحن البشر، أم أن لها شكل خاص يفوق حدود المخيلة. في هذه الرواية بالضبط يروي لنا هاوبتمان جزءا من التغيير الذي طرأ على حياة فنان يعمل في مجال النحت، بعد أن دخلت حياته فتاة جميلة صغيرة، استطاعت أن تسحبه معها إلى دروب الظلمات، وأن تجعل منه قاتلا محترفا، ويلاحظ أن الكاتب قد أطلق العنان لخياله، ويضيف الكثير من الأحداث التي لا تستند إلى واقعه الحياتي، رغم التلويح الدائم بخصوصية التجربة. هذا النوع من الروايات كان نوعي المفضل، كنت دائما أعتبر الروايات الوفية للواقع كنصوص لا تصلح للقراءة، لا لشيء سوى لأنها كانت شبه جافة ولا تحرك شيئا في مخيلتي.

 

كنتُ مجنونا كهاوبتمان، او ربما تجاوزته في ذلك. لكن، كنت أكثر انجذابا للشعر الألماني، خاصة أشعار ستيفن جورج الذي كان مقدس بالنسبة لي، لأنه كان يعتبر الفن مقدسا. وكنت أحاول الترفع قدر الإمكان كما كان يفعل جورج. فقد كان يعتبر الفن فوق كل شيء، فوق حسابات الخير والشر. كان ملعونا مثل رامبو وبودلير، وصديقا مقربا لستيفان مالارميه. كان يعجبني حسه الارستقراطي المترفع، لم يكن يكتب من أجل العامة وكانت جل أشعاره نخبوية. كيف لا يكون مترفعا وقد كان تلميذا نجيبا لنيتشه العظيم. فجرج شبيه نيتشه، لذا كان يتطلب مني الأمر الكثير من الإمعان والفكر والتأمل، لأفهم كلماته.

إعلان

 

لكتابة كانت العمل الشاق في يومياتي، لأنني لم أكن أبدا بارعا في نسج الحكايات وخلق شخصيات كما يفعل الألمان. كنت غير قادر على وصف حالتي النفسية، فكيف لي ببناء شخصيات من ورقٍ وكلمات

وأذكر أنني وجدت عبارة في أحد المقالات، يقول فيها بعض النقاد والباحثون أنه إذا أراد القارئ أن يكتشف خلفيات رؤى ستيفن جورج عليه أن يعود إلى صاحب "هكذا تكلم زرادشت" وعبره إلى النصوص الإغريقية. هنا، بالتالي، يمكنه أن يفهم كيف أن جورج لم يكن أبداً شاعراً جماهيرياً. وحتى إذا كان كل قارئ للألمانية يعرف اسمه ومكانته، فإنهم نادرون أولئك الذين قرأوه حقاً.

إعلان

 

كانت بعض القراءات تسبب لي الأرق، مهما بلغت نسبة التأمل والتركيز لدي، كنت دائما عاجزا أمام هؤلاء العظماء. فكانت القصائد والروايات التي أقرأها شبيهة بالشوارع المظلمة التي لا تنتهي أبدا. وعادة في الشوارع المظلمة لا نحتاج إلى النور، بقدر ما نحتاج إلى الأمل لمواصلة الطريق. هو نفس الأمل الذي كنتُ أبحث عنه في قصائد راينر ماريا ريلكه. كنتُ أحاول أن أبني منزلا من خلال أشعاره. كنتُ أحفظها بطريقة عمياء، كما لو أنني كنت أحفظ كتابا مقدسا، فالأثر العظيم الذي كانت تتركه بداخلي، جعلني أحس أنني لست مجنونا، ولا وحيدا، ولا من الذين نالوا لعنة من السماء، كنت أزيد يقينا أن الإيمان هو سلاح الخلاص من معاناة هذه الأرض. ولا بد لي من إعادة كتابة بعض أبيات لريلكه، خاصة الأبيات التي ينهي بها قصيدته " يومٌ خريفيٌّ "، حيث كتب:

"من لا منزلَ لهُ الآن، لن يبني بيتا بعدُ
من هو وحيدٌ الآنَ سيبقى هكذا طويلا
سيَـأرقُ ويقرأُ، ويكتبُ رسائلَ طويلةً
وسيجول قـلقا في الشوارع جيئة وذهابا،
حين تِطـّايرُ الأوراق"

إعلان

 

هذه الكلمات غيرت مفهوم الحياة لدي بالكامل، وأصبحت أقرأ كل ليلة كي أعرف ما المقصود ببناء منزلٍ. هل يقصد ريلكه نفس المنزل الذي يعيشه فيه بني البشر على اختلافهم، أم أنه يقصد منزلا رمزيا، شبيه بالإيمان أو الأمل.. كنت بعد الانتهاء من كل كتابٍ، أكتب بعده رسالة لغريب لا أعرفه. فالكتابة كانت العمل الشاق في يومياتي، لأنني لم أكن أبدا بارعا في نسج الحكايات وخلق شخصيات كما يفعل الألمان. كنت غير قادر على وصف حالتي النفسية، فكيف لي ببناء شخصيات من ورقٍ وكلمات. كان الأمر بالنسبة لي شبه مستحيلٍ، فالكتابة انتحار في سبيل أن تعيش الكلمات طويلا…كان لريلكه فضل في كتاباتي الشعرية الأولى، كنت أقلده وأحاول أن أبني قصيدة على طريقته الخاصة. كنت مغرما بأحداهن، وكانت أبيات ريلكه الشعرية تذكرني بها كلما اجتاحني الفراغ بطريقة مباغتة، وكانت هذه الأبيات مثل المنبه الذي يعيدني من أقصى الحلم إلى رشدي:

"لكنِ الآنَ أنتِ، المُختَطَـفة َ، أنتِ التي عرفـتُ
مثـلَ زهرةِ، لا أعرف الاسمَ منها،
أريد أنْ أتذكّـرَها مرةً أخرى وأ ُرِيَـهمْ إيّـاها،
الرفيـقةَ الحسناءَ للصَّيحـةِ الجّـامحـة"

 

كنت مثل ريكله، لم أكن أعرف اسمها، فقط كنت ألتقيها في مقصف الكلية، أراقبها من بعيد. ربما لم تكن لي من الجرأة ما يكفي، لأبوح لها بالبحر الهائج بداخلي. كانت سنتي الأولى بالكلية، سنة كل أيامها كانت غائمة وكأن الطبيعة كانت حزينة لأجلي. كنت مجرد قارئ مجنون يحمل عشرات الكتب، لا يصافح النساء أبدا. كنتُ أحلم ماشيا، في طريق لا نهاية لها. فطريق الكتب لا تعرف النهاية، وكل كتاب يدفعني إلى قراءة آخر. كُنْتُ مَجْنُونًا بأشعَار رَايْنِرْ مَارْيَا رِيلْكْه….المكتبة التي كُنتُ حِبِيسَهَا، كَانتْ شاسِعَةً جِدَّا، وتضمُّ كل أعمَالِ أَرْتُورُ شِنْتْسِلْرْ وفْرَانْكْ فِدِيكِنْدْ وإِرْنِسِتْ بَارِلاَخْ وَ جُوتُفْرِيدْ بِنْ وَجُورْجْ هَايْمْ، كَانَ كلُّ الطلبةِ يلتهمُونَ ما تَرَكَهُ جُورْجْ كَايْزِرْ وَإْلْزِهْ لاَسْكَرْ شُولَرْ وَكَارْلْ شِتْرِنْهَايِمْ مِنْ أَعْمَال.. وَلِكي أبدو مُخْتَلِفًا عَنهُمْ، كُنتُ أمجدُ إِرْنِسْتْ تُولِلْرْ وَ جُورْجْ تَرَاكِلْ وَفَرَانْسْ فِرْفِلْ.. كُنتُ أحمَقًا.. مُجرَّدَ أحْمَقٍ جَاهِلٍ لمِلْيُونِ اسمِ مِنَ الكتًّاب والفنانين والسياسيين وأباطرة الحربِ، كُنتُ جَاهِلاً لحقِيقَةِ أنَّ الفلسفة لا تصلحُ لشيءٍ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان