كيف يصوغ هدف سحق حماس غطاءه الأخلاقي؟

بالرغم من أن بايدن أكد أنه حثّ رئيس بنيامين نتنياهو على احترام القانون الدولي، إلا أنه سكت عن قصف إسرائيل العشوائي لغزةَ (الفرنسية)

في الأيام الماضية، استدعَى الرئيس الأمريكي جو بايدن العديدَ من التعبيرات القِيميّة لوصف ما قامت به حركةُ حماس أثناء هجومها على المستوطنات الإسرائيلية في محيط غزة، وذلك يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول ضمن ما سُمي "طوفان الأقصى". شملت هذه التعبيرات ألفاظًا مثل "الوحشية"، وحملة من "القسوة الخالصة" ضد الشعب اليهودي، و"الشر المطلق"، و"الكراهية"، و"اليوم الأكثر دموية لليهود منذ المحرقة"، وغيرها من التعبيرات التي تحيل إلى أمرَين أساسيين:

نزع الصفتين: الأخلاقية والسياسية عن أي فعل مقاوم. نزع الأنسنة عن حركة حماس ودعْشنتها.

ففيما يخصُّ الأمر الأول، وهو نزع الصفة الأخلاقية والسياسية، من الواضح أنه أُرِيد للحدث الأخير أن يتحول إلى 11 سبتمبر جديدة، ومن متطلبات ذلك التي خبرناها جيدًا إلغاء المسافة الفاصلة بين التفسير والتبرير في التعامل مع الحدث، وإدانة أي تعاطف مع القضية الفلسطينية نفسها لا مع حماس، بل وإدانة حمل علَم فلسطين. فالواجب -بحَسَب معايير حدث 11 سبتمبر- يفرض نزع أي صفة أخلاقية أو سياسية عن العملية العسكرية التي قامت بها حركة حماس، مع تجاهل تام لفكرة أننا أمام حركة مقاومة مسلحة ضد نظام احتلال وفصل عنصري، وتجاهل لفكرة أن العملية تمت على أبواب جدار الفصل العنصري الذي أقامه الاحتلال نفسه على أراض مغتصَبة من الفلسطينيين.

فالرئيس الأمريكي وزعماء ما يسمى "العالم الحر" وإعلامهم تمالؤوا -جميعًا- على عزل الفعل الذي قامت به حماس عن أي شيء آخر؛ بوصفه فعلًا معزولًا بلا سياق ولا تاريخ سابق على هذا الفعل، ومن ثم بالغوا في تصوير بشاعة الحدث عبر تزييف أخبار حول قطع رؤوس أطفال أو إحراق جثث، وهي تصريحات جرى التراجع عنها فيما بعد؛ لعدم توفر أي أدلة تثبتها. فنزع الصفتين: الأخلاقية والسياسية يخدم فكرة نزع الأنسنة، ويؤكد فكرة البربرية، كما سنوضح، ويشرعن -في المقابل- أفعال إسرائيل في مواجهة تلك البربرية المفترضة؛ بما أن الحرب تقوم خارج دائرة السياسة والأخلاق والقانون معا.

وفيما يخصّ نزع الأنسنة (dehumanization)، فهو ضروري لتحقيق الهدف السياسي والعسكري الذي وضع لهذه المعركة، وهو سحق حماس مهما كلف ذلك من خسائر بشرية، بل ومعاقبة أهل غزة جميعًا، ومن ثم جرت المبالغة في رسم صورة متوحّشة لحماس ومساواتها بداعش (تنظيم الدولة الإسلامية)؛ رغم أنّ ثمة فروقًا عديدة بين حماس وداعش. فحماس حركة مقاومة وطنية تتقيد بحدود دولة فلسطين وتواجه احتلالًا، وتتقيد بأخلاقيات محددة في الحرب، في حين أن داعش هي حركة احتجاج على النظام الدولي، وتسعى لإقامة الخلافة عابرةً للحدود، ولا تلتزم بأي أخلاقيات في الحرب؛ لأنها تقوم على التوحّش. وقد حرصت صفحة "إسرائيل بالعربية" -مثلًا- على استخدام وسم في نهاية كل تعليق لها ينص على أن حماس هي داعش؛ ما يؤكد الهدف السياسي والعسكري للمعركة الإسرائيلية.

وقد انطوى الأمران السابقان -وهما نزع الصفتين السياسية والأخلاقية ونزع الأنسنة- على محاولة للاستعلاء القِيمي على حركة حماس والفلسطينيين عامة؛ ومن ثم استرخاص أرواحهم؛ لأن إسرائيل تواجه "داعش" أو "النازية" أو هجوما "بربريا" أو "همجيا" بحسب اختلاف الأوصاف التي استعملها مسؤولون إسرائيليون وغربيون. فالهدف إخراج فعل حماس من دائرة الفعل السياسي والعسكري كليةً إلى الفعل الإجرامي والانتقامي المحض الذي لا يحتكم إلى أي قانون أو مبادئ أخلاقية، ولاسيما أن حماس مصنفة حركةً إرهابية، وهو تصنيف سياسي وليس قانونيًّا؛ أي أنه تصنيف يتوسّل بالسياسة لنزع صفة السياسي عن خصومه.

في المقابل، جرى الإلحاح على أمرَين بحقّ إسرائيل يؤكدان هذه الاستراتيجية الإعلامية الخادمة للهدف السياسي والاستراتيجي، وهما:

  • الإلحاح على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
  • والحرص على إدانة صريحة وغير مشروطة لحماس من قِبل الفلسطينيين والعالم.

بالنسبة لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فقد حرص العديد من الزعماء الغربيين على تأكيد أن إسرائيل لديها "كامل الحق في الدفاع عن نفسها"، ولكنّ في هذا التصريح تحايلًا على أمرَين:

  • الأمر الأول: أن الحديث يتم عن حق دولة في الدفاع عن نفسها أمام هجوم حركة مقاومة على أرض خاضعة للاحتلال منذ عقود. فحق الدفاع عن النفس يحضر -عادة- بين دولة ودولة وفق القانون الدولي، وغزة ليست دولة، وحكومة غزة لم يتم الاعتراف بها لا سياسيا ولا قانونيا، كما أن القانون الدولي يمنح الشعب الخاضع للاحتلال حقّ الدفاع عن النفس أيضًا، ومن شأن هذا أن يضفي بعض الشرعية على فعل حماس أيضًا؛ بوصفه فعلًا مُقاومًا من حيث المبدأ دون التفاصيل.
  • الأمر الثاني: أن حق الدفاع عن النفس بين الدول يضبطه القانون الدولي؛ فهو ليس مطلقًا من أي قيد أو شرط، وهذه القيود والشروط تسعى للحفاظ على الحد الأدنى من الإنسانية والضوابط الأخلاقية التي تحكم الحروب بين الدول، ولكن إسرائيل لم تتقيّد بأي قانون أو قواعد أخلاقية، سواء تلك التي تنظّم العَلاقة مع الشعب المحتل، أم تلك التي تخص الحروب التي تنشأ بين الدول. هذا يعني أن إلحاح قادة الدول الغربية -وعلى رأسهم أمريكا وبريطانيا- على حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها عَنَى إطلاق يدها في غزة بلا قيد ولا شرط.

فبالرغم من أن بايدن أكد -مرة- أنه حثّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على احترام القانون الدولي، إلا أنه سكت -تمامًا- عن قصف إسرائيل العشوائي لغزةَ وتهجير سكانها بشكل منهجي، وقد أسفرت الحرب على غزة  -حتى الآن- عن قتل نحو 3 آلاف فلسطيني وجرح نحو 11 ألفًا، غالبهم من الأطفال والنساء، ونحن نتحدث عن نحو مليونَي إنسان مدني أعزلَ ومحاصر ومحشور في بقعة جغرافية محدودة للغاية. ثم إن الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل (بالعتاد العسكري والدعم السياسي وبالجنود) يعني أنَّ كلام بايدن عن حثّ نتنياهو على احترام القانون الدولي هو مجرد كلام دبلوماسي.

ومن اللافت أن بعض القادة الإسرائيليين تمتعوا بالصراحة الكافية في هذا الأمر بعيدًا عن الكلام الدبلوماسي، فقد اعتبر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ جميع الفلسطينيين مسؤولين عما قامت به حماس، فقال: "من الواضح -وبشكل لا لبسَ فيه- أن هناك أمة كاملة تتحمل المسؤولية" عن هجوم حركة حماس، وأنه "ليس صحيحًا أن المدنيين غير ضالعين في الأمر".

فالرئيس الإسرائيلي يرفض -بوضوح- التمييز الذي أقامه القانون الدولي بين العسكريين والمدنيين، وقد أكّد هرتسوغ ذلك أكثر من مرة؛ ففي مؤتمر صحفي مصور استنكر مجرد السؤال عن التزام إسرائيل بقواعد القانون الدولي في غزة، بل وبّخ الصحفية الأجنبية التي سألته عن ذلك. وكذلك فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت؛ فحين سأله صحفي أجنبي – في لقاء تلفزيوني – عن آثار قطع الكهرباء عن قطاع غزة الذي قامت به إسرائيل عقوبة لأهل غزة جميعًا، ولاسيما الأطفال في الحاضنات والمرضى في المستشفيات الذين يحتاجون إلى أجهزة الدعم الصحي، قابل بينيت السؤال باستنكار ووبَّخ الصحفي قائلًا: "هل أنت جاد؟! أتسألني عن المدنيين الفلسطينيين؟! ألم ترَ ما يحدث؟! نحن نقاتل النازيين"، وهذا تصريح برفض التمييز بين المدني والعسكري في الحرب.

بقي الأمر الثاني، وهو الحرص على انتزاع إدانة صريحة وغير مشروطة لحماس من قبل ضحايا الاحتلال الإسرائيلي عبر عقود، فالسؤال الأول الذي انشغل به الصحفيون الغربيون في حواراتهم مع المسؤولين والمعلّقين الفلسطينيين هو: هل تدين ما فعلته حماس؟ وكأنَّ هذا السؤال مقدمة ضرورية للمضي في الحوار؛ رغم أن عامة هؤلاء الصحفيين تجاهلوا القصف الإسرائيلي على غزة وضحاياه الذين بلغوا الآلاف خلال عشرة أيام فقط.

بات من الواضح -بعد كل ما سبق- أن الهدف السياسي والعسكري يتقدم على الأخلاق والقانون الدولي الإنساني؛ فتدمير حماس استدعى تلك الاستراتيجية الإعلامية التي شرحت أبعادها الأربعة التي تتناول حماس من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، وهي تسعى إلى توفير الغطاء الأخلاقي للكلفة الإنسانية الباهظة لتحقيق الهدف السياسي العسكري. وللأسف فإن الإعلام الغربي تحول إلى ذراع خادمة لهذه الأجندة الأمريكية والإسرائيلية، وقد جرى إسنادها أيضًا بقرارات غربية عديدة بمنع التظاهر دعمًا لفلسطين، وتقييد حركة الوصول إلى تعليقات الفيسبوك وغيره، في محاولة لمنح مهلةٍ أطولَ لإسرائيل لتحقيق الهدف السياسي والعسكري المعلن، وتلافي تشكُّل ضغط إنساني قد يُعيق تحقيق الهدف المعلن للمعركة، ولكن هذه الاستراتيجية غفلت عن مسألة مركزية هنا وهي أنها ستقود غالبًا إلى نمو نزعات التطرف؛ بعد انسداد الأفق السياسي والمقاوم سواءٌ كان عسكريًّا أم سلميًّا، والله المستعان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.