كيف أعرف إذا ما كانت طفلتي قد تعرضت للتحرش؟ وماذا أفعل؟
ما من مسؤولية أكثر خطورة من مسؤولية أن تكونين أُمًّا أو أن تكونَ مسؤولًا كأب يحمل على عاتقه هواجس تربية أطفاله وحمايتهم والاعتناء بهم. ولا شك أنّ أنواعًا مختلفة من المخاوف التي تحيط بك كمُقدِّم رعاية كوالد أو والدة، ولا شكّ أن أكثر المسؤوليات حساسية ما يتعلّق بحماية أطفالك. ولعلّك تستمع إلى قصصٍ عابرة هُنا وهُناك في إحدى الجلسات عن تعرّض أحد الأطفال للتحرّش أو الاعتداء، لكنّك لا تستطيع أن تصرف ذلك الصوت بسهولة، صوت المخاوف والوساوس التي تخبرك: هل يمكن أن يكون طفلي قد تعرّض لمثلِ هذا أيضًا؟
من المهم أولًا أن تعرف عددًا من الحقائق العلمية حول موضوع التحرّش، ما تخبرنا به الأرقام والإحصائيات عن شيوع مدى شيوع هذه الظاهرة وعن المُرتكبين المُحتَمَلين لمثلها، وعن السياقات المُمهّدة لوقوع مثل هذه الحوادث المؤسفة. ومن ثمّ نأخذك في هذا المقال في رحلة كي نُرشدك إلى المؤشرات الأساسية التي قد تكون علامة على تعرّض الطفل للتحرّش -لا قدّر الله- ومن ثمّ نستعرض معًا أهمّ التوصيات والإرشادات العلمية بحسب علماء النفس وخبراء التربية في كيفية التعاطي مع مثل هذه المواقف، وكيف نتصرّف في حال علمنا بتعرّض أطفالنا للتحرّش أو الاعتداء؟ وما رد الفعل الذي يتوجب علينا اتخاذه حينها؟
اقرأ أيضا
list of 2 itemsقتل أكثر من 100 ألف بعام واحد فما قصة المخدر الخطير الذي ينتشر بأميركا؟
ما ينبغي أن تعرفه عن التحرّش بالأطفال
تقدر الإحصائيات الأكثر حداثة ودقة، كتلك التي أجرتها "Darkness to Light" عام 2013، أن 1 من كل 10 أطفال دون سن 18 عاما يتعرضون للاعتداء الجنسي(1)(2). وتأتي الأغلبية الساحقة من حالات التحرش بالأطفال من شخص موضع ثقة أو ذي معرفة مسبقة بالطفل، كأن يكون جارا أو قريبا أو صديقا للعائلة، وذلك وفقا للمجموعة الوطنية لعلاج صدمات الأطفال الأميركية (NCTSN)(3).
يميل الجاني/المعتدي إلى تطبيق ما يسمى "الاستمالة"، أي مصادقة الطفل وأسرته والتقرب منهم بغرض اكتساب ثقتهم؛ ليتسنى له الانفراد بضحيته والاعتداء عليها. قد تتضمن تلك الإستراتيجية سلوكيات، كالاهتمام الخاص بالطفل، وإغراقه بالنزهات والهدايا والحلوى، وعزله عن الآخرين، وتلبية احتياجاته، واتخاذ أحد الأدوار داخل الأسرة، ومعاملة الطفل كما لو كان أكبر سنا.
بعض العلامات الجسدية والسلوكية تنذر بأن الطفل تعرض للتحرش، كإبداء ممانعته أو عدم رغبته وخوفه من البقاء في رعاية شخص بعينه، والتشبث بأبويه، وتردده في الخوض في تفاصيل الوقت الذي يقضيه مع أحدهم، وانسحابه إلى الصمت على غير عادته، وقلقه وسرعة انفعاله، وزيادة شهيته للطعام أو نقصانها، وارتداده إلى عادات كان قد كف عنها، كالتبول اللاإرادي، ومص الإبهام، ورؤيته المتكررة للكوابيس، وامتلاك مخاوف جديدة، كالخوف من الظلام، أو على النقيض منها كثرة النوم؛ ليبدو على محياه استياء سرعان ما يفصح عنه بأن يجهش بالبكاء.
أضف إلى ذلك اكتشاف نقود أو أشياء شخصية أخرى بحيازة الطفل دون علم الأبوين بمصدرها أو طريقة حصوله عليها. ويُظهر الطفل المعتدَى عليه أحيانا شكلا أكبر من الطاعة، أو شكلا أكبر من التمرد، كما يقضي وقتا أكبر بمفرده، وتظهر عليه محاولات تجنب التجرد من الملابس لتغييرها أو الاستحمام، بل وربما يخشى أماكن بعينها، كالمراحيض. ويبدي معرفة بأمور تفوق إدراكه أو عمره، آتيا على ذكر كلمات وتصرفات جديدة غير لائقة، بها إيحاءات تنم عن وعي ذاتي مفاجئ بأمور أو ألفاظ جنسية(4)(5).
إلا أنه من المهم أن نعي أن التحرش بالأطفال يشتمل على مجموعة متضافرة من سلوكيات العديد منها لا يترك أي علامات جسدية، لذلك لا يمكننا الجزم إن كان الانتهاك الجنسي حقا هو مصدر هذه التغييرات أم لا، لكن المؤكد أن مثل هذه التبدلات التي يستشف منها الأبوان وجود خطب ما طرأ على طفلهما، تستدعي التعامل معها بجدية ومحاولة تفكيكها.
لماذا علينا الانتباه إذا ما كان أطفالنا قد تعرضوا للتحرش؟
يحدث ألا يتطرق الطفل إلى ما تعرض له، ويُفضّل إخفاءه عن والديه(6) لاعتبارات يضعها في عين الحسبان، كحرمانه من العطايا التي يغدقه بها المعتدي، أو لتعرضه للتهديد بالضرب أو العقاب إذا باح لأحد، أو لأن أبويه سيوبخانه إن علما بما حدث. وربما يلحق بالطفل شعور عميق بالحزن والخزي والعار، وأنه يتحمل جزءا من المسؤولية والذنب مما حدث.
الذنب؛ لأنه -كما يفكر- لم يكن في مقدوره إيقاف ما حدث، لأنه وافق على الاستسلام، ولإبقائه ما حدث سرا ولم يحادث به أحدا أول مرة. أما إحساسه بالخزي فمرده إلى أنه شارك في هذا الفعل المشين، وأنه ما زال يحب المعتدي لمكانته القريبة منه(7).
جزء من الاستدلال منوط بعلاقة الأبوين بصغارهما، بحجم غيابهما أو حضورهما الدافئ، أو المتسم بقسوة، ومدى انفتاحهما لخوض حوار. فقد لا يقول بعض الأطفال شيئا لأنهم يعتقدون أن لا أحد يهتم بما يحدث لهم. قد يكون الآخرون أصغر من أن يقولوا، لكن الإنصات الجيد للتفاصيل اليومية للطفل واحترام رغبته هو إحدى السبل التربوية التي يشدد عليها علماء النفس؛ لخلق علاقة متينة وآمنة يفهم فيها الصغير أنه ما من أسرار يتوجب عليه حجبها. ففي بعض الأحيان يتحدث الأطفال بطريقة ملتوية(8)، كأن يقولوا: "لا أحب أن أكون بمفردي مع الآنسة [م]"، أو "يتصرف السيد [ب] بشكل غريب معي".
يرجع صمت بعض الصغار إلى التردد والخشية من طَرْق منطقة محظورة ومعتمة في بيوت عربية كالجنس، حيث يحاط كل ما يتصل بذلك المفهوم بالتكتم والتحفظ، لذا فإن كثيرا من الصغار الذين يفشون ما تعرضوا له لعائلاتهم يُطلب منهم أن يلوذوا بالصمت خوفا من الفضيحة، وتزداد احتمالية طَيّ ذلك الموقف لو كان المتحرش فردا من الأسرة، ليُهمس للضحية حينها بأن تنسى ما قالته وتدع ما حدث جانبا، كي لا يتمزق شمل العائلة أو يُنظر إلى الضحية بتوجس لا يخلو من إدانة عما حدث لها، أو أن يرفض أحد الأبوين قبول تلك الحقيقة الصادمة فيدعي بأن شيئا لم يكن.
يصعب تقبل أمر كهذا، وإن ظل طي الكتمان داخل المعتدى عليه، لينال لاحقا من جانب في شخصية الإنسان، فيظهر في قلة الثقة بالنفس وفقدان الإحساس بالأمان والقلق والاكتئاب وضعف القدرة على التحكم في الانفعالات، لكن الأشد خطرا هو وضوح جوانب مَرَضية، كتنامي نزعة انتقامية أو عقد نفسية تتضح بشكل جلي في تصرفاته المستقبلية مع الأطفال، كأن يكون هو الجاني بممارسة اعتداءات على أطفال آخرين مستقبلا (9)، أو أن ترافقه الصدمة في الكبر وتشوش على إدراكه لبعض الأمور.
ماذا أفعل حين أتيقن من أن طفلي قد تعرض للتحرش؟
- أولا: شجّع صغيرك/تك على البوح
من المحتمل أن لا ينبس طفلك ببنت شفه، إلا أن القلق يساورك جراء ملاحظتك لعلامات محددة، أو ربما طَرَح الطفل بضعة أسئلة عليك أو أخبرك أحدهم أنه لاحظ شيئا ما أو أن طفلك قال شيئا ما. يمكنك تحفيزه على التحدث من خلال الاستفسار بأقوال مثل: "تبدو مضطربا، هل هناك أي شيء يقلقك؟"، أو "هل أنت بخير؟"، يمكنك أيضا طمأنته بقولك: "لا شيء كبير جدا أو صغير جدا أو مروع جدا لدرجة أنك لا تستطيع الحديث عنه".
حرض صغيرك أو صغيرتك على وصف دواخله/ـا بقول أشياء مثل: "متى شعرت بالضحك/الألم/الانزعاج؟"، أما إن كانـ/ـت على أعتاب المراهقة، فيمكنك أن تقول: "أستطيع أن أرى أنك تعاني من أجل شيء ما، أتساءل ما الذي يقلقك؟"، إن شعرت أنه قد يُفضِّل التحدث إلى شخص آخر موثوق بدلا منك، فيمكنك أن تسأل: "هل هناك شخص يمكنك التحدث إليه؟".
- ثانيا: محاولة التماسك وعدم الانفعال
لن يجدي الانفعال أو النحيب ما دام أنه لا يَطُول المتحرش بل يُوجَّه نحو الضحية، لذا حاول أن تظل هادئا حتى لا يلوم الطفل نفسه ويظن أنه المذنب. إذا أبديت ثورة واهتياجا فقد يُغيّر الطفل قصته أو يتراجع عنها(10)، لذا التقط أنفاسا عميقة، إذ يحفّز التنفس بعمق وببطء الجسم على التوقف عن إفراز هرمونات التوتر والبدء في الاسترخاء(11).
كن دافئا عطوفا تجاه طفلك، وتَقَبّل أنه قد يكون لديه مشاعر معقدة حول ما حدث، لكن لا تحاول افتراضها أو التكهن بها، ولا تخشَ من كسر ثقافة الصمت التي تنتهجها مجتمعاتنا والتي تشجع المعتدين على التمادي.
- ثالثا: اصغِ بانتباه إلى طفلك
استمع بآذان صاغية إلى كل ما يقوله طفلك، لعلك بهذا تبدد حالة الخوف والتوتر التي تعتريه وهو يروي ما حدث. نعم قد لا يخبرك بكل شيء دفعة واحدة، وإنما تدريجيا على مدار عدة أيام أو أسابيع، لذا تحلَّ بالصبر، وامنح صغيرك/تك الوقت لمشاركة ما بداخله/ـها. لا تقاطعه، دعه يبوح بالقصة بكلماته الخاصة دون تبديل ألفاظه، وبالسرعة التي تناسبه، وأكِّد له أنك ستستمع إليه مهما حدث.
إذا كنت بحاجة لطرح أسئلة فاجعلها مفتوحة، مثل "ماذا حدث بعد ذلك؟"، احصل على معلومات تفصيلية وكافية منه، وتعرف على الوضع الحقيقي، وكم عدد المرات التي تعرض فيها للتحرش وكيفيته ومكانه ووقته، فحينما يُسمح للطفل بالتعبير الحر يساعده ذلك على التخلص من المشاعر السلبية التي تسمح له بالانطلاق والتفريغ؛ ما يخفف من وطأة المشكلة على نفسه.
- رابعا: هدِّئ من روعه
صدِّق طفلك، وأخبره بذلك، حتى لو بدا لك بدايةً أن ما يتفوه به غير واقعي أو لا معنى له. بعد معرفتك لما حدث ابذل ما بوسعك حتى تمد الطفل بالراحة وتنفض عنه الضيق والجزع اللذين لم يفارقانه منذ أن تعرّض للموقف، وذلك بإظهار الحب له، وعدم سؤاله عن سبب عدم إخبارك بالأمر في وقت مبكر، حتى لا يلوم ذاته(12)(13).
أبلِغه مدى تفهمك لما تعرض له وأنه كان ضحية، وتقديرك لمشاعره الخائفة، مع التأكيد على أنه هو الذي يهمك، وأنك ستعاقب من تعرض له، وستعمل على حمايته. علِّمه كيف يتصرف مستقبلا، حدِّثه عن مدى شجاعته وأنه قد فعل الشيء الصحيح بالتحدث معك.
قد يطلب منك طفلك التعهد بعدم إخبار أي شخص آخر، لا تقطع وعودا يصعب الوفاء بها، يمكنك القول إنك ستبذل قصارى جهدك للحفاظ على سلامته؛ ما قد يعني أنك ستحتاج إلى التحدث إلى أشخاص آخرين، ولكنك ستخبره بما ستفعله.
- خامسا: التصدي للمتحرش واحتواء الطفل
أَبعِد الطفل عن الشخص الذي قام بالتحرش، واحمِه منه، وذلك بإخطار الشرطة أو هيئة مختصة. وإذا كان المتحرش يعمل في مكان يوجد فيه أطفال أو على احتكاك معهم، حذِّر الإدارة التي يعمل لديها من أجل حماية الأطفال الآخرين، وذلك بعد التأكد التام من أنه هو من قام بالتحرش. أما في حال اكتشفت أو شككت بأن طفلك قد تعرض للاعتداء الجنسي من قبل أحد أفراد الأسرة، فجد طريقة لإدارة مشاعرك، حتى تتمكن من التركيز على خلق بيئة آمنة لطفلك خالية من الأذى والحكم واللوم.
إن كانت هناك شكوك بإصابة الطفل بجروح أو رضوض، فخذ الطفل لإجراء فحص طبي ولتقديم العلاج اللازم له، ويجب عرضه على المختص النفسي لعلاج ما يسمى بتفاعل ما بعد الصدمة، وللتغلب على مشاعر الخوف والقلق التي يصاب بها الطفل بعد الاعتداء عليه، ولإعادة التأهيل النفسي للطفل بعد أن اختلط لديه مفهوم الجنس والحب، وبعد فقدانه الثقة في نفسه؛ حتى تتلاشى لديه الأعراض التي رافقته.
أدوات ستساعدك
تواصَل مع خط الأطفال الخاص ببلدك، على سبيل المثال: الأردن "110"، وفي السعودية "1098"، وفي مصر خط نجدة الطفل الخاص بالمجلس القومي للطفولة والأمومة "16000"، أو الهيئات الحقوقية لحماية الطفل، أو قدم بلاغا في مركز الشرطة.
يتحاور كل من "د. عصام سمير"، الحائز على دكتوراه في علم النفس، والمحامية والناشطة الحقوقية "لبنى دواني النمري" بشأن ما يتحتم أن يعيه الآباء عند تعاملهم مع أبنائهم، كعدم إكراههم على وصال من لا يطمئنون إليهم، والإبقاء على مساحات مفتوحة من العطف والتفاهم بينهما. إلى جانب ضرورة توعية الأطفال عن أجسادهم دون كلفة أو حرج، والحديث عن الحدود الفاصلة التي لا يمكن لأي أحد أن يتخطاها؛ ليدركوا ما هو التحرش وكيفية التصدي له.
اعرِض على صغارك كتبا وأفلاما توعوية حتى لا يقعوا في تلك التجربة مجددا على جهالة، وحتى لا يشعروا بالعزلة أو الانفصال أو الدونية، حتى يدركوا أن ذلك قد يحدث لأي أحد في أي مرحلة عمرية، للذكور والإناث على حد سواء.
إليك فيلما قصيرا، وكتابا مُصوَّرا، تُفسِّر بسرد قصصي بصري عدة محاور تفصيلية تخص التحرش، مثل ما هو اللمس الآمن كالذي يصدر عن الأم والأب وغير الآمن الذي لا يبعث على الراحة، أكان صادرا عن غرباء كانوا أم أصدقاء.
"خط أحمر" (إصدار دار الساقي – بيروت)
————————————————————————————
المصادر والمراجع
- Estimating a Child Sexual Abuse Prevalence Rate for Practitioners: A Review of Child Sexual Abuse Prevalence Studies, Catherine Townsend (2013)
- https://www.d2l.org/child-sexual-abuse/prevalence/
- https://www.rainn.org/statistics/children-and-teens
- https://www.parentsprotect.co.uk/warning-signs-in-children-and-adults.htm
- https://www.rainn.org/articles/warning-signs-young-children
- https://www.enoughabuse.org/gtf/possible-signs-in-children.html
- ماذا تعرف عن التحرش الجنسي؟ رقية بنت محمد بن إبراهيم الفلة. العربي للنشر والتوزيع (2018)
- https://raisingchildren.net.au/school-age/safety/child-sexual-abuse/child-sexual-abuse-what-to-do
- ماذا تعرف عن التحرش الجنسي؟ رقية بنت محمد بن إبراهيم الفلة. العربي للنشر والتوزيع (2018)
- https://www.ywca.org/wp-content/uploads/WWV-CSA-Fact-Sheet-Final.pdf
- https://www.psychologicalhealthcare.com.au/blog/keep-calm-pressure/
- https://www.thinkuknow.co.uk/parents/articles/Finding-out-your-child-has-been-sexually-abused-or-exploited/
- https://www.stopitnow.org/ohc-content/what-should-i-do-after-a-child-tells