تحت المجهر صورة عامة - - الأشرعة السوداء
تحت المجهر

الأشرعة السوداء

تتناول الحلقة سقوط غرناطة بعد نهاية قرون من الحكم الإسلامي، أسرٌ أندلسيةٌ هربت إلى غرناطة ورسمت لأنفسها حياةً أندلسيةً أخرى على أرض المغرب.

– سقوط غرناطة آخر قلاع الأندلس
– حياة أندلسية في المغرب

undefined

سقوط غرناطة آخر قلاع الأندلس

محمد رزوق/ كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء: يجب أن نطرح سؤال لماذا سقطت غرناطة، والعالم الإسلامي بدوله وبجيوشه موجود آنذاك، لماذا؟ الأندلسيون في هذه الفترة بعثوا رسائل عديدة للمغرب، بعثوا لمصر المماليك، بعثوا للأتراك العثمانيين، ولكن الرد كان باهت جداً.

عبد القادر بلعيسى: ها هما بطلا النكبة الكبرى للأندلسيين الملكة إيزابيلا والملك فيرديناند، قادا حملة مطاردةٍ رهيبة ضد الأندلسيين والمورسكيين، مباشرةً بعد سقوط غرناطة. المورسكيّون، أولئك الأندلسيون الذين عاشوا نكبة سقوط الأندلس وعاشوا تحت الحكم المسيحي تعرّضوا لشتى أنواع القهر والتقتيل والطرد، في ظروفٍ أقل ما يقال عنها أنها كارثية. انهارت الأندلس أخيراً بعد قرونٍ طويلةٍ من الحضارة التي أعطت العالم الكثير. وفي طول البلاد وعرضها كانت محاكم التفتيش تشتغل دون توقفٍ ليل نهار.

محمد رزوق: 1500 من جوج سيُصدر قرار التعميد، وسيصدر قرار يمنع استعمال اللغة العربية، استعمال الأسماء العربية، استعمال اللباس العربي، أن يتخذوا المورسكيين عبيداً، إلى غير ذلك، فكل هذا أصبح ممنوع. فإذاً المورسكيون أصبحوا يتعلمون سراً بعض مبادئ العربية والدين الإسلامي. النتيجة هي أن هؤلاء المورسكيين سوف يفقدون لغتهم وسوف يكتبون بلغة إسبانية ولكن بحروف عربية، وهي التي تُسمى بالإسبانية الخاميرو.

عبد القادر بلعيسى: لم يكن التنصير الإجباري فقط ما عاناه المورسكيون، بل أيضاً فصول تعذيبٍ رهيبة تحت الإشراف المباشر للقساوسة، وإحراقهم أحياء في الساحات العامة.

محمد رزوق: سنة 1606، بعد فيليب ثاني أتى فيليب ثالث، وبعد اجتماعات وقرارات وإنشاء محاكم تفتيش، إلى غير ذلك، واقتناع الإسبان بأنهم لن ينجحوا في ذلك، صدر قرار طرد هؤلاء المسلمين، وقد ظل هذا الطرد لغاية تقريباً 1614.

عبد القادر بلعيسى: ها هو مضيق جبل طارق اليوم بعد أزيَد من 500 عام على النكبة، ضفتان متقابلتان، صوامع هُدِمت في الضفة الشمالية وبُنِيت على الضفة الجنوبية. هنا في هذه القُرى المنتشرة على السواحل الجنوبية لمضيق جبل طارق يعيش أحفاد أولئك الأندلسيين الذين شُرّدوا قبل خمسة قرون. سكان قرية الدّهادة، واحدةٌ من مئات القرى التي أُنشئت على مقربةٍ من سواحل مضيق جبل طارق من طرف أولئك القادمين من الأندلس المنهارة، وكأن تلك القرون الثمانية لم تكن إلا حلماً أو خِلسة المختلس. كانوا يتوقعون العودة في أي وقت، ولم يعودوا. أحفاد أولئك الأندلسيين ظلّوا يختزنون الكثير من ذكريات الماضي الحزينة. من تلك الجبال البعيدة، والقريبة في آن، بدأت المأساة.

[مشاهد تمثيلية]

عبد القادر بلعيسى: قبل 500 عامٍ كان هذا المشهد مألوفاً في مضيق جبل طارق، أسرٌ أندلسيةٌ تبحر في مراكب صغيرةٍ أو كبيرة نحو الجنوب باحثةً عن أرضٍ جديدة تقيها هوان وتنكيل محاكم التفتيش. لم يكن البحث عن حياةٍ جديدةٍ بعيداً عن فردوس الأندلس أمراً سهلاً. كانوا يبحثون عن أمكنةٍ وتضاريس تشبه تلك التي نزحوا أو طُردوا منها في الأندلس، ليس في المغرب فقط بل تكرّر نفس المشهد في الجزائر وتونس وليبيا وبلدانٍ أخرى. إن آلاف الأسر الأندلسية التي نزلت في شمال المغرب كانت في أغلبها معدمةً ومنهكة لسببين أساسيين، الأول يعود إلى تلك السنوات الطويلة التي تعرّضت فيها للإذلال على يد محاكم التفتيش، والسبب الثاني هو رحلاتها المضنية والقاسية عبر البحر نحو الشواطئ المغربية. هؤلاء كانت بدايتهم صعبة في وطنهم الجديد، وأحفادهم اليوم يتذكرون تلك الأيام البعيدة بمشاعر هي خليطٌ من الحزن واليأس واعتزازٌ بالانتماء إلى حضارةٍ منحت الكثير للعالم.

[نهاية المشاهد تمثيلية]

عبد السلام الهواس/ أحد أحفاد المورسكيين: في قضية الأصل عندما نذهب للبحث عن أصولنا ونسأل الأجداد، يقولون لنا إنهم جاؤوا من الأندلس، دخلوا من هذا الطريق، إلى هذه الأرض وعمروا قبيلة أنجرة. ولهذا نجد كثيراً من قرى قبيلة أنجرة تحمل أسماء مشابهة لأسماء قرى في الأندلس، مثل الفحامين وبني عتاب، والزهارة الموجودة في القصر الصغير نجد مثلها في إسبانيا، ومع ذلك نجد الناس الذي جاؤوا إلى هنا يذهبون للسكن في أنجرة، لكن يمارسون أعمال الفلاحة هنا. وربما كانوا يحتفظون بأمل العودة إلى بلادهم، لأنهم جاؤوا مطرودين.

"
بعد سقوط غرناطة طُرد من إسبانيا ما يقرب من 300 ألف مسلم معظمهم انتقلوا إلى شمال أفريقيا وبالأخص إلى المغرب
"
  المختار الهراس

المختار الهراس/ كلية الآداب بالرباط: بعد سقوط غرناطة أتت أعداد معينة من الأندلسيين إلى المغرب وإلى المنطقة الشمالية. ولكن الهجرة المكثفة أو الطرد المكثّف الذي حدث في الأندلس تم ما بين 1606 و 1614، يعني في هذه الفترة بمعنى 120 سنة بعد سقوط غرناطة، في هذه الفترة طُرد من إسبانيا ما يقرب من 300 ألف مسلم طُردوا من إسبانيا ومعظمهم أتوا إلى شمال إفريقيا وبالأخص إلى المغرب. يعني نسبة من هؤلاء أتوا إلى أنجر، وهناك أسماء تدلّ على بعض الأسر الأنجرية، مثلاً في أنجرة نجد أسرة بويير وأسرة القصيبي وأسرة نوينو ، هذه أسماء يعني إسبانيّة.

مشارك: الخبز أصبح مراً والعيش مراً. المرء عندما يهاجر إلى المدينة على الأقل يتخلص من المعاناة، أما هنا في البادية فلا يرتاح المرء.

مشارك: كل واحد يجد نصيبه مختلفاً يا سيد محمد.

مشارك: يقولون لك البناء العشوائي ممنوع، بالمواصفات التي يطلبون، وفق شروط المهندس التي تكلّف عشرين أو ثلاثين مليوناً. وهنا نجد الشخص يربي البقرة يأكل من حليبها، وينتظر مولودها ليبيعه ويوفر بعض الضروريات. قديماً كانت الأرض متوفرة، أما الآن فلا نستطيع شراء بقعة أرض صغيرة.

مشارك: في الحقيقة المواصفات ليست هي المشكل، ولكن الناس لا يحسنون التصرف.

عبد القادر بلعيسى: تتشابه المنازل في هذه القرى مع المعمار القديم في القرى الأندلسية، اللونان الأبيض والأزرق يطغيان على باقي الألوان، والنساء يمضين اليوم في حياكة ملابسهن بأنفسهن، وتربية الدواجن والحيوانات. حياكة المناديل صنعةٌ توارثها سكان هذه المناطق أباً عن جد. المنديل المخطط بالأبيض والأحمر ظل رفيقاً دائماً لنسوة المنطقة. كان زياً من أزياء الأندلس، وفيه حملن أمتعتهن خلال عمليات الطرد والترحيل، وصرن اليوم يتّزرن به كما يتّزرن بتاريخٍ بعيد. الزمن لم يتحرك كثيراً هنا، الناس حافظوا على أزيائهم ولهجتهم وتقاليدهم وتدبير معاشهم اليومي على مرّ القرون. الحقول المجاورة لمضيق جبل طارق، تناوبت فؤوسٌ كثيرة على حرثها، وانتقلت من يدٍ إلى يد ومن جيلٍ إلى جيل. ومع مرور الوقت تحوّل حلم العودة إلى الأندلس، لدى هؤلاء السكان، إلى مستحيل. وربما أعطى الناس ظهورهم للبحر ولموطنهم القديم لأن كل شيءٍ انتهى في نظرهم، ومع كل جيلٍ جديد بدا أن النسيان أصبح سيداً. الشاي سيد الضيافة ورمز الالتئام الأسري في المغرب. وملامح أفراد أسرة عبد السلام الهواس تشي بتاريخٍ بعيدٍ على الضفة الأخرى. إنه تاريخٌ تكتفي بنقله اليوم تلك الأهازيج التي ظلّت على مرّ القرون سراً تتناقله الأجيال كما تتوارث مفاتيح منازلها في الأندلس، أو كأنها تحتج على نسيانه المتعمد من جانب المغاربة والإسبان. قبيلة أنجرة، كبرى القبائل الأندلسية في شمال المغرب، والتي تمتد من طنجة غرباً إلى تطوان وسبتة شرقاً. هذه القبيلة التي يتحدر أغلب سكانها من مدينة غرناطة وأحوازها ظلّت على مدى مئات السنين منغلقةً على نفسها مكتفيةً بذاتها.

علي الريسوني / كاتب ومؤرّخ: هذه القبائل، أنجرة وغيرها في شمال المغرب، قاست، الذين هُجّروا من الأندلس بطبيعة الحال هجّروا بظلم وبحيف وبجور بحكم القهر والتسلط والتجبّر، فظلّت في نفوس الناس هناك خلفية أنهم يكرهون الأجنبي ويكرهون ذلك الغادر الذي غدر بآبائهم وأجدادهم. لذلك عندما كانت تقع المناوشات أو الحروب، الصدامات والوقائع كانوا يبيّنون في مواقفهم شجاعة كبيرة جداً، بسالة كبيرة جداً، بطولة كبيرةً جداً، ضد الغزاة وضد المستعمرين.

المختار الهراس: في أنجرة نجد بعض الدواوير يعني تحمل أسماء تدل على هذه المقاومة وهذا الجهاد، الذي كان قائماً في هذه المنطقة، مثلاً نجد متجر اسمه القلعة، والمنصورة.

عبد القادر بلعيسى: قريباً من مدينة سبتة، التي تحتلها إسبانية منذ حوالي خمسة قرون، توجد قرية بليونس وهي كلمةٌ محوّرةٌ عن كلمة (بليونس) بالإسبانية والتي تعني قمم الجبال. هذه القرية أغرَت في الماضي أمراء الأندلس أنفسهم ودفعتهم إلى ترك قصورهم في قرطبة وغرناطة وإشبيلية واللجوء إليها لبعض الوقت للاستجمام والابتعاد عن هموم الحكم ومتاعب السياسة. كان أمير قرطبة، المنصور، يتردّد عليها باستمرار مثلما كان يفعل أمراء آخرون. يقول عنها الرحالة والجغرافي الإدريسي، إنها جنةٌ تنبت في حقولها فواكه وثمارٌ من كل الأنواع. وعندما سقطت الأندلس فإنها استقبلت أندلسيين مفجوعين بضياع وطنهم، بعدما كانت تستقبل في السابق أمراء وشعراء أندلسيين. لم يكن أولئك المطرودون هم من عرب الأندلس، كما يردّد الكثيرون الذين يتحدثون عمّا يُسمى طرد العرب من الأندلس، بل إن أغلبيتهم الساحقة من أبناء البلاد الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام، الذي ساد شبه الجزيرة الإيبيرية قرابة ثمانية قرون. وعندما حل الكثير من هؤلاء بالمغرب فإنهم أنشؤوا حواضر خاصةً بهم، أحياناً دخلوا بلداتٍ صغيرة وعملوا على توسيعها وضخّ شرايين حياةٍ جديدة في عروقها، وأحياناً بدأت تلك الحواضر أو القرى من ضربة فأس.

علي الريسوني: الذين هاجروا إلى المغرب عوائل كثيرة، وهم الآن نعدهم بالملايين، إذا حسبنا، عددنا الأفراد من الأطفال والنساء والرجال ذوو الأصول الأندلسية، نجدهم بالملايين، إذا عددنا مَن هاجر طواعيةً قبل المرسوم المشؤوم أو مَن هاجر بعد المرسوم المشؤوم نجد أن العنصر الأندلسي بالمغرب قد يتراوح ما بين ثلاثة ملايين إلى خمسة ملايين من السكان الأحياء، الذين ما زالوا أحياء إلى الآن في بلادنا المغربية. نصيب شفشاون كان نصيباً ملحوظاً، حيٌ بأكمله، حي ريف الأندلس، الأسر التي كانت تعيش هناك في الأرياف، في الجبال، في البوادي اختارت هذه الناحية. هناك مشابهةٌ كبيرة بين جبال البشارات وبين جبال شفشاون، جبل مغّو، جبل القلعة، جبل أبي حاجة، يتشابهون كثيراً مع البشارات، مع سلسلة الجبال التي توجد هناك في جنوب الأندلس.

[فاصل إعلاني]

حياة أندلسية في المغرب

عبد القادر بلعيسى: وجد الأندلسيون في شفشاون صورةً مشابهةً لغرناطة، لذلك اجتهدوا ورسموا لأنفسهم حياةً أندلسيةً أخرى على أرض المغرب، لكنهم ظلّوا دائماً متمسكين بالجذور، موزّعين أسماء وطنهم القديم على وطنهم الجديد، مثل زنقة غرناطة، أو ريف الأندلس.

علي الريسوني: هذه العوائل منها من اندثر وانقطع ولم يبق له أثر، بمعنى أنها أسر لم تستمر إلى الآن، هناك أسرٌ أخرى ما زالت إلى الآن حية فلم ينقطع عَقِبها.

عبد الغفار العاقل / أحد أحفاد الأندلسيين: عائلة العاقل تحتفظ بإرث عائلي كبير هو مفتاح، وللحقيقة لا بد أن أذكر أن هذا المفتاح يُحتفظ به لسنين ولسنين طويلة. وكما قلت لإحدى الجرائد الإسبانية، لا يمكن أن أؤكد بأن هذا المفتاح ينتمي إلى الأندلس أو إلى غرناطة، ولكن بما أن أجداد أجدادي احتفظوا بهذا المفتاح طيلة هذا الوقت، إذاً فلا بدّ أن نعتز به سواءٌ كان من الأندلس أو من ثقافة الأندلس.

عبد القادر بلعيسى: أما أزقة شفشاون العتيقة أو بناياتها فلا تختلف عن أي بلدةٍ عتيقة في إسبانيا المعاصرة، خصوصاً منطقة الجنوب الإسباني التي كانت آخر قلاع الحكم الإسلامي الأندلسي. وفي تفاصيل بناء شفشاون صورٌ طبق الأصل من مدينة غرناطة أو مدنٍ أندلسيةٍ أخرى، لكن الفرق كان فقط في الإمكانات المادية والبشرية البسيطة التي كانت متوفرة للأندلسيين النازحين، والتي لم تسعفهم من أجل بناء مدينةٍ تضاهي غرناطة.

[مشاهد سينمائية]

عبد القادر بلعيسى: على إثر الحملات الصليبية التي عرفها المغرب، قام البرتغاليون سنة 1437 بتدمير مدينة تطوان عن آخرها.

[نهاية المشاهد السينمائية]

عبد القادر بلعيسى: وبعد سقوط غرناطة حلّ بالمدينة سنة 1493 مجموعاتٌ كبيرة من الأندلسيين قادمين من مدنٍ مثل موتريل وباثا ولاروندا ولوخا وغرناطة، يتزعّمهم القائد الغرناطي أبو الحسن علي المنظري فقام بترميم المدينة.

"
ارتبط تاريخ تطوان بالعنصر الأندلسي والمورسكي منذ القرن الخامس عشر
"
  محمد بن عبود

محمد بن عبود/ كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان: لقد ارتبط تاريخ تطوان بالعنصر الأندلسي والمورسكي منذ القرن الخامس عشر، نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، عندما هاجر المنظري الغرناطي من غرناطة إلى تطوان مع مجموعة من الأندلسيين وقرّر أن يؤسس مدينة تطوان في الموقع الذي توجد فيه مدينة تطوان العتيقة الآن.

عبد القادر بلعيسى: وكما هو حال الأندلسيين الشفشاونيين الذين استقروا على سفح جبل، فكذلك كان حال أندلسيي تطوان أو تطّاون حسب اسمها الأصلي، وربما كان ذلك الاختيار عملاً مقصوداً أو لا شعورياً من أجل حماية أنفسهم بالجبال، بعدما تعذّر عليهم الاحتماء بإخوانهم المسلمين، سواءاً في المغرب أو في المشرق. احتمت تطوان أيضاً بأسوارها تحسباً لكل طارئ، لأن الإسبان كانوا يتتبعون خطوات الأندلسيين ويرصدون تحركاتهم، لذلك استعدّ الأندلسيون التطوانيون لكل الاحتمالات.

محمد بن عبود: القلعة التي بناها المنظري تعكس الهندسة المعمارية الأندلسية الغرناطية العسكرية. هناك مثلاً قوس العدالة الذي يوجد بجانب القلعة، وهو نسخة مصغّرة طبق الأصل للقوس الذي يوجد في مدخل الحمراء بغرناطة.

منتصر لوكيلي / باحث في الآثار وتاريخ الفن المعماري: الطرد المفاجئ والوحشي الذي تعرّض له الأندلسيون في سنة 1492، حمل هؤلاء المدجّنون أحلامهم وأفكارهم وفنونهم وصنائعهم، وبدؤوا يؤثّثون الفضاء المعماري المغربي ببعض المشاهد الفنية التي لم تكن تُمثَّل بنفس الشكل. ففي مدينة الرباط عمد المورسكيّون إلى تأثيث مداخل الأبواب بإطاراتٍ من الحجر المنحوت تعلوها عقودٌ وأقواسٌ مكتملة الحزام أو على شكل حافر الحصان، وبعضها يأخذ شكلاً هندسياً يُسمى في تاريخ العمارة بالخماسي أو بالسداسي كلّما تكرّرت الأبعاد أو نقاط الانطلاق. طبعاً هذه المشاهد لم تكن غائبةً عن الجغرافية الفنية المغربية، بيد أن المشهد الأندلس حمل معه تلك اللوحات التي افتقدها في غرناطة أو إشبيلية وأثّث بها فضاء الرباط أو فضاء مدينة فاس، ثم عمد في خطوةٍ أكثر جرأةً إلى خلق فضاءٍ جديدٍ هو فضاء مدينة تطوان التي يمكن اعتبارها بالحق مدينةً أندلسيةً خالصةً في شمال إفريقيا.

عبد القادر بلعيسى: من بين كل المدن المغربية التي استقر فيه الأندلسيون، ظلت تطوان الأكثر محافظةً على طابعها الأندلسي، وفي هذه المدينة التي لا تبعد سوى بأقل من 100 كيلومترٍ عن شفشاون المجاورة، حافظ السكان على كل تقاليدهم في حياتهم العامة والخاصة وأنشؤوا فيها مجتمعاً أندلسياً مغربياً فأبدعوا في مجال الطبخ والموسيقى والمعمار. في المدينة توجد المئات من الأسر التي تحتفظ بألقابها العائلية الأندلسية التي نزحت بها من الأندلس، وهي أسماء إما إنها عربيةٌ قحّة بالنسبة للذين نزحوا من الأندلس قبل السقوط النهائي لإمارة غرناطة، أو أسماء إسبانية للذين عاشوا هناك تحت حكم ملوك الكاثوليك، وهم الأندلسيون الذين يُطلق عليهم اسم المورسكيين، ومن بعض أسمائهم مولاتو وميدينا ومورينو وسالاس وتورّيس وكريسبو وبالامينو وكاستيلو ومارسو وغيرها من الأسماء.

حسناء داود / محافظة الخزانة الداودية: العائلات الأندلسية، بالخصوص التي سكنت مدينة تطوان، يُلاحظ أنها حافظت بصورةٍ واضحة جداً على أصولها وعلى مظاهر حضارتها وأصالتها العريقة الموروثة من الأندلس. يُلاحظ ذلك مثلاً في كون هذه العائلات قد قصدت أن تثبت في كل وثائقها العدلية أصلها الأندلسي، فكانت الوثيقة، وثيقة الزواج مثلاً أو الوصية أو الهبة أو البيع أو الشراء أو أي وثيقة عدلية، عندما يُكتب فيها اسم المعني بالأمر، فإذا كان من أصلٍ أندلسي يُضاف إلى اسمه واسم عائلته وصفه بكونه أندلسي الأصل، هذا استمر لعدة قرون.

عبد القادر بلعيسى: الأزياء الأندلسية التقليدية لا يزال أغلبها يُستعمل في المدينة وأحوازها خصوصاً الأزياء النسائية والحليّ. هناك أيضاً الأثاث المنزلي والأفرشة التي تبدو وكأنها لا تزال تعيش وهج الحضارة الأندلسية في قلب شبه الجزيرة الإيبيرية، منازل بأرجاء فسيحة ونقوشٌ بديعة ونافوراتٌ في الباحة، منازل تحمل أسرار تاريخ الأجيال الغابرة إلى الأجيال الحاضرة. ويتفق مؤرخو تطوان مثل الفقيه الرهوني ومحمد داود وعرفة بن عزّوز على أن لكل بيتٍ تطوانيٍ حكاية، وأن تمسّك الأسر التطوانية بالنمط المعماري الأندلسي له دلالاتٌ نفسية تتمثل في الحنين إلى الديار وفراق الأحبة والأهل، لذلك جمع البيت التطواني كل ما هو جميل. كانت الموسيقى أيضاً وجهاً آخر من محاولة الأندلسيين الدائمة مداراة جراحهم العميقة، الموسيقى في المدن الأندلسية المغربية إرثٌ آخر من التراث الأندلسي المنقول إلى المغرب، ومع أن الطرب الأندلسي ليس هو الصنف الوحيد، إلا أنه اليوم الأكثر شهرةً والأوسع استماعاً في مختلف مناطق المغرب.

سميرة القادري / فنانة وباحثة في التراث الأندلسي: والموسيقى الأندلسية ربما يمكن أن نقول أنها نُقلت إلينا عن طريق النقل الشفهي، فالنقل الشفهي جد مهم، لأن في ذلك الوقت لم تكن هناك مدوّنات أو موسيقى مكتوبة. فالموسيقى الأندلسية في المغرب هي الموسيقى الوحيدة التي بقيت صادقة لأنها لم تتأثر بالموسيقى العثمانية، لأن المغرب لم يتم استيطانه بطبيعة الحال من طرف الإمبراطورية العثمانية. فهناك دراسة كثيرة حول هذا الموضوع، هل الموسيقى التي كانت متواجدة في بلاد الأندلس، هل هي نفسها تُعزف بنفس الآلات، بنفس الطريقة؟ فهذا بين التشكيك وبين التصديق. ولكن يمكن أن نقول أن أهم شيء نُقل إلينا هي تلك الروح، تلك الروح الأندلسية.

عبد القادر بلعيسى: موسيقى اللادينو، صنفٌ موسيقيٌ أندلسي كان يُغنّى باللهجة الأندلسية الإسبانية في مراحل متأخرةٍ من تاريخ الأندلس. وهو إن كان مستمراً إلى اليوم فلِكَي يكون قطعةً أخرى من أثاث الذاكرة الأندلسية في المغرب. ذاكرة الأندلس في المغرب تمتد من تطوان وشفشاون نزولاً حتى الرباط وسلا. بين سلا والرباط نشأت إمارةٌ أندلسيةٌ مورسكيةٌ خالصة، كان أبطالها من عتاة القراصنة أو من كبار رواد الجهاد البحري، كلٌ يراهم حسب وجهة نظره.

محمد العربي المساري / صحفي باحث: تجمُعوا في القصبة بنيّة المطاردة الحثيثة لكل باخرةٍ إسبانية تمرّ من هناك، ولكن هذا كان مجرّد انتقام من قومٍ طردوهم من بلدتهم التي اسمها أورناتشوس. والمسألة الثانية التي كانت تشغلهم هو أنهم يقيمون مدةً قصيرة ويعودون إلى بلدانهم، إلى بلدتهم بالضبط، لأن الأمر يتعلّق في الرباط بسكان مدينة بكاملها انتقلت إلى هنا.

عبد القادر بلعيسى: سكان مدينة هورناتشوس انتقلوا إلى هذا المكان بالضبط أوائل القرن السابع العشر، كانوا من أواخر المورسكيين المطرودين، لذلك عندما استقروا في قصبة الوداية على حافة نهر أبي رقراق، فإنهم أثاروا استغراب وفضول السكان المحليين بأنهم كانوا يشبهون النصارى في كل شيء، في عاداتهم ولباسهم وأكلهم وملامحهم، كانوا أيضاً لا يتحدثون العربية لأنهم طُردوا بعد أزيد من 120 سنة بعد سقوط غرناطة. كانوا في نظر الكاثوليك إسباناً مسلمين، وكانوا في نظر المغاربة مسيحيين، على الأقل حسبما يوحي به مظهرهم ونمط عيشهم، وهو ما جعل المسلمين المحليين يطلقون عليهم لقب مسلمي الرباط. في هذا المكان أسس موريسكيو هورناتشوس إمارتهم التي كانت تحكمها قوانين خاصة.

محمد العربي المساري: الأمر يتعلق بهيئة اسمها الديوان وهي تتألف من 12 فرداً، يختارون كل سنةٍ واحداً منهم يرأس الديوان، وكان هذا على إثر السماح لهم بالاستقرار في قصبة الوداية بالرباط. كانت تُسيّر أمورها بكيفية ذاتية، بطبيعة الحال لهم تبعية للحكم المركزي ولكنهم مستقلون في شؤونهم.

عبد القادر بلعيسى: أسوار الوداية العتيقة لا تزال إلى اليوم شاهدةً على إمارةٍ كانت تتمتع بحكمٍ ذاتيٍ موسّع. وغير بعيدٍ عن الوداية هناك الحدائق المجاورة لصومعة حسّان في الرباط المطلة على نهر أبي رقراق. لكن هناك امتدادتٌ أندلسيةٌ خارج الرباط وسلا نحو فاس أيضاً.

إدريس فاسي فهري / أستاذ التعليم العالي بجامعة القرويين: مدينة فاس تتكون في الحقيقة من مدينتين هي التي تُسمى بالعَدْوَتين، ويمر بينهما النهر الذي يُسمّى بوادي الجواهر وهو الذي يفصل المدينتين عن بعضهما. إحداهما عَدْوة القرويين والأخرى عَدْوة الأندلس. وعلى هذا الأساس جاء في فاس جامع القرويين وجامع الأندلس، يعني هو الجامع الذي تقام فيه صلاة الجمعة، لأنه الأمر مبني على الأصول في المذهب المالكي أنه لا تقام الجمعة بالمِصر مرتين، بحيث يوجد في المصر الواحد مسجدٌ جامعٌ واحد.

