إعادة إنتاج 11 سبتمبر لم تعد خيارا ممكنا

بنيامين نتنياهو مستقبلا الرئيس الأميركي جو بايدن أثناء زيارته لإسرائيل (رويترز)

أُريدَ لعملية "طوفان الأقصى" أن تكون 11 سبتمبر جديدة لأسباب شرحتْها بالتفصيل في مقالي السابق.

على ما يبدو فإنّ هناك قوى – في مقدّمتها إسرائيل- هي المستفيدة من أجواء الصراع الذي أُريد له أن يكون حضاريًا- ثقافيًا بين الغرب والعالم الإسلاميّ. نحن نحذّر من الانجرار وراء ذلك، وللمفارقة فإنَّ خطاب المقاومة الفلسطينية – كما يظهر عند "أبو عبيدة" ومحمد الضيف وغيرهما- يستخدم مفردات الصهيونيّة لا اليهوديّة، والاحتلال ومعاناة الأسرى في السجون والردّ على استهداف المدنيين والمجازر؛ أي إنه خطاب سياسي، في مقابل خطاب المناهضين للمقاومة الذين يستعملون مفردات النور والظلام والخير والشر وطالوت وجالوت؛ استعادةً لخطاب الفسطاطَين، كما طرحه الرئيس الأميركيّ الأسبق بوش الابن، وبن لادن في 2001.

اختبار موازين القوى

الصراع في "طوفان الأقصى" – كما كان في حقبة سبتمبر (2001-2021) – صراعٌ سياسيٌّ تختبر فيه أطرافه المُصطرعة موازين القوى فيما بينها، في ظلّ امتزاج شديد للحقوق المشروعة للشعب الفلسطينيّ بالمشاعر الدينية والقيم الثقافيّة والحضاريّة.

وبرغم هذه الحقيقة فإنّ إعادة إنتاج 11 سبتمبر مرَّة أخرى لم تعد ممكنة للأسباب التالية:

  • أولًا: غياب الإجماع الدوليّ والغربي على السواء: ففي سبتمبر القديم وقف الجميع- بما فيهم أغلب الرأي العام في العالم الإسلاميّ- مع أميركا التي غُزيت أرضُها وتعرَّضت للاعتداء من خارجها، واستطاع بوش الابن- بعد أن نجحَ في انتخابات احتاجت المحكمة العليا لحسم نتائجها- أن يحشد الشعب الأميركيّ خلفه.
    من اللحظة الأولى توحّدت أميركا المنقسمة حول بوش، لكن على ما يبدو؛ فإنّ الانقسام -الآن- طال كل شيء في أميركا، ما يتطلب من بايدن محاولة خلق الإجماع، كما في خطابه يوم الخميس 19 أكتوبر. فمعَ استحضاره المتكرّر لعبارة "هذه هي الولايات المتحدة"، يبدو أنّ بايدن يحاول فعليًا تحقيق الوَحدة التي أفلتت من أميركا على مدى العقد الماضي.
    الاتحاد الأوروبي الذي يضمّ 27 دولة ليس على قلب رجل واحد؛ وإنّما تتوزّع مواقف حكوماته وتتباين. يمتدّ هذا الانقسام أيضًا إلى الرأي العام، وداخل بعض الأحزاب السياسيّة، كما في الحزب الديمقراطي الأميركي، والعمال البريطاني. وفرنسا منقسمة، وأسكتلندا ليست على الصفحة نفسها مع إنجلترا.
    يبدو في خلفيّة المشهد الصراع مع روسيا – كما يظهر في أوكرانيا- والتنافس مع الصين على هيكل القوة في النظام الدولي، لذا فقد حاول بايدن خلق الإجماع داخل المؤسّسات والرأي العام الأميركي من خلال الربط بين القضايا، مع إبراز القدرة الأميركية على العمل في جبهات متعدّدة.
    تحدّث الرئيس الأمريكي جو بايدن – مساء الخميس 19 أكتوبر- إلى الأميركيين من المكتب البيضاوي- في الخطاب الثاني فقط من نوعه خلال رئاسته – لربط الصراعات في إسرائيل وأوكرانيا كجزء من نضال أكبر من أجل الديمقراطية والحريَّة. وأوضحَ بايدن أنّ قيادة الولايات المتّحدة في هذه الأزمات العالميّة ستجعلها أكثر أمانًا. وصرَّح للأميركيين بأنَّ هذا الأمان سيكون له ثمن، ودعا الكونجرس إلى تمرير حُزمة مساعدات "غير مسبوقة" لأوكرانيا وإسرائيل. لكنّه أخبر الأميركيين أيضًا أن تكلفة الابتعاد عن هذه الحروب ستكون أعلى بكثير.
    في سبتمبر القديم، كان التساؤل حول لماذا يكرهوننا؟ في إشارة لموقف العالم الإسلامي من أميركا، أمّا السؤال الآن فهو لماذا يجب أن نهتمّ بالحرب في أوكرانيا وإسرائيل؟
    خلق سبتمبر القديم منظورًا شاملًا لأجندة العمل الدوليّ وأولوياته التي تركزت حول "الحرب على الإرهاب". كانت "الحرب على الإرهاب" أكبر مشروع في فترة الهيمنة الأميركية التي بدأت عندما انتهت الحرب الباردة. الواقع العالميّ الراهن تتزاحم فيه اهتمامات جديدة للأمن العالمي، تبدأ بالتغير المناخي، ولا تقف عند الذكاء الاصطناعي.
  • ثانيًا: تحدي الإدارة العسكرية لساحات متعددة: دخل الرئيس بايدن البيت الأبيض بهدف إنهاء الحروب الأبدية التي استهلكت أميركا لمدة عقدَين من الزمن، والتركيز بدلًا من ذلك على الأولويات المحليّة وتوجيه الولايات المتحدة للتنافس مع الصين.
    ولكنه بعد سنتَين من الانسحاب من أفغانستان، يبدو متورطًا في ساحات متعددة، أو على حدّ قول أحد المحللين: "أراد بايدن إنهاء الحروب الأبدية، والآن يبدو وكأنّه رئيس في زمن الحرب". "طوفان الأقصى" هي الحرب الثانية التي استثمرها الرئيس بايدن بالقوَّة والهيبة الأميركية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وتظلّ ساحة المحيطَين: الهندي والهادئ أولوية أيضًا لردع الصين.
    أصرَّ الرئيس بايدن على أنَّ الولايات المتحدة لديها القدرة العالمية والموارد العسكرية للتعامل مع أزمة غزة ودعم أوكرانيا. وقال لبرنامج 60 دقيقة على شبكة CBC خلال مقابلة بُثت يوم الأحد: "يمكننا الاهتمام بكلا الأمرَين إلى جانب الاستمرار في الحفاظ على دفاعنا الدولي لمنع انتشار الصراع بنشر مزيد من الأسلحة وحاملات الطائرات، يمكن أن تحجب الجهود الأميركية طويلة المدى للتركيز على منطقة المحيطَين: الهندي والهادئ ودعم الجهود الأميركية وقدرة حلف شمال الأطلسي على ردع روسيا.
    ورغم أنَّ عمليات النشر الأميركية الأخيرة للأصول البحرية وأسراب المقاتلات وقوات الدعم، كانَ المقصود منها أن تكون مؤقتة، فإن الأزمة لا تبدو قصيرة الأمد. وقد يجبر هذا الصراع الولايات المتحدة على إعادة التفكير في كيفية استخدام قواتها العسكرية في الشرق الأوسط، ويشكل اختبارًا لكيفية استمرار البنتاغون في دعم أوكرانيا والحفاظ على التركيز على الصين، التي وصفتها وزارة الدفاع بأنَّها أولويتها القصوى على المدى الطويل.
  • ثالثًا: وَهْن المثال الأمريكي- الغربي: في سبتمبر القديم امتلكت الولايات المتحدة قوة تزيينية -وَفق التعبير القرآني "زُين للناس" لمُثلها وقيمها ونماذجها التطبيقية. خرجت من الحرب الباردة منتصرة تتبوأ وحدها مقعد القيادة في النظام الدولي. انعكس هذا على عمل المنظمات الدولية وبناء قواعد جديدة تحكم العالم، كما ظهرَ في عمل منظمة التجارة الدولية ومؤسسات بريتون وودز التي أعطت دفعة قوية للنيوليبرالية الاقتصادية، بالإضافة إلى العولمة المالية والثقافية والمعلوماتية.
    انعكسَ فائض المثال الأميركي في فترة ما بعد الحرب الباردة على حقبة سبتمبر القديمة؛ فكان من أهدافها نشر الديمقراطية وإعادة بناء الدول وَفق النموذج الأميركي، كما جرى في أفغانستان والعراق.
    ثبت فشل هذه الأهداف؛ فقد تراجعت الديمقراطية في العالم على مدار العقدَين الماضيين، كما رصد "بيت الحرية" في مؤشراته المتتالية، ولم تنجح تجارب بناء الدول من الخارج أو تفكيكها وإعادة بنائها من جديد. ضعفت المؤسسات السياسية واشتعلت الحروب الطائفية وزاد الفساد وتراجع الاقتصاد.

تداعيات الأزمة

لن أتحدث عن "الإغراء الأخير للغرب"، ولا "الحرب الحضارية الثانية"، كما كتب المفكّر حسن أوريد في الجزيرة نت، فهذا قد يحتاج معارضة ونقدًا ربما أخصص له مقالي القادم، ولكنني سأشير إلى المخاوف التي باتت تنتابني وكثيرًا من الناشطين في مجال دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، على مستقبلها في منطقتنا؛ فهذه الأزمة سيكون لها تداعياتها على مزيد من إعطاء قوة دفع للتسلُّطية في العالم العربي والعالم للأسباب التالية:

  • أولًا: التغطية على انتهاكات حقوق الإنسان
    يسمح انشغال الحكومات والرأي العام بما يجري في المنطقة والعالم بالمزيد من انتهاكات حقوق الإنسان دون محاسبة أو مراجعة أو رقابة. ما يتعرض له المدنيون في غزة مع ضعف قدرة النظام الدولي على وقفه أو التخفيف منه؛ يلقي بظلال كثيفة على قدرة هذا النظام والقواعد التي أنشأها على المحاسبة أو الرقابة أو فرض القواعد على إسرائيل أو غيرها من الدول.
  • ثانيًا: على الرغم مما يبدو من استعادة الرأي العام العربي بعضًا من حيويته في هذه الأزمة؛ فقد كان أحد محددات موقف الحكومات العربية المعلن – برغم هذا الحضور- إلا إنني أتصور أن السلطات في المنطقة ستكون أكثر وعيًا بضرورة رجوعه سريعًا لحالة السكون. هناك مخاوف حقيقية للأنظمة في المنطقة، مما يمكن أن نطلق عليه "وحدة القضايا" التي مفادها أن الحكومات مسؤولة عن تدهور معيشة المواطنين، كما هي مسؤولة عن خِذلان أهل غزة.
    نادى المتظاهرون في شوارع مصر للعيش والحرية والكرامة والعدالة -شعارات يناير- كما نادَوا لفلسطين ونصرة الأقصى، وكان ميدان التحرير بما يحمله من دلالة رمزية قِبلتهم التي حرموا من التوجه إليها عقدًا من الزمن.. دفع كل هذا النظام المصري لمنع التظاهر بعد ذلك والقبض على متظاهري التحرير.
  • ثالثًا: مزيد من جاذبية النموذجين: الروسي، والصيني؛ في الأول بحث بعض العرب عن الرجل القوي، وفي الثاني رأوا فيه القدرة على تحقيق التنمية، والاثنان معًا يتنافسان مع الغرب ويقفان مساندين للفلسطينيين.
  • رابعًا: على الرّغم من أنَّ المنظمات الحقوقية الدولية تلعب دورًا في فضح الانتهاكات الإسرائيلية، إلا أن قدرتها ستظل ضعيفة في معالجة تجاوزات حقوق الإنسان في المنطقة لغياب ضغط الحكومات الغربية التي فقدت مصداقيَّتها في هذا الباب، والتي ستكون حريصة على دعم حكومات المنطقة لاحتواء نتائج الحرب أولًا، والإحاطة بالمقاومة تاليًا؛ حتى لا يمتد انتصارها من القضية الفلسطينية إلى داخل الأنظمة العربية ذاتها.

يزعم كاتب هذه السطور أن هناك تحالفًا بدأ يتشكل على غرار ما طرحه ماكرون في زيارته للمنطقة ضد المقاومة. هذا الحلف سيضم بين جنباته وفي صعيد واحد المستبدين والمطبِّعين معًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.