عروج شهادة نحو السماء

إعلان
تلح علي قريحتي إذ تنضح بالأفكار والتأملات وأنا أتنقل بين صفحات الأخبار ومواقع التواصل الإلكترونية المختلفة أقلب البصر والبصيرة معا في تفاصيل استشهاد المثقف المشتبك الفلسطيني الشهيد الذي اشتهر بروحه لحظة انعدام الحياة عن جسده الطاهر المقاوم باسل الأعرج.
 

وإني إذ ألملم شتات قريحتي وقع عصف الذهن مني في خانة أفكار أربعة تتجلى في حضرة الشهادة، أبدأها بطاقة الشغف التي تتجلى في قصة الشهيد المثقف، فالشغف بقيمة مضافة من العلم والمعرفة يساويان طاقة تغيير لا ينازعها شيء، وهي المعادلة التي تميز القلة أو النخبة التي تسعى وتفلح في غالب الأحيان في تغيير مجتمعاتها والوصفة السحرية المضمونة في سنة التغيير الإنسانية تسري وتنطبق على كل الأمم بخطوات معروفة ومضمونة النتائج إن تمثلت بدقة الشغف..
 

سمها ما شئت من مسميات دينية أو فكرية أو سياسية مثل "الايمان أو الإرادة أو القناعة أو العقيدة أو الإحساس بالقهر أو التمسك أو الإبداع"، فكلها لا ترقى لتعبر عن لب الشغف الذي يحرك فينا تلك الطاقة وذاك الشعور..
 

إعلان
يستوقفني التناقض العجيب بين ما خطته نظريات علم النفس في شرح وتفصيل نفسية الانسان المقهور أو المطارد أو الذي تعرض للتعذيب وما يتجلى في حياة الفلسطيني المقهور بالأشكال الموصوفة كاسرا جدلية تلك النظريات ومنطلقاتها.

فخلال قراءة لم تتجاوز الساعة عن سيرة الشهيد الأعرج الذي لم يعرفه غالبنا قبل وفاته كان الفضول بداخلي يتصيد لحظات الشغف في أفعاله والتي رسمت خط مسيرته حتى لحظة الاستشهاد… ويكأن كل من تشرب كل جزء في كيانه فكرته ولبسها كالثوب الذي لا يفارقه هي سنة الشغف الإنسانية الخالدة التي اجتمعت عليها سير كل من ترك بصمة التغيير في حضارته أو زمانه أو مكانه أو قضيته..
 

أما في خانة فكرتي الثانية يستوقفني التناقض العجيب بين ما خطته نظريات علم النفس في شرح وتفصيل نفسية الانسان المقهور أو المطارد أو الذي تعرض للتعذيب وما يتجلى في حياة الفلسطيني المقهور بالأشكال الموصوفة كاسرا جدلية تلك النظريات ومنطلقاتها، حيث أكدت سطور علم النفس على سلبية التجربة القاسية وأثرها في هز الإنسان وكسر أشياء كثيرة في داخله، أما في الواقع الفلسطيني المحتل فحياة السجن والتعذيب والمطاردة المظلمة شكلت وقود ذلك الشغف ومنبعا للإصرار على الاستمرار في مقاومة المحتل حتى تكللت قصة شهيدنا وكثير من أمثاله بالشهادة والبطولة..
 

ويحضرني هنا على سبيل المثال لا الحصر ومن منطلق الإعجاب بذات الشغف والسيرة العطرة التي شدتني آنذاك كما شدتني قصة الأعرج الزكية قصة قديمة خالدة هي قصة الشهيد عماد عقل الذي خط سطرا جديدا في أساليب مقاومة المحتل الصهيوني في مطلع التسعينيات وما استشهد كما الأعرج إلا مطاردا بين أسطح المنازل بعد اشتباك مسلح مع العدو..
 

أما عند خانة فكرتي الثالثة فتخشع الروح مني تفكرا وإجلالا وغبطة لمن تلقفته يد العطاء الربانية في سنة الاصطفاء والاختيار.. وهذه السنة تتجلى وضوحا في سيرة شهيدنا الأعرج كما تجلت في سير أبطال كثر من قبل اختارهم ربهم في سر خاص جمعهم به على قدر شغفهم واخلاصهم وتجردهم..
 

فالشهيد الأعرج هو "المثقف المقاوم" صاحب اللقب الجميل الثقيل.. اشتهر به الشهيد بروحه دون جسده، فقد أنجز جسده في هذه الأرض الكثير الكثير وبكل صمت وتجرد في محراب المقاومة والفداء دون بلبلة إعلامية أو صخب درامي أو نجومية فارغة..
 

إعلان
يتوارد إلى خاطري أثر الفكر والثقافة والتعلم في صقل الرصاصة وتوجيهها نحو المقاومة الحقة والهدف الصحيح، وإن الشهيد الأعرج إذ وصف بذلك فلأن ثقافته برزت كأحد أركان مسيرته المقاومة.

وإن للمثقفين ممن يقتاتون المجد الزائل زوال الضباب أو تلاشي الفقاعة عبر أصواتهم العالية ومصفوفات كلامهم الكبير المرتب المنمق لعبرة في حضرة الثقافة الحية التي جمعت قلبا شغوفا.. قلما.. كتابا.. رصاصة.. وحركة مجتمعية، فقادته إلى شهرته السماوية والدنيوية في آن معا ما عاشت أجيال وتتالت..
 

"فتنت روحي يا شهيد.. علمتنا معنى الصمود.. شوقتنا للرحيل.. علمتنا معنى الصمود.. أسرتني يا شهيد".. وإنها للفتنة الحقة لكل نفس تواقة لترى جوارحها تحدث في هذا العالم شيئا أجمل.. فتنة لم تقتصر على أهل فكر أو جماعة أو ملة أو دين..
 

إعلان

وفي محطتي الرابعة يتوارد إلى خاطري أثر الفكر والثقافة والتعلم في صقل الرصاصة وتوجيهها نحو المقاومة الحقة والهدف الصحيح، وإن الشهيد الأعرج إذ وصف بذلك فلأن ثقافته برزت كأحد أركان مسيرته المقاومة.. الأمر الذي يثبت بأن الفكر والرصاصة هما وجهان متكاملان لعملة واحدة.. فلا يحيد من اهتم بهما بتوازنهما معا إلى تطرف النجومية والتلميع فارغ الجوهر ولا إلى تطرف وطيش الرصاصة العنيفة التي توجه ضرباتها إلى كل شيء إلا المشكلة الحقيقية..
 

وخلاصة الأمر أن التجارب العظيمة ما هي إلا "صفنات" -إن صح تسميتها- في فهم الإنسان وردود فعله التي ما انفكت تفاجئ نظريات أقرت من قبل وتقلبها.. متربعة على عرش تلك التجارب وصفة الشهادة الشهية الزكية..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان