الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية

غلاف كتاب لمعاينة الجمهور
غلاف كتاب "لمعاينة الجمهور.. الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية" (الجزيرة)

عرض/ محمود الفطافطة

حظيت الأرشيفات الاستعمارية بأبحاثٍ واسعة، خصوصاً لكونها أرشيفات توثق شكل وكيفية سيطرة المستعمِر على المستعمَر من الناحية الجسدية الملموسة: القمع، الفصل الإثني، التطهير العرقي، المجازر وما شابه. وقد خضعت للبحث أيضاً من المنظور المتعلق بمنظومات وأجهزة السيطرة على الوعي والإدراك، مثل إعادة هيكلة صورة المحتل والخاضع للاحتلال بما يتلاءم والمعتقدات الاستعمارية الغربية.

‪- المؤلفة: رونة سيلع‬ - المؤلفة: رونة سيلع - الناشر: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية
‪- المؤلفة: رونة سيلع‬ – المؤلفة: رونة سيلع – الناشر: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، رام الله- المترجم: علاء حليحل- الطبعة: الأولى، 2018.- عدد الصفحات: 530 صفحة

وشكل الاحتلال الصهيوني المتمثل بدولة إسرائيل نموذجاً واضحاً في هذا السياق، إذ عمدت الأجهزة والمنظمات المؤسساتية اليهودية -قبل قيام الدولة- إلى جمع المعلومات المتعلقة بالشعب والبلدات الفلسطينية لأغراض الاحتلال والسيطرة، ومن بعدها تلك المتعلقة بالناس وأراضيهم، وبكيفية إدارة هذه المواد في الأرشيف الاستعماري "الكولونيالي"، بغية تكريس قوة ورواية الدولة المحتلة.

ولم تقتصر هذه الدولة المستعمِرة على ذلك، بل تملكت ثروات الطرف الخاضع لسيطرتها، وأخفتها عن الحيز العام بواسطة منظومات متطورة، من خلال محو هويتها الأصلية وتفسيرها بما يضمن هيمنة رواية المحتل وحدها. إضافة إلى ذلك، فإن هذه الأجهزة تمارس الرقابة والتقييد على المواد التي نتجت في هذه الأجهزة اليهودية/ الإسرائيلية، مخافة أن تفضي إلى رواية بديلة لتلك الرواية الإسرائيلية الرسمية.

نهب ورقابة
هذا الكتاب عبارة عن رحلة بحث شاقة تلاحق مصائر الصور الفلسطينية المعتقلة في الأرشيفات الإسرائيلية، سواء أكانت مسروقة من بيوت الفلسطينيين ومن جيوب شهدائهم، أم تلك التي التقطت من داخل القرى ومن سمائها لأهداف عسكرية.

الكتاب عبارة عن رحلة بحث شاقة تلاحق مصائر الصور الفلسطينية المعتقلة في الأرشيفات الإسرائيلية، سواء أكانت مسروقة من بيوت الفلسطينيين ومن جيوب شهدائهم، أم تلك التي التقطت من داخل القرى ومن سمائها لأهداف عسكرية

وتركز مؤلفة الكتاب رونة سيلع على مرحلتين زمنيتين مركزيتين ترتبطان بهذا التاريخ: الأولى مرحلة الحياة في فلسطين قبل العام 1948، والتنظيمات الفلسطينية وحرب 1948، والنكبة ونتائجها، التي فُتحت معظم المواد المتعلقة بها بعد خمسين عاماً، أو بعد معركة قضائية لفتحها.

أما المرحلة الثانية فهي المطلة من أرشيفات وغنائم حرب أُخذت من بيروت في ثمانينيات القرن العشرين، وتصف المنفى الفلسطيني والنضال بعده.

ويضم الكتاب عدداً كبيراً من الصور النادرة والعالية الجودة للحياة في فلسطين وللأحداث المؤثرة في تاريخها، إلى جانب مجموعة صور ملتقطة من الجو، تظهر المعالم الكاملة لعدد من القرى الفلسطينية المدمرة ببيوتها وشوارعها وحاراتها، بما يتيح استعادة مبناها المعماريّ والجغرافيّ والطوبوغرافيّ.

يتمحور كتاب سيلع حول التاريخ الفلسطيني -البصري والمكتوب- الموجود في الأرشيفات العسكرية بإسرائيل، ويتابع من جهة؛ كيفية جمع هذا التاريخ، الذي جرى عموماً بالقوة (النهب، وجمع المعلومات لغاية السيطرة والرقابة)، وإدارته وحفظه والسيطرة عليه بواسطة منظومات قمعية داخل الأرشيفات الكولونيالية، من الجهة الأخرى.

كي الوثائق
يضم الكتاب مواد أنتجت قبل وخلال النكبة أو بعدها بقليل، وأيضاً أرشيفات أُخذت كغنائم من بيروت في ثمانينيات القرن الماضي، ويلخص عشرين عاماً من النشاط البحثي، ويُظهر كيف استولت إسرائيل وأرشيفات الاحتلال على أحد أكبر مخازن المعرفة المهمة عن الفلسطينيين، وكيف تم محوها من التاريخ أو إعادة كتابتها بشكلٍ منهجي.

وقد جُمعت هذه الموادّ وفق الكتاب برُمتها من مصادر ومبدعين فلسطينيين، أو أنّ قواتٍ يهوديّة/ إسرائيليّة أنشأتها، وهي مواد ذات أهمية للفلسطينيين، وتخضع لأجهزة ومنظومات استعمارية قمعية تديرها وتسيطر عليها. وتشمل هذه المنظومة الرقابة وتقييد الكشف والمعاينة، والشطب وإخفاء المعلومات والسيطرة على هوية المخولين بمعاينة هذه المواد، ودمغ الملكية على مواد محتلة، وإخضاعها لقوانين الدولة المحتلة ولمعايير ونظم الأرشيفات الإسرائيلية، والتفسير والتصنيف المغرضين، إلى جانب محاولة السيطرة على رواية/ تاريخ الشعب الفلسطيني.

هذه المواد التي كشفت عنها المؤلفة أُخضعت لتوصيف الرواية الصهيونية/ الإسرائيلية، وبناءً على ذلك ثمة حاجة إلى تحريرها من القوة التي مورست عليها، ومن الخطاب الكولونيالي، وإعادتها إلى السياق الأصلي، والسعي ضد المضامين التي ينتجها الجيش والأرشيف العسكري.

ويرصد الكتاب الطرق التي اتبعتها الأجهزة العسكرية في إسرائيل -وقبلها- لجمع وحفظ المعارف والمعلومات البصرية والأخرى المتعلقة بالفلسطينيين على مدار القرن العشرين المنصرم، وكيفية سيطرة الأرشيفات العسكرية على هذه المعارف وإدارتها إدارة كولونيالية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وعلى نحو يشبه تمامًا ما مارسته قوى الاستعمار الحديث، بل بطرق أكثر تركيباً.

" أمننة" المعلومات

الكتاب يوضح كيف ترتبط غالبية المعلومات والمعرفة بخصوص الفلسطينيين في الأرشيفات العسكرية بتدابير متنوعة من النشاطات الاستخباراتية لغايات عسكرية

ويوضح الكتاب كيف ترتبط غالبية المعلومات والمعرفة بخصوص الفلسطينيين في الأرشيفات العسكرية بتدابير متنوعة من النشاطات الاستخباراتية لغايات عسكرية، وما واكبها من سلب قامت به جهات عسكرية رسمية من أرشيفات ومجموعات تابعة لمؤسسات وبيوت خاصة، وجنود وشهداء وأسرى، وحتى نسخ المعلومات سراً وجمع المعلومات المتعلقة بالفلسطينيين وبلداتهم لغايات السيطرة والاحتلال.

ويكشف الكتاب وجود صور جوية التقطتها جهات إسرائيلية للبلدات الفلسطينية قبل عام النكبة 1948، وتشمل توثيقاً شاملاً للوجود الفلسطيني حينها، وهي توفر معلومات جمة حول الحياة النابضة في فلسطين، والانتشار الجغرافي الواسع قبل النكبة، ولذا فهي تشكل في الوقت عينه شاهداً على حجم الدمار الذي حل بالكيان الفلسطيني.

ووفقاً لما تقوله المؤلفة، فإن هذه الصور هي بمثابة التوثيق الأوسع الأخير للانتشار الجغرافي الفلسطيني، الذي يُمكّن من إدراك وفهم خارطة البلد من نظرة طائر قبل النكبة. ومع أن هذه الصور التقطت لغايات تتعلق بالاحتلال الكولونيالي، ولتبين الاتجاهات والحركة أثناء الاحتلال، فإنه بالإمكان اليوم عكس هذه الغايات واستخدامها لهيكلة المعرفة المتعلقة بحياة الفلسطينيين قبل 1948.

كذلك، فإنه يمكن بواسطتها أيضاً اكتساب المعرفة بخصوص كل قرية وقرية، مثل مبناها المعماري والجغرافي والطوبوغرافي، وكثافة السكان فيها، والزراعة فيها ومميزاتها، والطرق المؤدية إليها، وغيرها. كما أن بالإمكان وصل مئات الصور الجوية ببضعها البعض، وفقاً لموقعها على الخارطة، وهيكلة صورة مركبة ودقيقة تحوي تقديراً لحجم الوجود الفلسطيني قبل 1948. أي أنه بالإمكان هيكلة خارطة فوقية تُمكن من وصف الوجود الفلسطيني، والتركيز -حسب الحاجة- على مناطق معينة في أرجاء البلد، أو وصف البلد بأكمله. كما تتميز هذه الصور بأهمية في توصيف تاريخ القمع الذي خضع له الفلسطينيون.

معارك الاطلاع

المؤلفة تُعرب عن أملها في أن تُعاد وثائق بيت الشرق إلى أصحابها بسرعة، مثلها مثل سائر الممتلكات الثقافية الفلسطينية التي تحتجزها إسرائيل منذ 1948

إلى ذلك، تشير المؤلفة إلى المعركة القضائية التي خاضتها ضد جهات متعددة في أرشيف الجيش والجهاز الأمني الإسرائيلي فيما يخص مطالبها بمعاينة وفتح وعرض محتويات الأرشيفات والصور والمجموعات والمواد الفلسطينية المتنوعة، أو ذات الأهمية للفلسطينيين، والموجودة في الأرشيفات العسكرية أو الشرطية في إسرائيل. وفي إحدى الرسائل التي تلقتها الباحثة من مساعد المستشار القانوني في الجهاز الأمني، التي تتطرق إلى طلبها معاينة أرشيف التصوير الخاص بـ"بيت الشرق"، جاء أن هذه المواد "مقيدة" وفق القانون الإسرائيلي، ولذلك فهي غير مفتوحة أمام معاينة الجمهور.

وتذكر المؤلفة أن القوات الإسرائيلية غنمت عدداً كبيراً من الوثائق المرتبطة بفترات مختلفة: شرائط فيديو، صور، خرائط، مواد محوسبة ومواد أرشيفية كبيرة. وكانت الغاية من هذه المصادرة -وفق الرواية الإسرائيلية- "الإشارة إلى صلة مباشرة قائمة بين بيت الشرق وبين السلطة الفلسطينية، خلافاً للاتفاقات الموقعة مع السلطة، التي تقضي بعدم قيام هذه الأخيرة بأي نشاطات في منطقة القدس".

ومع أن سيلع تُعرب عن أملها في أن تُعاد وثائق "بيت الشرق" إلى أصحابها بسرعة، مثلها مثل سائر الممتلكات الثقافية الفلسطينية التي تحتجزها إسرائيل منذ 1948، فإنها لا تُخفي تعويلها على أن تؤدي معاينة الجمهور لهذه الوثائق البصرية والمكتوبة إلى تعميق الوعي المفقود والمصادر حيال الرواية التاريخية الفلسطينية للصراع، التي تؤكد مراراً أن إسرائيل تخاف منها ومن أي مادة يمكن أن تدعمها، حتى لو أنتج هذه المادة أو صوّرها أو كتبها يهود/ إسرائيليون، وهي تستثمر جهوداً جمة في إخفائها من الحيز العام.

عندما يُدفن أرشيف القدس
وترى الباحثة أن معركة القدس كانت أطول معارك عام 1948 وامتدت على عام كامل. وحظيت القدس بمكانة كبيرة لدى العرب والفلسطينيين، ورأوا فيها حلبة الصراع المركزية. لذلك، ومن الشهور الأولى تم توثيق المعركة بأكملها تقريباً من مصورين عرب وأجانب. وقد قامت الأجهزة الإسرائيلية بتحريف الوقائع والأحداث استناداً إلى الرواية الإسرائيلية. وتؤكد أن "صندوق أورشليم" جمع أكبر كمية من الوثائق ليسلمها إلى أرشيف الجيش الإسرائيلي لتدفن وتُستبعد على غرار كنوز فلسطينية كثيرة أخرى، بموجب نُظم الأرشيف الكولونيالي والتفسيرات والقانون الإسرائيلي.

تؤكد المؤلفة أن الكثير من المواد والأرشيفات الفلسطينية ما تزال مُغلقة في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، وأن المعركة ضد أرشيف الجيش الإسرائيلي ما تزال طويلة

وفي السياق ذاته، تتطرق الباحثة سيلع إلى عدد من الذرائع التي تُستخدم من قبل الجهات المسؤولة في دولة الاحتلال لمنع كشف معلومات معينة. ومن بين هذه الذرائع أن "كشف الحقائق قد يُشكل وسيلة بأيدي أعدائنا وخصومنا، بل قد يؤدي إلى إضعاف عزيمة أصدقائنا"، وأنه "قد يؤدي إلى إلهاب مشاعر السكان العرب في البلد و/ أو في المناطق الفلسطينية. كما "قد يؤدي إلى إضعاف حجج الدولة في محاكم البلد أو المحاكم في العالم، فضلا عن أن "هناك خشية من كشف معلومات قد يتم تفسيرها بأنها جرائم حرب إسرائيلية".

وفي هذا الخصوص، تؤكد المؤلفة أن الكثير من المواد والأرشيفات الفلسطينية ما تزال مُغلقة في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، وأن المعركة ضد أرشيف الجيش الإسرائيلي ما تزال طويلة. ومن هنا، تؤكد أن إسرائيل تتخندق أكثر فأكثر في الوضعية الكولونيالية. وبناءً عليه تتوصل سيلع إلى استنتاج فحواه أن تحويل الأرشيف إلى موقع للمقاومة ما بعد الكولونيالية هو أحد التحديات الماثلة أمام باحثي الأرشيفات الكولونيالية الآن، إلى جانب ضرورة المطالبة بإعادة ما تتستر عليه هذه الأرشيفات من الكنوز الثقافية الفلسطينية إلى أصحابها.

حق التنظيف والاسترداد
تشدد الكاتبة على أن الاستعمار الصهيونيّ الكولونيالي لفلسطين في 1948 كما في 1967 وصولاً إلى يومنا الراهن، لم يتم في الحيز الجغرافي فحسب، بل أيضاً في حيزيْ الوعي والذاكرة. وضمن هذا السياق يُنظر إلى الأرشيفات الكولونيالية -على غرار الأرشيف الإسرائيلي- بصفتها مواقع لإنتاج الرواية التاريخية بواسطة منظومات محو وإخفاء.

وتقترح سيلع في كتابها تنظيف الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية من مركباتها الكولونيالية والقمعية، مؤكدة أنه ينبغي عدم الاكتفاء بممارسة الإستراتيجيات ما بعد الاستعمارية عليها وبتخليصها من تقاليد الرقابة والمحو، بل هناك ضرورة للمطالبة بإعادتها إلى أصحابها الأصليين.

وبهذا، فإن كتاب سيلع يمثل مصدراً مهماً وفريداً في كشف سياسة دولة الاحتلال الإسرائيلي في نهب وتحريف وإخفاء السجل البصري والمكتوب للفلسطينيين على مدى قرن من الزمن. سياسة هدفها خلق رواية إسرائيلية تدعي أن الحق التاريخي على الأرض يعود للشعب اليهودي، وكل ذلك من خلال التنكر لحقوق الكيان والشعب الفلسطينيين. وإذا كانت إسرائيل قد نجحت في سرقة وتغييب هذا الأرشيف الضخم، فإنها لم ولن تنجح في طمس الحق الفلسطيني.

المصدر : الجزيرة