ربيع الأرض وطن.. وربيع القلب أم!

ربيع الأرض والوطن.. وربيع القلب أم!
رحل الربيع يا أمي.. ورحلت..

شاخ وجه السماء وهو يطل بزرقة لم أعهدها، وتصلبت شرايين الأرض وهي تضمك ودموعنا.. واراك التراب ولم يعد ممكنا دفن رأسي في عمق صدرك الحاني، لم يعد ممكنا البكاء خارج حدود الروح حيث تتلوّع روحك بجراحنا، وحيث تحتضر النظرات التي تحاول أن تلملم المشهد.

غريبة عشت! وثوب الغربة لا يستر عري الروح، بل يشوّهها! ويلقيها في طرقات الخائفين -على أنفسهم- من النخوة!

عشت تحلمين بقمر ينير عتمة عمرك وأنت تنتظرين تكبيرة العودة! غير أنك رحلت -وحيدة- ككل الراحلين مخلّفين صحوهم وأحلامهم في دنيا الضائعين..

كالربيع رحلت.. رغم حمرة الوجنتين في نقاء الكفن!

صامتة رحلت… ورحل معك المطر..

الأرض التي طالما عذبها الظمأ لمّا ترتوِ بعد، مجللة بقسوة الأيام تمضي وقد هزّتها المحن! تئن في سمع الزمن بوحشة تلقي لأرواحنا الرافضة ذل الرحيل.. رحيلا بلا ثمن!

لست وحدك انتظرت! كلنا انتظرنا، ولا نزال ننتظر..

أعيادنا فجر لم يسعفه النهار، والضوء في عيوننا احتضار لم ينصفه الحلم، ولم ينسج من خيوطه وطنا يحتضن العصافير والرجال..

طارت عصافير الفرح يا أمي! وحملت بمناقيرها غلال الأمنيات.. والأقصى الذي سكن روحك حتى آخر الكلمات يقاوم بالتسبيح الصمت والحصار!

يقاوم بأفئدة المصلين الرصاص والأنفاق الغادرة! بذاكرة الأمهات يعتصم، ويسأل الله لحجارته الثبات..

من عتمة الحصار، من وجع الصبر وذل الانتظار يتوق الأقصى -يا أمي-.. للحظة انتصار!!

آن لك اليوم يا أمي أن تتوقفي عن البكاء، وقد سكت الصوت في الفم حين سكنه البرد، وسكت في الصرخة النداء!

فلا أعاد الدمع للحرم هيبته، ولا أوقف سياط الجلادين صراخ الشرفاء!

قلت لنا بأننا هنا لنعود! وبأن العودة قدرنا.. وللصابرين تبتسم الأقدار!

وحدك رجعت.. وتركتنا على بوابات الانتظار نحلم برجوع يبقي صدورنا دافئة، ويشرعها للنهار.

قلت لنا.. ولمّا يرتسم بعد على شفاهنا الكلام: (القدس قبلتنا الأولى! عربية القلب واللسان! وميض العزة فينا، وآية الرجولة…).

قلت لنا بأن الموت على أسوارها بطولة! وبأن حجارة أسوارها شمس صبر جميل تسكن من يرفع الهامة ويأبى الموت الذليل..

طويل ليل القدس يا أمي! غير أنه بلا رعد يمطر بالسكينة المجاهدين..

ليتك يا أمي تسمعين! أعين الصغار وهي تئن من صمت الكبار الخائفين، ليتك تصغين للكلمات وهي تتقافز بالغضب خلف أهدابهم! هم مثلك يصدقون بأن القدر مرآة القلب وانعكاس الظنون..

وأنا مثلك يا أمي أصدق بأننا لن نهادن، لن نساوم ولن نبيع الأرض من تحت أرجلنا، وسنظل نقاوم!

لن نعرّي فتياتنا -على أعيننا- للغزاة! لن نلوّث بوحل نعالهم خبزنا، لن نقبّل أقدام المنافقين ونحن نتأرجح على حد السكين!

بالجهاد سنجاهر، وليقامر غيرنا على جسد أمّه إن سرّه أن يقامر!

طال مكوث العابرين يا أمي وما جاؤوا ليحطوا الرحال، بل ليرحلوا.. أمامهم أعوام تيه لو يعلمون! فمواقع السجود في الأقصى الحزين تظل مضاءة بأفئدة الأمهات.. ودموع المصلين..

ولنا في القدس لقاء..

المصدر : الجزيرة