كيف تقرأ التاريخ؟!

"يأس قاتل وخمول مميت، وجبن فاضح، وذلة حقيرة، وخنوثة فاشية، وشح وأنانية تكف الأيدي عن البذل وتقف حجاباً دون التضحية وتخرج الأمة من صفوف المجاهدين إلي المستضعفين والمشردين، وصراع وتناحر مذهبي"، أدق مقولة يمكن الاستعارة بها حينما ترغب بمقارنة ازدهار اليوم بانحطاط الماضي، وكما تحدثت في مقال سابق عن منهجية صفر مشكلات، والتي قامت على أساس العدم للنزاع الداخلي في إطار نهضة الدولة، قِبالة للتآمر الخارجي لها على الدول النامية وتحريض شعوبها للحراك واليقظة، وإبقائها ضمن نزعاتها وعصباتها، وددت معرفة آلية "التحريض" كيف تتم، وكيف للشعوب أن تُستثار وتبقى حبيسة نوايا وأطماع الاستعمار، مقارنةً مع شعوب تحررت بقيادة عميقة؟! 
كأبسط طرح أو مثال، أنني لم أفكر يوماً بأن يكون الشعب التركي صديقاً للعالم العربي، قد كنا ندرس في كتبنا أن العثمانيين مستعمرون، وأنّ سياستهم العامل الأساسي في التخلّف والرجعية في بلادنا العربية، وأنّ لواء إسكندرون قطعة من بلادي سلبها إيّانا الأتراك، وأنّ الجولان والقنيطرة أراضٍ سورية، لكن تحريرها يحتاج لدراسة واستراتيجيات دقيقة ومتحفظة فهي تحتاج فقط لبعضٍ من الوقت تماماً كالوقت الذي حدثونا فيه عن تحرير فلسطين" ضمن تهجيس خفي وتخويف من الاستبداد الصهيوني".

ما يثير حفيظة الشك حيال الأمر، كطالب يتلّقن معلومات ملزم على تدوينها في اختباراته والحديث بها في صلب نقاش ما، ومعلومات كُتبي المدرسية تُخالف ما تحتويه الكُتب المُنقحة، والأفلام الوثائقية، وددت على إثر ذلك أن أرى بعين فرد من أفراد الشعب التركي، وكانت الرؤية على ذات السجيّة، لكن بعين الاعتزاز!

إعلان

تبدأ قراءة التاريخ من التجارب في الماضي وحتمية تغييرها باستمرار، وكلٌّ يقرأه لغاية، إمّا لربط صلة بين ماضيه وحاضره،  أو أن يستسيغ التاريخ لتبرير العنصرية أو الاستعمارية

لقد كان العثمانيون منذ تأسيسهم دولتهم من قيامة أرطغرل حتى اليوم "بتجاهل والتغاضي عن أزمنة الانحدار"، شعب متمسك بقيم ومبادئ الإسلام" أعظم النُظم التي استطاعت إحكام العالم"، عززوا فكرة الاعتزاز بدينهم مبادئه ومفاهيمه، وركزوا على فكرة التوحيد لله والعدل في الأرض، وقد انعكس ذلك على ظواهر سيادتهم اليوم، من قوة وترابط بين الشعب والقيادة، حققوا نجاحهم بزرع الإيمان بصواب فكرهم، والعزة بعظمة الذات والأمة الحاملة لفكرها ومبادئها، وتعزيزهم للروح الإيجابية بالإقبال على العمل، "وهذه الرؤية هي حقيقية ومطابقة لحركة الازدهار التي تشهدها تركيا اليوم، على خلاف ما منهجته بعض الحكومات العربية سواءً تجاه الاستعمار السياسي، أو الأحزاب والحركات القائم عليها الحكم في الدولة ذاتها".

هنا أتساءل فيما أحببت قراءة التاريخ، هل عليّ أن أبدأ من الماضي المشرق لنا أم حاضر الغرب المستبد، ما حقيقة عملية البعث النفسي؟! وكيف استطاع الغرب إقحامنا بتبعياتهم والخنوع لحضارتهم على حساب تفريطنا في ديننا، هل حركة الصحوة في المنطقة كانت مفتعلة أم إرادية؟!

تبدأ قراءة التاريخ من التجارب في الماضي وحتمية تغيرها باستمرار، وكلٌّ يقرأه لغاية، إمّا لربط صلة بين ماضيه وحاضره، وخلق الصيغة المناسبة منه والتي تتناسب مع الجماعة في الحاضر، أو أن يستسيغ التاريخ لتبرير العنصرية أو الاستعمارية، لتسهيل أطماعهم، وإخضاع العالم لقوانينهم الممنهجة.

إعلان
لا تزال هناك بواعث تدفعنا للاستمرار بالتقديم لحركات الشعوب في الانقلاب على أنظمة الحكم المستبدة، ما دامت هذه الحركات نابعة عن إرادتنا لا تتعلق بأي حكم خارجي

مثلما قام الغرب بزرع المكنة النفسية من خلال قراءة التاريخ وإعادة عرضه، وعمل تراكم في الإنجازات العملية، حيث قاموا بتصغير دور الحضاراة الإسلامية والتي امتدت لما يقارب عشرة قرون "كان وضع الغرب فيها آنذاك في قمة الانحطاط والتخلف"، لكنهم أعادوا العرض التاريخي حيث يُخيّل لطلبتهم أنهم كانوا منبع الحضارة وطلبة العصور، وسردهم لحوادث تاريخية ترفع من معنوياتهم بحجبهم عن تاريخ الفتوح الإسلامية، كطرد إسبانيا للمسلمين (1492م)، واكتشاف الأمريكيتين (مدن الذهب)، وحركة الترجمة التي أعقبت الحروب الصليبية، والتحولات العلمية والمخترعات كآلة النسيج والضوء الكهربائي….".

في الوقت الذي قاموا بالعمل على زرع المكنة النفسية بطريقة مغايرة وعكسية في المنطقة العربية الإسلامية، للقضاء على ما تبقى من رموز للحضارة الإسلامية، والعمل على تضييع أسسها قدر المستطاع، ومن أبرز حركات الغزو النفسي للمجتمعات العربية الإسلامية كانت حركة حزب البعث والتي انطلقت عام (1943)، وكانت بقيادة (عفلق وبيطار) بعد قدومهما من باريس، والتي انطلقت باسم حركة التحرير الشعبي وباسم الحريات، بدت كحركة ثورية في بداياتها، وعلى أنها تسعى للتلاحم مع الشعب والتفاعل مع قضاياه، لكن ما لبثت أن تحولت لحركة منعزلة مستبدة، ومن أبرز منهجيات هذه الحركة أنه يحق لها التحدث باسم الجميع، وعلى ذلك فإنها إن قُدر لها أن تقسو مع الجميع فستفعل رغبة منها في إعادتهم إلى أنفسهم، كما تتجاهل النظم الإسلامية الأساسية كافةً، ولا يأخذ من الإسلام أية فرائض أو نظم أو سنن اجتماعية، وتحويلهم مرجعية سائر المزايا التاريخية في المحيط العربي إلى القومية التي جُعل منها المرجع الأول للقيادة المثالية. 

ونجحت بذلك منهجية الغرب بالتلاعب بعواطف ودوافع الآخرين محققة نتاجها (هزيمتنا وتفوقها)، ومن أشمل مواضيع الحروب النفسية بين الماضِ والحاضر (دس الذعر، تضخيم قوة الصديق والمبالغة فيها، إثارة البلبلة والتوتر، التهديد بالأسلحة المتفوقة، استغلال الانشقاقات الدينية..)، وكما كان من أبرز ما أنجزته هي دفع الحركات العربية لعرض التنازل عن كل شيء، إلا عن كرسيها لكسب الأمريكان أولاً ومن ثم مصادقة باقي الدول، وهذا ما تشهدهه وقائع حاضرنا.

لا تزال هناك بواعث تدفعنا للاستمرار بالتقديم لحركات الشعوب في الانقلاب على أنظمة الحكم المستبدة، ما دامت هذه الحركات نابعة عن إرادتنا لا تتعلق بأي حكم خارجي، فالتاريخ يحكم بأنّه قابل للتغيير بين الحين والآخر، وأنّ القوة الحقيقية تكمن في إيماننا بقضايانا، وإيجادنا حافزا مشتركا بيننا يدفعنا لأن نكون بقلب رجلٍ واحد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان