الذاكرة ممتلئة..

اضطررت عدة مرات لتفريغ هاتفي النقال من مخزون الصور، بعد أن أعطاني إشارة تفيد بامتلاء الذاكرة بسبب كثرة النكات والطرائف والصور والتعليقات التي وردتني بعيد فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منافسته هيلاري كلينتون، كل الصور الواردة كانت تسخر من رعونة الرئيس المنتخب ومستقبل أمريكا الذي أصبح من وجهة نظرهم على شفا جرف هارٍ.. انفلات السخرية العربية هذا أشعرني للحظة أن الزعماء العرب هم أشقاء لقمان الحكيم مثلاً!.
 

طبعاً لم يكتمل المشهد الكوميدي الممتد من المحيط إلى الخليج، إلا بقيام شاب عربي بالتهديد بالانتحار من على برج عالٍ في مدينته مطالباً "أوباما" بالعودة إلى الحُكم، معتقداً أن الرجل مجرد عمدة في بلدته أو مدرباً رياضياً لفريق من الدرجة الثالثة سيستجيب لدعوته على الفور حفاظاً على سلامته الشخصية، وقد لا ألوم الشاب على فعلته هذه فلا يوجد في ذاكرتنا الجمعية ما يحتفي ويحترم الدستور كما لا يوجد في قاموس العمل السياسي العربي باب لتداول السلطة فكيف له أن يتخيلها، فجميعنا قد رضعنا القاعدة "اللبائية" من أثداء الأنظمة التي علمتنا بالعصا والدبابة أن "الوجه الذي تعرفه أفضل بكثير من الذي لا تعرفه"..
 

إعلان

البعض كان يتهّكم على تصريحات "ترامب" مثيرة الجدل وعلى وعوده التي قطعها على نفسه أمام ناخبيه، على اعتبار أن ما يتفوّه به بعض الحكام العرب هي حكم ودرر وأقوال مأثورة، متناسين أنه لولا "فلاتر" الإعلام الرسمي وكتّاب الافتتاحيات لجمعت الأفكار والأقوال في كتاب "ألف نكتة ونكتة"، أما من حيث البلاغة الخطابية فحدّث ولا حرج، فَجُلّ قادة الوطن العربي مثل "تعليقات تويتر" لا يكملون أكثر من مئة وأربعين حرفاً سليماً ليسكتوا بعدها لنفاد مصطلحاتهم السياسية.

تعالوا نعدّ على أصابعنا كم "ترامبيّ السلوك" أنتجت بلاد العرب أوطاني منذ أن رفعنا رايات الاستقلال.!

أنا لا أدافع عن الرئيس لإعجابي بــ"كاريزمته" أو اعتداله.. على العكس، فانا لا أراه يصلح بطلاً لفيلم كرتوني، أو مالكاً لمحطة وقود على أبعد تقدير.. لكنّ علينا أن نحترم من اختاره؛ على الأقل هم مارسوا حقهم وسلطتهم في الاختيار، وجاؤوا بهذا الرجل البرتقالي من خلال صندوق الاقتراع، أما الزعيم العربي فيأبى أن يأتي إلى الحكم إلا من خلال طريقين لا ثالث لهما، إما على ظهر دبابة بانقلاب على كل الشرعيات؛ طاحناً كل بذور الديمقراطية المحتملة المزروعة في دروب النضال، وإما من "سروال" الوالد الحاكم بالتناسل البيولوجي الطبيعي.. فعلى ماذا نسخر إذن؟ ومن الأحق بالسخرية؟.

إعلان

ثم تعالوا نعدّ على أصابعنا كم "ترامبيّ السلوك" أنتجت بلاد العرب أوطاني منذ أن رفعنا رايات الاستقلال.. هناك "ترامب" عسكري سحق شعبه بــ"البلدوزرات" والمدرعات وقضم البنايات بشوكة الــ" أف 16″ وسكين "السوخوي"..

وهناك "ترامب اقتصادي" جعل سعر ربطة لفجل أغلى بكثير من سعر صرف عملة بلاده، حيث أصبحت أمنية الأماني لمواطنه أن يظفر برغيفي خبز بعد انتظار نصف نهار على المخبز، وهناك "ترامب الإدارة" قام بفكيك كل مؤسسات بلاده الحكومية وأعاد ترسيم حدودها لتصبح كل وزارة "أملاك أميرية" يتصرف بها هو وموالوه أنّى شاؤوا.. وهناك "ترامب الاستثمار" حيث حوّل وطنه إلى مزرعة خاصة لتسمين الأموال والأرصدة وحلب مواطنيه و تجويع أدنى الطبقات الدنيا من الهاتفين باسمه المسبّحين بحمده..من أطول عمراً وأكثر تخريباً إذا؟ الترامب العربي؟ أم الترامب الأمريكي الذي لم يبلغ عمره أسبوعا في السلطة!.
 

**
عندما نستطيع أن ننتج مجالس شعبية ونيابية منتخبة؛ لا مزورة ولا تشتري مقاعد فوزها بمالها الأسود يحق لنا أن نسخر، وعندما تصبح أصوات أمعائنا أعلى من أغاني مديح الحاكم يحق لنا أن نسخر، عندما نغير "آرمة" الحدود من "عزبة" إلى وطن يحق لنا أن نسخر، عندما تصبح صور شهدائنا على عملاتنا الورقية يحق لنا نسخر، عندما ندرك أن سنبلة الحق أقوى من منجل البطش يحق لنا أن نسخر.. عندما يتوقف متعهدو الأوطان من تنجيد كراسي الحكم من جلود المعدمين يحق لنا أن نسخر..

أرجوكم لا ترسلوا لنا المزيد من صور ترامب.. فالذاكرة ممتلئة بمن هو أسوأ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان