ليلى العريان: إسرائيل هجّرت جدي من اللد ودمرت بيته في برج الجلاء بغزة

تذكرت ليلى وصف جدها لكل حرب بأنها أكثر وحشية ورعب من الحرب التي سبقتها، وكان يخبرهم كيف كانت القنابل تهز جدران بيته عندما كان يحاول الخلود إلى النوم.

تفجير برج الجلاء الذي يضم مكتب الجزيرة وبيت جد ليلى العريان في غزة عقب غارات إسرائيلية عليه (الجزيرة)

قالت الكاتبة ليلى العريان "بعد مرور ساعة على تدمير برج الجلاء في غزة، أرسل لي أخي رسالة نصية مفادها أن جدنا كان يمتلك شقة بذلك المبنى، اشتراها من مدخراته وتركها لأولاده ليرثوها من بعده، لكنها تحولت لأنقاض". لم يستطع الفلسطينيون عبر الأجيال أن ينسوا أبدا أن "الوطن يتلاشى، وأنه يمكن أن يُسلب منهم في أية لحظة".

وكانت غارة جوية إسرائيلية دمرت برج الجلاء، وهو برج سكني يتكون من 12 طابقا في غزة، ويضم مكتبي الجزيرة ووكالة أسوشيتد برس، وانهار مثل الأبراج التي يصنعها الأطفال من البلاط المغناطيسي أو ألعاب "الليغو"، واختفى في غضون ثوان.

وفي تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز (nytimes) الأميركية، قالت العريان إنها تعمل في قناة الجزيرة منذ 13 عاما، وإن زملاءها وعائلات كانت تعيش في 60 شقة ببرج الجلاء اضطروا لاتخاذ خيارات صعبة حول ما عليهم أخذه خلال هرعهم من القصف.

جدي عبد الكريم

وأضافت الكاتبة أن جدها عبد الكريم يعرف هذا الشعور جيدا، إذ سبق أن خسر عدة منازل كان يملكها. وولد عبد الكريم بمدينة غزة عام 1933، وأصبح يتيما في ذكرى ميلاده الخامس بعد وفاة والديه بالسرطان، حيث كان من أبناء جيل النكبة، وهم الفلسطينيون الذين عانوا من الإرهاب والخسارة والتهجير الذي رافق قيام إسرائيل عام 1948. وهو في المدرسة الثانوية كان يتحدث عن الرصاص الذي أطلقه الطيران الحربي الإسرائيلي فوق غزة، والذي مزق الأرض تحت قدميه.

معادلة القصف بالقصف.. إسرائيل تقصف مواقع في قطاع غزة والمقاومة ترد
إسرائيل تقصف غزة في حروبها المتتالية (الجزيرة)

مسيرة الموت في اللد

طُرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من منازلهم، ووقعت مجازر في المدن والقرى في جميع أنحاء البلاد، مما أدى إلى تدافع اللاجئين لقطاع غزة الساحلي الصغير. كانت جدة ليلى (إنعام) -وعمرها 12 عاما- واحدة من بين 70 ألف شخص ساروا من اللد والرملة والقرى المجاورة (شرق يافا)، في ما عُرف لاحقا بمسيرة الموت في اللد؛ إذ علمت أن والدها -وهو ضابط شرطة في يافا- أعدمته القوات الإسرائيلية ودُفن في مقبرة جماعية.

وذكرت العريان أن العديد من اللاجئين كانوا يحملون الملابس على ظهورهم وعلقوا مفاتيح منازلهم بأعناقهم، حيث أخبرتها جدّتها أن والدتها حملتهم ومشيت حتى سقطت أظافر قدميها، بسبب استيلاء المستوطنين اليهود الذين وصلوا من أوروبا على منازلهم. وعندما وصلت جدتها مع عائلتها إلى غزة، كانت مزدحمة باللاجئين من جميع أنحاء فلسطين، الذين اضطر الآلاف منهم للنوم في خيام وفرتها لهم الأمم المتحدة.

عندما تزوج جدّا ليلى

وبحلول الوقت الذي التقى فيه جداها عام 1956، كانت جدتها تعمل في الخياطة للمساعدة في إعالة أسرتها، إذ لم تستطع العودة للمدرسة، ولم تتجاوز الصف السادس. وكانت إنعام تمتاز بصغر حجمها، وشعرها البني المجعد، وأعينها اللوزية البراقة وابتسامتها الخجولة، وكانت ترتدي ملابس خاطتها بنفسها من أزياء الخمسينيات.

عندما تزوج جدّا ليلى، كان من الصعب عليهما إيجاد وظائف، فأصبحا من بين الشتات الفلسطيني. ورغم انتقالهما إلى البلدان العربية التي كانت بحاجة إلى خبرتهما المهنيّة ومستواهما التعليمي، فإنهما ظلّا غرباء في نظرهم. أصبحت الحياة عبارة عن صراع لبناء منزل جديد مع الحفاظ على ذكرى الشخص الذي سلب منك، والبحث يائسا عن طريقة لاستعادته.

الصحفية ليلى العريان
ليلى العريان: والدتي تتذكر الرحلات إلى غزة، حيث تلعب في بساتين التوت والبحر المتوسط ​​في مرمى بصرها والرمل تحت قدميها (مواقع التواصل)

ذكريات أم ليلى في غزة

وأفادت الكاتبة بأنه في عام 1958، انتقل جدُّها إلى المملكة العربية السعودية مع زوجته وابنه البالغ من العمر عاما لتدريس اللغة العربية. لقد ادخر كل ما في وسعه من راتبه الضئيل ليصطحب أطفاله لزيارة غزة في الصيف، وتتذكر والدتي تلك الرحلات للمنزل، حيث كانت تلعب في بساتين التوت والبحر الأبيض المتوسط ​​في مرمى بصرها والرمل تحت قدميها.

بعد سنوات من العيش المتواضع، اشترى جدها قطعة أرض صغيرة على ساحل غزة، وكان يخطط لبناء منزل عليها. وفي عام 1967، أثناء جلوسه في مقهى مع أصدقائه في مدينة جدة السعودية، سمع جدها في الأخبار احتلال إسرائيل قطاع غزة، فشحب وجهه وأغمي عليه من الصدمة. أصدرت إسرائيل مرسوما يقضي بعدم الاعتراف بأي فلسطيني على أنه مقيم في القطاع إذا لم يكن في غزة قبل الحرب؛ وبالتالي لم يُسمح لجدها بالعودة.

جدي بحث عن جنسية وعندما حصل على جواز السفر الأميركي عاد ليستقر في غزة (بيكسابي)

البحث عن جنسية

وبعد بضع سنوات، اضطر جدها لمغادرة السعودية لظروف قاهرة، فانتقلت الأسرة للقاهرة، وأعادت بناء حياتها من جديد.

واشترى جدّ ليلى شقة من عائلة مصرية. في المقابل، لم يسمح له بتسجيلها باسمه نظرا لأنه فلسطيني. وعندما غادر مع عائلته القاهرة في رحلة قصيرة، انتقلت الأسرة المصرية إلى الشقة واستولت عليها بالكامل، ليبقى مرة أخرى بلا مأوى، كما تقول.

ورغم عمل جدّها وعيشه في 4 دول عربية مختلفة، فإنه حُرم من الحصول على الجنسية. وتجدر الإشارة إلى أن شوقه لغزة لم يفارقه أبدا، لكنه كان بحاجة للجنسية ليحصل على جواز سفر يمكّنه من العودة إلى رُبوع الوطن.

قالت الكاتبة إن أمها، التي استقرت في الولايات المتحدة عندما كانت في 18 من عمرها، اصطحبت جدها ليعيش معهم في فلوريدا فترات طويلة في تسعينيات القرن الماضي، مما دفعه للتقدم بطلب للحصول على الجنسية الأميركية. وكانت ليلى تعشق تلك اللحظات التي كانت تجلس فيها مع جدها على الشرفة بعد الظهيرة ليحتسيا الشاي بالمريمية ويشاهدا هطول المطر، ويشاركها النكات، وتختبر ليلى معلوماته عن أساسيات التاريخ والحكم الأميركي استعدادا لاختبار جنسيته.

عودة الجد إلى غزة

فور حصوله على الجنسية الأميركية، صمم جدها على العودة إلى غزة. في المقابل، رفضت جدتها التي تزوجها منذ حوالي 50 عاما العودة ما دامت الأرض تحت قبضة الاحتلال. وفي عام 2004، انتقل جدّها إلى غزة، في حين ظلت جدة ليلى في الإمارات بمفردها.

عندما عاد إلى غزة، أقلع الجد عن التدخين وقضى معظم وقته في الهواء الطلق بين زراعة الزيتون والعنب والتوت في بستان عائلته والاسترخاء بشقته الصغيرة التي تطل على البحر الأبيض المتوسط، وأعاد الاتصال بأفراد عائلته التي انفصل عنها لسنوات، وتناول التين الذي كان يحلم بتذوقه عندما كان في المنفى.

في عام 2007، وفي محاولة لزعزعة استقرار الحكومة التي تقودها حماس، فرضت إسرائيل حصارا ساحقا على غزة لا يزال متواصلا إلى الآن، وحوّلت المنطقة إلى سجن، كما بات الحصول على دواء لمرض السكري الذي يعاني منه الجدّ شبه مستحيل، كما أجبره انقطاع التيار الكهربائي المتكرر على استخدام مواقد الكيروسين لطهي وجباته.

برج الجلاء الذي دمره الاحتلال مؤخرا أصبح أثرا بعد عين في غزة (رويترز)

تواتر الحروب على غزة

إثر ذلك، تواترت الحروب على غزة، وتذكرت ليلى وصف جدها لكل حرب بأنها أكثر وحشية ورعب من الحرب التي سبقتها. وكان يخبرهم كيف كانت القنابل تهز جدران بيته عندما كان يحاول الخلود إلى النوم. وخلال قصف غزة خلال عامي 2008 و2009، دمّر القصف الإسرائيلي الأراضي الزراعية وأضعف الإمدادات الغذائية.

في الواقع، أصيب قسم من بستان عائلة ليلى بقذائف الفسفور الأبيض، ولم يعد بإمكان تربته المتفحمة زراعة المحاصيل. وبعد مرور 6 سنوات، خلال الحرب المدمرة عام 2014، قُصفت شقة الجد الصغيرة على شاطئ غزة.

وذكرت الكاتبة أن أبناء جدها السبعة لم يتمكنوا من زيارته في غزة، حيث كان كل واحد منهم يعيش في بلد مختلف، وهو ما يعكس الواقع المستعصي للنزوح الفلسطيني.

وفي عام 2019، توفي جد ليلى، لكن جزءا منها يشعر بالارتياح نظرا لأنه ليس على قيد الحياة ليشهد ما يصفه كثيرون في غزة اليوم بأنه أسوأ هجوم عاشه القطاع على الإطلاق. وقبل وفاته، ضخّ جدها كل مدخراته في شراء شقة في برج الجلاء (أحد أطول المباني في غزة)، وكان يعيش على إيجار شقته في ظل عدم توفر صناديق تقاعد أو شيكات حكومية.

على عكس برج الجلاء، الذي تم إخلاؤه قبل قصفه، لم تسنح الفرصة لعائلات للنجاة من الموت المحتم بعد أن دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية منازلهم دون سابق إنذار؛ فالهدف الأساسي للاحتلال لا يقتصر على تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم وتدميرها فحسب، بل يحرمهم أيضا من الحق في الحداد عليهم.

اللحظة التي بدأ فيها انهيار برج الجلاء في غزة عقب غارات إسرائيلية عليه (الجزيرة)

بيت الجد في برج الجلاء

وقالت الكاتبة إن ذلك البرج كان المنزل الذي بناه جدها بعد أن قضى حياته في المنفى، المنزل الذي صمد من أجله إلى آخر رمق في حياته. علاوة على ذلك، يعكس هذا البرج شعور الشوق الذي أعاده إلى غزة، وحُفرت كل لحظة فرح وألم وخسارة في حياته في جدران تلك الشقة. وفي الحقيقة، كان المكان الذي يأمل أن يتمكن أحفاده من زيارته يوما ما.

عندما تفكر في جميع المنازل التي فقدها جدها، تدرك ليلى أنه لم يكن يتوقع أن يكون أي هيكل مادي إرثه الدائم، وبدل ذلك ترك لهم شيئا لا يمكن لأحد أن ينتزعه منهم؛ إنه نضالهم لأجل العودة إلى الوطن والأمل والصبر والجرأة التي يتناقلها جميع الفلسطينيين المشردين من جيل إلى جيل. في الواقع، "نحن نبني، وهم يدمرون، لكن ذلك لن يمنعنا من إعادة الإعمار مرة أخرى".

المصدر : نيويورك تايمز