الجوع من أجل الـ "سي. سي"

يحكي فيلم "No escape" قصة مهندس بإحدى شركات المياه الأمريكية، والذي يسافر صحبة عائلته لدولة في شرق أسيا، للعمل في الموقع الذي اشترته شركته من حكومة هذا البلد الفاسدة التي قررت تسليم مصير الشعب ليد تلك الشركة مقابل امتيازات شخصية، وصباح اليوم الثاني لوصول ذلك المهندس تنفجر موجة عارمة من المظاهرات التي لا تُشبه المظاهرات، انتفاضة دموية تنهار أمامها قوات الشرطة ويستولي خلالها المتظاهرين على دبابات الجيش، لتبدأ موجة انتقام من الجنود والضباط والأجانب، تحت شعار يملئ سماء البلاد "الدماء مقابل الماء"
إعلان

ويتم مطاردة واستهداف المهندس وعائلته وكل الأجانب وعائلاتهم بشكل مفزع، درجة أنه في اللحظة التي تم الإمساك به من الغاضبين أجبروا ابنته الصغيرة على الإمساك بالمسدس لتقتله، إلا أنه وبمساعدة أحد الرجال الأوروبيين يستطيع النجاة، وفي طريقه للخروج من هذا الكابوس يشكر ذلك الرجل على انقاذ حياته، والذي يرد عليه قائلاً "لا تشكرني، فأنا ومن ورائي هم سبب كل هذا، نحن من أتينا وعقدنا الصفقة مع الحكومة لنستولي على ثروات هذا البلد لنستعبد أهلها، وهؤلاء القتلة المتوحشين الذي يحاولون قتلك وقتل أطفالك هم يحاولون حماية أطفالهم منا".

الدولة التي أصبح حالها قريب من الدول المنكوبة لا ينقصها سوى مباني حكومية بدلاً من المباني الموجودة، وكأن تلك الخرسانات أهم وأولى من الطعام والتعليم والصحة والستر الذي كشفه السيسي عن الناس.

في ليلة كئيبة كباقي مثيلاتها في عهد عبد الفتاح السيسي، وتحت توصيات المؤسسات الدولية قامت حكومته من جديد برفع أسعار الوقود لتضع أعباءً جديدة فوق الأعباء الشديدة التي يحملها الشعب الذي صارت الغالبية العظمى منه يمشون في الطرقات يكلمون أنفسهم من فرط الغُلب وشدة الغلاء وإجراءات سيادته الانتقامية، ولم يكد يستوعب الناس هذه الزيادة في الوقود حتى أطل عليهم وزير الكهرباء بابتسامته السمجة مُعلناً زيادة أسعار كهرباء المنازل تحت شعار "خُد في مصلحتك أيها المواطن، وخُد كمان"، إلا أن ما يجعل المرء يستشيط غضباً على غضب أن كل هذا الذل لا والقهر الذي يعيشه الناس يذهب عائده في سفاهات كان أبرزها مشروع العاصمة الإدارية الجديدة أو "الكابيتال سيتي – Capital city " أو كما يحب السيسي سماعها الـ "CC".

إعلان

منذ اللحظة الأولى التي أطل فيها السيسي رئيساً وهو يتبع سياسة اقتصادية لم يعرفها علم الاقتصاد ولا أي علم أخر من علوم ادارة البشر وهي سياسة "التجويع من أجل التجويع"، فبرغم كل المليارات التي جباها من الناس عبر ضرائب جديدة ورفع هستيري لأسعار السلع والخدمات، وبرغم مليارات أخرى من المنح والعطايا التي حصل عليها من "الأشقاء" لم ترى مصر أي تحسن في المعيشة أو الاقتصاد بل على العكس، فزيادة الضرائب قابلها سوء عام في كل في سبل الحياة، ومضاعفة أسعار الخدمات قابلها زيادة في الرداءة والسوء، وتعويم الجنيه الذي قصم ظهور الناس لم يؤدِ لزيادة الصادرات، ومليارات المنح قابلها زيادة في الديون حتى وصل حجم الدين العام إلى مستوى مرعب يضع الدولة في مصير مجهول، واحتفظ عجز الموازنة بنسبته الكبيرة، وكأن تلك الثروات يتم رميها في بحر لا يعرفه أحد سوى السيسي ومن حوله.

ورغم هذا الظرف القاسي والمؤلم والمهين لعشرات الملايين من البشر الذين يحلمون بمعيشة تُشبه معيشة الآدميين، نجده يُلقي بمليارات كثيرة في مشروع غاية في الرفاهية والبذخ تحت مسمى العاصمة الإدارية الجديدة، تحديداً 45 مليار دولار "810 مليار جنيه تقريبا" لبناء "منطقة عازلة" تُشبه المنطقة الخضراء في العراق، حيث يستمتع المسؤولين بهدوء الأعصاب والأنتخة بعيداً عن صراخ الجوعى والمكلومين الذين يتم حلبهم من أجل رفاهية السادة الحكام، 810 مليار جنيه كانت كفيلة بتغيير معالم الحياة في القاهرة أو انشاء نظام تعليمي وصحي ينقذ عشرات الملايين من البشر ويضعهم على سلم الحياة.

الجوع الذي يضرب بطون الناس لن يصمت إلى الأبد، وتشديد تلك السياسات المؤلمة كل حين لا لشيء إلا لأن هناك بندقية مصوبة على رأس المواطن تُهدده لن تستمر إلى الأبد، وأي انفجار يحدث في تلك الظروف لن يأمن أحد عواقبه.

ومن التفاصيل المرهقة والمثيرة للسخط في منطقة السي سي الخضراء إنشاء مقرات ل 18 وزارة، ومبنى جديد للبرلمان على مساحة 80 ألف متر مربع، بجانب قصور للرئاسة ولمجلس الوزراء، ومدن ترفيهية للسادة أبناء السادة سكان المنطقة الخضراء، الذين يستطيعون دفع 5 ألاف جنيه في متر الشقق التي تبدأ من 200 متر أي أن أقل وحدة سكنية سيبلغ ثمنها مليون جنيه، وغيرها من معالم الرفاهية في الوقت الذي يحصل الغالبية من الشعب على لقمة خبز بشق الأنفس وبحرب ضروس مع الحياة، وكأن الدولة التي أصبح حالها قريب من الدول المنكوبة لا ينقصها سوى مباني حكومية بدلاً من المباني الموجودة، وكأن تلك الخرسانات أهم وأولى من الطعام والتعليم والصحة والستر الذي كشفه السيسي عن الناس.

إعلان

إن سياسة التجويع التي يتبعها النظام مع الغالبية العظمى من الشعب من أجل مضاعفة مخصصات الفئات الحاكمة من أفراد الجيش والشرطة والقضاء ونواب البرلمان ومن والأهم من المعارف والأقارب دون أي عائد على مستوى معيشتهم يضع الدولة بكاملها على سيناريوهات أفضلها مرعب.

فالجوع الذي يضرب بطون الناس لن يصمت إلى الأبد، وتشديد تلك السياسات المؤلمة كل حين لا لشيء إلا لأن هناك بندقية مصوبة على رأس المواطن تُهدده لن تستمر إلى الأبد، وأي انفجار يحدث في تلك الظروف لن يأمن أحد عواقبه ولن تفلح تحصينات مناطقكم الخضراء في حمايتكم من غضب الناس، فسلوك المستعمرين هذا في جباية الضرائب وقمع الناس صار اسطورة في هذا الزمن، ولا يغرنكم صمت هذا الشعب، فلقد جرب الذين من قبلكم صراخه من بعد صبرٍ طويل، إلا أن هذه المرة قد يهدد صراخه معالم الحياة بأكملها.

الحرية لمصر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان