رغم حسم ملف ناغورني قره باغ خلال 2023.. لماذا لا تتصالح باكو و يريفان؟

تبدو تصريحات كل من رئيس أذريبجان إلهام عليف (يمين ) ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان (يسار ) متناقضة رغم استعدادهما للتفاوض على اتفاق السلام (الفرنسية)

موسكو– شكلت عودة إقليم قره باغ إلى السيادة الأذربيجانية أهم حدث شهده عام 2023 بالنسبة إلى باكو ويريفان على حد سواء.

فبعد أزمة استمرت لعقود بين البلدين الجارين، تخللتها حروب ومناوشات، انتهى الملف الذي لم تجد الحلول السياسية سبيلًا إليه، بعد هجوم خاطف شنته القوات الأذربيجانية في 19سبتمبر/ أيلول الماضي، وانتهى بوضع حد لحالة الانفصال التي استمرت نحو 30 عاما.

ولم يمر يوم واحد على العملية، حتى أعلنت سلطات الإقليم الاستسلام بعد سقوط سريع لتشكيلاتها المسلحة، التي لم تستطع الصمود طويلا أمام التقدم السريع للقوات الأذربيجانية الأكثر عددا والأفضل تسليحا.

وكما انتهت سريعا العملية العسكرية الأذربيجانية، انتهت كذلك وبشكل شبه نهائي معضلة مصير السكان الأرمن، الذين شكلوا طوال السنوات الماضية الأغلبية الساحقة من سكان الإقليم، بعد أن قرروا بشكل جماعي الانتقال إلى أرمينيا، وسط حديث عن احتمال تعرضهم لعملية إبادة، نفتها باكو بشدة.

ومع إعلان سلطات الإقليم حل نفسها وتسليم يريفان رسميا بالأمر الواقع الجديد، تكون العلاقات بين باكو ويريفان قد دخلت منعطفا جديدا، لا سيما مع تأكيد رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، أن نقل سيادة قره باغ إلى أذربيجان، تبين أنه أمر لا مفر منه، نتيجة لعمليات التفاوض في عام 2016، لكن هذا الموضوع لم تتم مناقشته في أرمينيا لأسباب نفسية وعاطفية، حسب تعبيره.

أما باكو، فباشرت في عملية إعادة دمج للإقليم سهلتها موضوعيا موجات النزوح الجماعي لأرمن قره باغ إلى أرمينيا. وتعتزم أذربيجان توطين أكثر من 140 ألف لاجئ سابق في الإقليم بحلول نهاية عام 2026.

ملفات عالقة

ورغم تصريحات مسؤولي البلدين حول الاستعداد للتفاوض على اتفاق سلام بينهما، فإن التصريحات التي تصدر من باكو ويريفان بشأن المستقبل الاقتصادي للمنطقة، تبدو متناقضة.

فبينما قدم رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان ما سماه مشروع "مفترق طرق العالم"، الذي يتضمن تطوير اتصالات النقل مع جميع الجيران (جورجيا وأذربيجان وإيران وتركيا)، رد عليه حكمت حاجييف مساعد الرئيس الأذربيجاني، بأن باكو لم تعد بحاجة إلى الممر عبر الأراضي الأرمينية.

المسألة الثانية المهمة هي ترسيم الحدود، إذ تعتبر يريفان أن خرائط هيئة الأركان العامة للاتحاد السوفياتي التي تم وضعها عام 1975 يجب أن تستخدم أساسا لتنفيذ هذا العمل. وأكد باشينيان أن بلاده تعترف بأذربيجان داخل الحدود السوفياتية. أما إلهام علييف، فيصر على ما يصفها بـ "الشروط العادلة" لحل قضايا الحدود، لكنه لم يذكر أرقاما محددة.

كما لا تزال قضية تبادل الأسرى والبحث عن المفقودين دون حل، وتقول يريفان إن مصير 1016 أرمنيا لا يزال مجهولا، أما باكو فتتحدث عن نحو 4 آلاف مفقود من مواطنيها، وذلك وسط اتهامات متبادلة بتضخيم الأرقام.

أخيرا، تطالب باكو بأن توافق يريفان على بناء ممر زنغزور، وهو الطريق الذي يجب أن يمر عبر أراضي أرمينيا ويربط الجزء الرئيسي من أذربيجان بناخيتشيفان وتركيا، في حين تصر باكو على أن الطريق يجب أن يكون له وضع خارج الحدود الإقليمية، حتى لا يتمكن حرس الحدود الأرمني من تفتيش المركبات، وترد يريفان بأنها مهتمة بفتح الاتصالات الإقليمية، ولكن ليس على حساب سيادة البلاد.

العلاقة مع روسيا

وألقت التغيرات الجيوسياسية الناشئة بظلالها على الأوضاع الداخلية في كلا البلدين، تمثلت بارتدادات داخلية وحملت في طياتها كذلك أبعادا خارجية.

ويرى المحلل السياسي الأرميني أرمين بايلان، أن العملية العسكرية لأذربيجان تركت تأثيرا سياسيا داخليا سلبيا على أرمينيا، زاد من استياء الرأي العام حيال الحكومة الحالية، مما سيبرز بشكل أكبر في تغير المزاح السياسي حيال القوة التي سيجري اختيارها لقيادة البلاد عند أول منعطف انتخابي.

وأوضح بايلان في حديثه للجزيرة نت أن التغير الجديد الذي بدأ يظهر جليا، هو تنامي المشاعر والدعوات المؤيدة لمزيد من التقارب مع المنظومة الغربية، والتكامل ضمن الهياكل الاقتصادية والعسكرية والسياسية التابعة لها، حتى لو كان ذلك على حساب العلاقات التاريخية، التي لطالما ربطت البلاد بروسيا.

وبرأي المحلل السياسي ذاته، فإن مؤشرات الحراك السياسي الجاري في البلاد تدل على وجود توجه قوي لبدء عملية التكامل، على ضوء انتشار مقولة تعرض الأرمن لخيانة من قبل موسكو، ظهرت -حسب قوله- في موقف موسكو تجاه العملية العسكرية لأذربيجان، الذي اقتصر على لعب دور حفظ السلام وتأمين عملية نزوح الأرمن.

وأضاف بايلان أن الأزمة التالية بين القوى السياسية في أرمينيا، ستكون حول مستقبل التعاون مع موسكو وإمكانية الموازنة في العلاقات معها ومع خصومها الغربيين.

واعتبر المتحدث نفسه أن موقف دعاة التباعد عن موسكو يبدو أضعف لسببين، الأول هو التجربة الأوكرانية ومخاوف تخلي الغرب عن حلفائه في مرحلة ما، والثاني أن موقف موسكو واتخاذها دور المراقب جاء على خلفية اعتراف يريفان نفسها بناغورني قره باغ مناطق أذربيجانية، وعليه فمن غير المعقول أن يكون الروس "أرمينيين" أكثر من السلطات في يريفان.

انتصار منقوص

أما بالنسبة لباكو، فيقول الخبير في شؤون القوقاز توفيق جبريلوف، إن مشاكل كثيرة لا تزال بين البلدين، رغم إغلاق ملف المواجهة بينهما بسبب قره باغ، أحدها يتعلق بمستقبل "الجيوب"، وهي المناطق الأرمنية التي تداخلت خلال العهد السوفياتي في عمق الأراضي الأذربيجانية، قبل أن تقوم القوات الأذربيجانية بالسيطرة عليها في تسعينيات القرن الماضي، والثاني القرى الأذربيجانية التي كانت محاطة بالأراضي الأرمينية، وسيطرت عليها القوات الأرمينية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

وفي حديث للجزيرة نت، أوضح جبريلوف أنه حتى منتصف سبتمبر/أيلول 2023، كانت سياسة أذربيجان في التعامل مع قضية قره باغ تتحدد بناء على ضرورة الحسم السريع، والسعي إلى إغلاق ملف الإقليم وكتابة التاريخ المعاصر للبلاد، من مرحلة ما بعد استعادة السيادة عليه.

وأضاف الخبير في شؤون القوقاز أنه رغم استعادة أذربيجان معظم الأراضي التي احتلتها أرمينيا في عام 2020، فإن جزءا صغيرًا كخانكندي والمناطق المحيطة بها، ظل تحت السيطرة الأرمينية الروسية مع انتشار القوات الروسية، مشيرا إلى أن الشعور لدى الرأي العام بالانتصار الكامل سيتراجع، بعد أن تطفو هذه الملفات على سطح عملية تطبيع العلاقات، التي تسير بتردد شديد بين البلدين.

وبرأيه، فإنه حتى ذلك الوقت سيهيمن الشعور بالنصر المنقوص والمهمة غير المكتملة على الخطاب الأذربيجاني على مدى السنوات القادمة، وسيكون الرئيس إلهام علييف مضطرا -بالحد الأدنى- إلى استكمال عملية إعادة دمج الأراضي المتبقية قبل عام 2025 (انتهاء مهمة قوات حفظ السلام الروسية).

بموازاة ذلك، حققت أذربيجان انتصارا اقتصاديا باستعادة الإقليم الغني بالموارد الطبيعية من معادن ثمينة وشبه ثمينة مثل الذهب والنحاس وغيرها، حيث من المتوقع أن تتحول شركات التعدين والمعالجة إلى واحدة من أهم الموارد الرئيسية في الميزانية، الشيء الذي سيعزز من شعبية ونفوذ الرئيس علييف.

المصدر : الجزيرة