عبد القادر بلعيسى: ظلت فاس على مدى قرون تلعب دور العاصمة العلمية للمغرب، ولعب فيها علماء وشيوخ الأندلس دوراً محورياً. الكثير من أندلسيي فاس نزحوا إليها من مدينتي إشبيلية وقرطبة، سواءٌ قبل نهاية الحكم الإسلامي في الأندلس أو بعده. وملامح الكثير من سكانها لا تزال تعطي الدليل حتى اليوم على أن عيون التاريخ لا تنام.

إدريس فاسي فهري: نقل هؤلاء المهاجرون من هذه الأسر معهم معارفهم وطبخهم وعاداتهم وتقاليدهم، وطرقهم في البناء، ومهاراتهم الصناعية، التي بلغت في الأندلس في هذا العهد شأواً كبيراً، وكانت سبباً في انتقالٍ، أو في تلاقحٍ فكريٍ، عزّ نظيره في تاريخ حضارةٍ من الحضارات، بحيث انضاف إلى تاريخ فاس تالِد، تاريخٌ جديد ونفسٌ جديد، خصوصاً يعني، أوجد لفاس بعداً وإشعاعاً ثقافياً وحضارياً في مختلف جوانب الحضارة، في هذه الفترة التي عرف فيها المغرب اضطرابات لم يشهدها في أي فترةٍ من تاريخه.

عبد القادر بلعيسى: خسمة ملايين مغربي من أحفاد المورسكيين يُطالبون بالجنسية الإسبانية، هذا ما قالته صحيفةٌ إسبانيةٌ، معلقةً بتهويل على مشروع قانونٍ في البرلمان المحلي للحكومة المحلية في إقليم الأندلس، الذي يدرس إمكانية منح الجنسية الإسبانية لأحفاد الأندلسيين شرط إقامتهم في إسبانية لمدةٍ لا تقل عن سنتين. قرونٌ كثيرةٌ مرّت لكن الأندلسيين المغاربة لا يزالون في قلب الحدث.

مهدي فلوريس/ باحث في تاريخ الأندلس: تم تقديم اقتراحٍ يتمثّل في إجراءٍ بسيط، هو أن يشمل قانون الأحوال المدنية في إسبانيا الأندلسيين إلى جانب فئاتٍ أخرى، في الفقرة الخاصة بقانون منح الجنسية، أسوةً بالأمريكيين اللاتينيين والفلبينيين واليهود السيفارديم وغيرهم. إنه تغييرٌ بسيط ويمكن تطبيقه بسهولة إذا كانت هناك رغبةٌ سياسية، لأن ذلك لا يتطلب تغيير الدستور. لكن الحكومة المحلية في إقليم الأندلس والحكومة المركزية الإسبانية لم تستجيبا لهذا الاقتراح. والسؤال الذي نطرحه نحن هو، كيف أن أشخاصاً لهم 14 اسماً عائلياً أندلسياً لا يستطيعون الحصول على امتيازات منح الجنسية الإسبانية، في وقتٍ يُمنح فيه الحق للفلبينيين، الذين لا يتحدثون الإسبانية وليست لديهم أي روابط دمٍ أو نسبٍ مع إسبانيا؟

عبد القادر بلعيسى: طنجة مدينةٌ رابضةٌ على حافة مضيق جبل طارق منذ الأزل، منها عبرت جيوش طارق بن زياد لفتح الأندلس، وإلى شواطئها رجعت نسبةٌ كبيرةٌ من الأندلسيين، مطرودين من بلادهم، في قوارب الحزن، تدفع الرياحُ أشرعَتها السوداء نحو المجهول. البحر هو نفس البحر، والمسافة بين الضفتين لم تتغير قيد أنملة، لكن العيون اختلفت في النظر إلى كِلا الضفتين. السفن تعبر المضيق اليوم بمسافرين بجوازات سفر وتأشيرة، والضباب الذي يخيّم على المنطقة يمحو كل أثرٍ لضفاف الأندلس التي صارت اليوم ذكرى للتاريخ، تماماً كما لو أن تلك الحقبة الطويلة رُسمت على سطح الماء.