هل من ليس معنا فهو ضدنا؟ رشقة أسئلة أخرى غائبة في العدوان على الفلسطينيين

حشد خاطف من طلاب نابولي خارج مبنى الجامعة الشرقية تضامنًا مع الشعب الفلسطيني (غيتي)

يبدو – كما ذكرت في مقالي السابق – أن العدوان على الفلسطينيين في غزة والضفة ليس له سياق واحد، بل سياقات متعددة، قد تبدو منفصلة في أحيان، لكنها متشابكة ومتقاطعة في أحايين كثيرة، ويمتد نطاقها ويتعدى تأثيرها أرض فلسطين.

في العدوان المستمر تبلورَ عدد من الظواهر التي تستحق التساؤل حول مستقبلها؛ فهي معولَمة، وسترسم -إلى حد كبير- تطورات القضية الفلسطينيَّة وملامح المِنطقة وشكل العالم.

أولًا: مستقبل جيل z وy و Alpha

لسنوات عديدة؛ كانت هناك فكرة سائدة؛ مفادها أن الأجيال الشابة التي وُلدت أواخر القرن الماضي (تحديدًا 1996) وبعده – التي أطلق عليها البعض جيل التيك توك – ليس لها اهتمام بالمجال العام.

ينبع هذا التصور من الاعتقاد- مع إحكام العولمة قبضتها- بأنّ الشباب في المنطقة قد يصبحون أكثر انفصالًا عن هُويتهم الدينية، وجذورهم التاريخية وانتماءاتهم الوطنية.

اللافت للنظر حقًا هو أنَّ قادة الروايات الفلسطينية المضادة للإسرائيلية، هم شباب الجيل Z وY وAlpha. ومن خلال الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي، والتحدّث مباشرة إلى مجموعات أقرانهم، نقلوا مظالم الشّعب الفلسطيني إلى العالم.

كانت لدى العديد منهم معرفة محدودة بفلسطين، لكن إحساسهم بالعدالة والبعد الإنساني غذَّى غضبهم الجماعي ضد التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل، واستكملوا معرفتهم من خلال المحتوى المتوفر على الإنترنت.

يلعب جيل الشباب دورًا حاسمًا في رفع مستوى الوعي حول القضية الفلسطينية، وتحفيز الناس في جميع أنحاء العالم؛ لعكس غضبهم. لقد استفادوا من طرق مبتكرة للحفاظ على أهمية الرواية الفلسطينية على المستوى العالمي.

الملاحظ أن الانقسام – كما في الولايات المتحدة مثالًا- حول القضية الفلسطينية لم يعد على أساس حزبي، وإنما على أسس جيليّة. تظهر استطلاعات الرأي أن هذا الجيل أكثر تشككًا في السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين من الأميركيين الأكبر سنًا.

وَفقًا لاستطلاعٍ للرأي أُجري قبل بضعة أشهر من هجوم حماس، فإن جيل الألفية الأميركي هو أول جيل في التاريخ يتعاطف مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين.

وفي بريطانيا، فإن الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 34 عامًا، هم أيضًا أكثر دعمًا للفلسطينيين، (23%)، مقارنة بالإسرائيليين (7%) فقط.  وهو العكس تقريبًا لمن تتراوح أعمارهم بين 55 إلى 75 عامًا.

القضية الفلسطينية معدة بالفعل للجيل Z وأقرانه من الأجيال الشابة، وبلغة مألوفة لديهم؛ لأنه -في الأغلب- ضد السلطة؛ أية سلطة، وضد الاستعمار الاستيطاني، ويغلب عليه اليسار. إحدى السمات المميزة لهذه الأجيال هي التشكيك العميق في السلطات الراسخة التي تنشر "الروايات الرسمية".

إن هذه الأجيال هي الكتلة السكانية الكبرى في المنطقة، ومن ثم فإن تصوراتها وأفكارها وآليات عملها وتفاعلها مع المجال العام سترسم – إلى حد كبير- ملامح المستقبل.

A woman uses social media on her mobile phone to support Palestinian protests at the Israel-Gaza border, in Gaza City April 14, 2018. Picture taken April 14, 2018. REUTERS/Samar Abo Elouf
امرأة تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي على هاتفها المحمول لدعم الاحتجاجات الفلسطينية (رويترز)

لقد برزت فاعليتها في انتفاضات الربيع العربي بموجاته المتعددة، كما برزت في ظاهرة عرين الأسد في الضفة التي تجاوزت الانتماءات الحزبية والأيديولوجية والانقسام الفلسطيني. على الرغم من كل ذلك؛ فإن الاهتمام البحثي برصد هذه الظاهرة يعدّ محدودًا جدًا، وهو ما يثير عديد الاسئلة:

أولًا: كيف يتكون وعي هذا الجيل، ومن أي مصادر؟ وما هي خصائص وسمات ممارسته السياسةَ بمعناها الواسع؟ 

يتعاطى هذا الجيل السياسة من منطلق ليس أيديولوجيًا، وهو قادر على أن يتجاوز الانقسامات السياسية التقليدية التي حكمت العمل السياسي والفكري السابق.

يعاني هذا الجيل من ضعف الهياكل السياسية وتنظيمات المجتمع المدني، وبرغم ذلك فهو قادر على ممارسة الضغط على صانع السياسة، ومتخذ القرار، ولكن هيكل القوة وثقل المؤسسات القائمة يحدان من تأثير هذه الضغوط على اتخاذ القرارات والسياسات المطبّقة.

هل سيتسرّب هؤلاء الشباب إلى مكامن القرار في هذه المؤسسات – كما جرى لجيل 1968 في أوروبا- أم سيظلون يعملون من خارج المؤسسات القائمة؟

تشير الدراسات إلى أن 46% من هؤلاء الشباب في الولايات المتحدة يرفضون العمل في القطاع الخاص أو الحكومي، ويتطلعون إلى إنشاء مشاريعهم الخاصة. هل ينطبق هذا التوجه على شباب المنطقة؟

قدّم مفهوم "التقاطعية" حلًا يتأسس عليه ما يجمعهم: فبدلًا من بذل جهد شاق لاختيار موقفك من كل قضية حسب الطلب، يمكنك بدلًا من ذلك اختيار القائمة المحددة: العدالة المناخية هي العدالة العرقية، عدالة LGBTQ، العدالة الإنجابية، العدالة الفلسطينية.

تعتمد هذه الأجيال بكثافة على أدوات السوشيال ميديا بكل خصائصها وسماتها، لكن وسائل التواصل الاجتماعي تبالغ في التبسيط لكل ما هو معقّد ومركّب من عناصر متعددة، وتؤدي إلى الاستقطاب والعزلة. الأصوات العليا هي الأكثر تطرفًا.

إن وسائل التواصل الاجتماعي- التي يقول الكثيرون إنها ساعدتهم على تحسين فهمهم الأحداثَ- قد استنفدتهم أيضًا، وأبعدتهم عن الأصدقاء.

تشيع في هذه الأدوات نظريات المؤامرة، وبينما أصبح التحيز عتيق الطراز بالنسبة لشباب اليوم، فإن نظريات المؤامرة أصبحت شائعة، كما يتصاعد الضغط فيها من أجل الانحياز لأحد الطرفين.

مع هذه الخصائص وغيرها كيف ستكون السمات النفسية والفكرية للأجيال التي التصقت بها وعُرفت من خلالها؟

ثانيًا: التساؤل حول مستقبل الرأي العام العالمي الداعم للفلسطينيين

ضمّت المظاهرات الداعمة للفلسطينيين مكوناتٍ عدةً: اليسارَ واليهودَ – خاصة الشباب غير المتصهين- والحركاتِ النسويةَ والسكانَ الأصليين، بالإضافة إلى السود ومجتمع الميم، والعرب والمسلمين بالطبع، مع عددٍ من الأكاديميين والشخصيات العامة. فما الذي جمع هذا الشتات على صعيد واحد؟

تتبنى هذه المجموعات فكرة أن السلطة تخبرك بكل ما تحتاج إلى معرفته حول من هو على حق، ومن هو على خطأ، ويعتقدون أن تحليل القوة هو مِفتاح العدالة، ويتم التعامل مع حجج المجموعات المهمشة بأنها مشروعة.

قدّم مفهوم "التقاطعية" حلًا يتأسس عليه ما يجمعهم: فبدلًا من بذل جهد شاق لاختيار موقفك من كل قضية حسب الطلب، يمكنك بدلًا من ذلك اختيار القائمة المحددة: العدالة المناخية هي العدالة العرقية، عدالة LGBTQ، العدالة الإنجابية، العدالة الفلسطينية.

"التقاطعية" تولد التوافق؛ فإذا كنت تعارض أيًا من هذه القضايا، فإنك تخاطر بأن تقترح على زملائك أنك تعارض الآخرين، مما يعني أنك شخص سيئ.

مواقف دول أميركا اللاتينية المختلفة (والمتطورة) تجاه إسرائيل تتأثر بشدة بالتركيبة الأيديولوجية لحكوماتها، فضلًا عن التركيبة الديموغرافية لسكانها. تميل الإدارات اليسارية إلى انتقاد إسرائيل أكثر من نظيراتها المحافظة.

المكونات اليهودية والفلسطينية في كل بلد تلعب دورًا في موقف حكومتها. تعد تشيلي موطنًا لأكبر جالية فلسطينية في الشتات خارج الشرق الأوسط، حيث يعيش ما يقدر بنحو 500 ألف فلسطيني في البلاد. الأرجنتين هي موطن لأكبر عدد من السكان اليهود في أميركا الجنوبيّة، حيث يعيش ما يقرب من 200 ألف عضو منهم في البلاد.

مساعدو الحزب الديمقراطي في الكونغرس الأميركي يختلفون عن رؤسائهم بشأن الحرب على الفلسطينيين. هناك موجة من الموظفين الحاليين والسابقين، ومعظمهم من جيل الشباب، يدعون إلى وقف إطلاق النار ويتحدثون علنًا ضد مواقف رؤسائهم.

أكثر من 500 مسؤول أميركي وقّعوا رسالة احتجاج على سياسة بايدن تجاه إسرائيل، ويعكس الموقعون -الذين يمثلون نحو 40 وكالة حكومية- تزايد المعارضة الداخلية بشأن دعم الإدارة الأميركيّة للحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة.

لكن المنظومة السياسية في واشنطن لا تلين. فبينما يشتد انقسام الرأي العام؛ تبدو الحكومة والكونغرس والإعلام التقليدي على نسق واحد في قمع أي رأي مخالف لدعم إسرائيل.

جاء في رسالة عدد من المثقفين الغربيين في الرد على نظرائهم العرب: "نحن نتشارك معكم في القيم الأخلاقية الأساسية للحضارة الإنسانية.

ومن الملحّ فرض وقف إطلاق النار، وإنهاء حصار المياه والكهرباء، وضمان المرور الآمن للشاحنات الإنسانية التي تحاول مساعدة أهالي الضحايا الفلسطينيين في القطاع.

وبعيدًا عن حالة الطوارئ الخانقة، فإن هذه الأحداث الرهيبة تجبرنا على إفساح المجال ليس فقط للعاطفة، بل للعقل أيضًا. نعم، نحن بحاجة إلى الحكمة، وعلينا كمثقفين أن نتحمل مسؤولية الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، مهما كانت الظروف".

كما أنّ بضعة سفراء فرنسيين في الشرق الأوسط احتجوا على سياسة ماكرون الداعمة للكيان الصهيوني.

كتبت مبكرًا بعد خروجي من السجن مباشرة: "يا محتجي العالم اتحدوا". كانت وجهة نظري -وقتها ولا تزال- هي وحدة ساحات النضال على المستوى الدولي لما يجمعها من قضايا مشتركة وتطلع نحو قيم إنسانية عامة. وَفق هذه الرؤية يجب أن نضع نضالاتنا بالمنطقة في صعيدها العالمي المشترك.

من بداية الألفية الثالثة شهدنا نضالات واحتجاجات متنوعة، أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانًا أخرى، يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من وحشية الشرطة والفساد ورأسماليّة المحسوبية، وغطرسة من هم في السلطة والتلاعب بالسياسة، وضعف المؤسسات السياسية في تمثيل الناس وتهميشهم الجماعي، وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص، واختلال المساواة بين الجنسين.

تطول القائمة لتضم الآن فلسطين وقبلها إيقاف حرب العراق 2003، لكن ما يجمعها طلب إنساني عالمي على الكرامة والعدالة والحرية.

أكدت لنا الحرب على غزة تضامن الرأي العام في كثير من بلدان الغرب في مخاصمة واضحة لحكوماتهم، أو على أقل تقدير في انقسام واضح داخل بعض البلدان، كما في فرنسا، والولايات المتحدة، وكندا وبريطانيا.

هذه الظواهر والديناميكيات تدعونا للتساؤل حول مستقبلها على المستوى العالمي في ظل ما يوحدها من مفاهيم؟  وما علاقتنا نحن في المنطقة بهذه الظاهرة في ظل ضعف تنظيمي وغياب أطر فكرية وتحليلية تسمح لنا بإدراك المشترك بين هذه المكونات في انعكاسه على واقعنا العربي؟

وأخيرًا وليس آخِرًا؛ ما تأثير هذا الحراك على إعادة اكتشاف الإنسانية المشتركة في ظل ما جرى من انتهاك للقيم التي تأسّست عليها، والمعايير المزدوجة التي اتبعها كثيرٌ من الحكومات الغربية؟

ما أحب أن أؤكد عليه في الختام: هو أننا نعيش في عالم انتقائي. ففي حين يميل الزعماء السياسيون إلى النظر إلى عالم اليوم من خلال عدسة الأنظمة الأيديولوجية والسياسية المتنافسة (الفسطاطين)، حيث تكون مع الغرب أو ضده، مع الديمقراطية أو ضدها، مع العالم الحر أو ضده …، تؤكد نتائج استطلاع للرأي العام

أن الناس في مختلف أنحاء العالم يفضلون بدلًا من ذلك الترتيبات الانتقائية، حيث يمكنهم وتستطيع حكوماتهم أن تختار بشكل عملي شركاءها اعتمادًا على القضية المطروحة.

دخلنا عالمًا انتقائيًا، حيث يمكنك المزج والتوفيق بين شركائك حول قضايا مختلفة، بدلًا من الاشتراك في قائمة محددة من الولاء لجانب واحد أو الطرف الآخر.

إن العمل السياسي لن يكون فاعلًا إذا تمّ تأطيره في ثنائيات متعارضة؛ ثنائية القطب: من ليس معنا فهو ضدنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.