الصحف الحزبية بالمغرب.. إرث يقاوم الاندثار

سناء القويطي - سناء القويطي/ كشك للصحف في محطة القطار بالدار البيضاء - الصحف الحزبية بالمغرب... إرث تاريخي يقاوم شبح الاغلاق
محطة القطارات بالدار البيضاء (الجزيرة)

سناء القويطي-الرباط

بعيون تنطق فضولا، يتابع أطفال مغاربة شروحات حول المراحل التي تقطعها صحيفة ورقية قبل وصولها للقراء، يحمل بعضهم أوراقا وأقلاما لتدوين ما بدا لهم مهما، ولا يتوانون عن طرح الأسئلة فيما استبهم عليهم.

بمقر جريدة العلم بالعاصمة الرباط، انتقل الأطفال بين جميع الأقسام من التحرير مرورا بالإخراج وصولا إلى المطبعة الكبيرة التي تشغل حيزا كبيرا من المكان، تعرفوا على سحر الكلمات وكيف تتحول إلى تقارير وتحقيقات وحوارات مطبوعة على ورق.

قدِم هؤلاء من الضواحي في زيارة ثقافية نظمتها جمعية الرسالة. وقد دأبت الجمعية منذ سنوات على تنظيم زيارات مماثلة لصحف ورقية، كما تقول للجزيرة نت المسؤولة بالجمعية زينب الحافيفي.

كان الاختيار هذه السنة على جريدة "العلم" بوصفها أقدم صحف البلاد، ليتعرف الأطفال من خلالها على تاريخ الصحافة المغربية ويشبعوا فضولهم حول هذه المهنة المثيرة.

‪شروحات حول المراحل التي تقطعها الصحيفة قبل الطبع‬ شروحات حول المراحل التي تقطعها الصحيفة قبل الطبع (الجزيرة)
‪شروحات حول المراحل التي تقطعها الصحيفة قبل الطبع‬ شروحات حول المراحل التي تقطعها الصحيفة قبل الطبع (الجزيرة)

وتأسست "العلم" -لسان حال حزب الاستقلال– سنة 1946، وظلت نحو سبعين سنة تقاوم التحولات التي عاشتها الصحافة المحلية والعربية.

وليست هي الصحيفة الحزبية الوحيدة التي ما زالت صامدة رغم التراجع الذي تشهده الصحافة الورقية عالميا، بل إلى جانبها صحف حزبية أخرى تصدر بالعربية والفرنسية.

هذه الصحف هي لوبينيون التي أسسها عام 1964 حزب الاستقلال، المنعطف التابعة لحزب جبهة القوى الديمقراطية، الاتحاد، ليبراسيون وهما تابعتان لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بيان اليوم، البيان التابعتان لـ حزب التقدم والاشتراكية.

وأيضا الحركة (حزب الحركة الشعبية)، رسالة الأمة (الاتحاد الدستوري)، وقبل أيام أعاد حزب الطليعة الديمقراطي إصدار جريدته "الطريق" بعد سنوات من توقفها.

تراجع وصمود
بدأت الصحافة مع الحركة الوطنية والأحزاب، وكانت وسيلة لمواجهة المستعمر والتعبير عن المواقف السياسية، وبعد الاستقلال كانت الصحف الأكثر انتشارا هي تلك التي تعبر عن صوت أحزاب المعارضة.

‪مقر جريدة العلم التابعة لحزب الاستقلال‬ مقر جريدة العلم التابعة لحزب الاستقلال (الجزيرة)
‪مقر جريدة العلم التابعة لحزب الاستقلال‬ مقر جريدة العلم التابعة لحزب الاستقلال (الجزيرة)

بيد أن المشهد الإعلامي تغير منتصف التسعينيات مع ظهور الصحافة المستقلة وظهور شعارات جديدة مثل الموضوعية وأخلاقيات المهنة.

يقول نور الدين مفتاح المدير السابق لفيدرالية الناشرين في المغرب إن من نتائج هذا التحول تراجع الصحافة الحزبية، حتى أن بعض روادها غادروها نحو تجارب صحفية مستقلة، ومع ذلك "ظلت الصحافة الحزبية موجودة ومستمرة رغم أزماتها".

وعمقت الثورة التكنولوجية وظهور الإعلام البديل من الأزمة، مما اضطر الأحزاب لمسايرة الواقع الجديد، فأنشأت مواقع إلكترونية وصفحات على مواقع التواصل للترويج لخطابها، لكنها مع ذلك لم تتخل عن الصحف الورقية الناطقة باسمها.

ويفسر مفتاح هذه المفارقة بالقول "ربما تخاف الأحزاب السياسية من الرمزية القوية لهذه الصحف" مضيفا أن إغلاق صحيفة مثل العلم التي تأسست عام 1946 سيكون بمثابة تنكر لتاريخ هذه المؤسسة، ينضاف إلى ذلك أن الصحف الحزبية مثقلة بالأعباء الاجتماعية ومناصب الشغل، مما يجعل أي زعيم أو مسؤول حزبي يفكر مئة مرة قبل الإقدام على إغلاقها.

دور سياسي 
التعددية الحزبية كان لها دائما رديف هو التعددية الإعلامية.. تلك واحدة من الأسباب التي يراها الخبير الإعلامي عبد الوهاب الرامي وراء صمود هذه الصحف واستمرارها في فضاء إعلامي متقلب ومتجدد. 

‪مطبعة خاصة بالصحف الورقية بالعاصمة‬ مطبعة خاصة بالصحف الورقية بالعاصمة (الجزيرة)
‪مطبعة خاصة بالصحف الورقية بالعاصمة‬ مطبعة خاصة بالصحف الورقية بالعاصمة (الجزيرة)

ويرجح بقاء هذه الصحف على قيد الحياة لبضع سنوات أخرى بالنظر للدعم الذي تتلقاه من الدولة إلى جانب التمويلات الأخرى من الأحزاب الناطقة باسمها، ومن هذه التمويلات كعكة الإعلانات التجارية التي تنال نصيبها منها عندما تتولى قيادات تلك الأحزاب مناصب بالحكومات. 

وللدولة -وفق الرامي- إرادة في دعم هذه الصحف لكونها تروج خطابها بشكل من الأشكال، فزوالها ليس مرتبطا بوضع القراءة والمبيعات بل بمشيئة الدولة والأحزاب التي يرتبط معظمها بصناع القرار.

وتكشف آخر أرقام مكتب التحقق من انتشار الصحف ضعف المبيعات اليومية للصحف الحزبية، إذ تتراوح ما بين 350 نسخة (المنعطف) و10 آلاف (لوبينيون) في حين يصل مجموع مبيعات الصحف الورقية إلى حوالي مئتي ألف نسخة يوميا.

ويرى الرامي أنه ينبغي النظر لهذه الصحف من منطلق دورها السياسي وليس الإعلامي، فهي ستستمر ما دامت تشكل قطب توازن داخل المجتمع مقابل الأصوات الجديدة المرتبطة بالصحافة الإلكترونية وبما يسميه "تداخل الأصوات على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي".

دعم متعدد
ويتفق مفتاح مع رأي الرامي في أن الوصفة المغربية تقوم على فكرة مفادها أن وجود الصحافة الحزبية تأمين لوجود التعددية الحزبية والسياسية والثقافية، ولضمان نجاح هذه الوصفة تتلقى الصحف الحزبية ثلاثة أشكال من الدعم المالي بخلاف باقي المقاولات الصحفية الأخرى.

بقاء الصحف على قيد الحياة نظرا للدعم الحكومي وكعكة الإعلانات التجارية
بقاء الصحف على قيد الحياة نظرا للدعم الحكومي وكعكة الإعلانات التجارية

ومنذ عام 1987 تتوصل هذه الصحف دون غيرها بدعم خاص بالصحافة الحزبية من رئاسة الحكومة، تحدد قيمته بناء على عدد المقاعد البرلمانية التي حصل عليها الحزب الناطق باسمه، ولا يتجاوز سقفه خمسمئة ألف درهم (حوالي 52 ألف دولار).

ومثلها مثل باقي المقاولات الصحفية المهيكلة، تحصل على دعم مالي من وزارة الاتصال الوصية على قطاع الإعلام، تحدد قيمته بناء على نفقاتها وكلفة إنتاج الصحيفة من الورق والأجور والطباعة، ينضاف إليه دعم ثالث تصرفه الوزارة نفسها للصحف الحزبية يسمى دعم التعددية، وتبلغ قيمته ثلاثمئة ألف درهم (حوالي 32 ألف دولار).

ورغم تعدد مصادر التمويل، يقول مفتاح إن هذه الصحف لا تحقق التوازن المالي بالنظر للحجم الهائل للتحملات الاجتماعية، وانخفاض مبيعاتها وضعف حصتها من الإعلانات. 

وفي وقت أعلنت صحف عربية وعالمية إغلاقها أو تحولها للعالم الرقمي، لا تزال الصحف الحزبية والعاملون بها يقاومون التغيرات التي يشهدها المجال الإعلامي والتحديات المرتبطة بالمقروئية والمهنية وبالتدخل الحزبي في الخط التحريري.

وما زال بعضها يحاول قدر المستطاع مواكبة التغييرات الحاصلة، وبعضها الآخر بقي رهين الماضي ويرى في الاستمرارية والنجاة من مخالب الإغلاق نجاحا في حد ذاته.

المصدر : الجزيرة