الأعياد وشعائر الدين.. التعبدي والعادي ومنهجية النظر الفقهي

Omran Abdullah - ترنيمة عيد الميلاد لتشارلز ديكنز، ويكي كومون  - جاري رفعه: إلهام رواية ديكنز وإعلانات الشركات الكبرى.. تحولات الكريسماس بين الثقافة والدين
ترنيمة عيد الميلاد لتشارلز ديكنز (الجزيرة)

في مقال الأسبوع الماضي جعلت تهنئة غير المسلمين بأعيادهم أحد الأمثلة على تحويل بعض مفتي اليوم الموروث الفقهي إلى مشكلة، بل صار أمارة على انحسار المتفقهة الذين يحسنون قراءة المصادر الفقهية الكلاسيكية، سواء لجهة معانيها أم لجهة سياقاتها: التاريخية والاجتماعية والمذهبية، وكيف أنه هيمنت على كثير منهم طريقة حشد النصوص والاقتباس دون اقتناص المعاني والعلل التي أنيطت بها الأحكام، أي أنهم لم يفتقروا فقط إلى تحصيل الملَكة الفقهية، بل افتقروا أيضا إلى "اللياقة" اللازمة لتحليل النصوص والعبور منها إلى المعاني وإدراك الأشباه والنظائر، والفروق، والعلل التي تناط بها الأحكام والتقويمات، واختلافات السياق والأعراف والمفاهيم، وهو ما عبرت عنه بغياب منهجية التفقه واستثمار النص الفقهي في الواقع المعاصر.

وكنت قد تناولت -في مقال الأسبوع الماضي- هذا الإشكال المنهجي من خلال 3 مسائل هي:

  1. ربط المسائل الفرعية بأصولها الحاكمة لها.
  2. الربط بين الأحكام (أو التقويمات) وعللها.
  3. الربط بين الأحكام والفضائل التي تحتها، ولكن بقيت مسألة رابعة أخصص لها هذا المقال، وهي تحرير المفاهيم الأساسية التي ينبني عليها الحكم وما يطرأ عليها من تبدلات ينبغي أخذها بعين الاعتبار حين استثمار الموروث وتنزيل أحكامه، وسأعود مجددا إلى تهنئة غير المسلم بأعياده بوصفها مجرد مثال، فهي ليست مقصودة لذاتها، بل للتمثيل فقط ولكثرة تعقيداتها والجدل حولها في كل عام.

يقول فريق إن تهنئة غير المسلم بأعياده حرام، لأن العيد من أخص خصائص شعائر دينه، ومن ثم فالتهنئة تنطوي على الإقرار والرضا بمعتقده الباطل، وبهذا تدخل التهنئة تحت أصل كلي متفق على تحريمه، وهو أن "التهنئة بشعائر الكفر المختصة به" حرام، بل كفر، مما يعني أن التهنئة -بذاتها أو بمجردها- حرام، ومثل هذا الحكم يفرض مساءلة مفهوم "شعائر الكفر"، وما إذا كانت التهنئة بالعيد تدخل فيها، ولمناقشة هذا سأتناول 3 مسائل هنا:

  • الشعائر بين التعبدي والعادي
  • المشاركة بين الصورة والمعنى
  • هل العيد بذاته معصية؟

أولا: الشعائر بين التعبدي والعادي

الفكرة المركزية هنا لدى المحرِّمين هي اعتبار العيد شريعة وشعيرة معا، بل عدم التمييز في العيد بين الجانبين التعبدي والعادي، بحجة أن العادة هنا من توابع العيد وداخلة فيه، فصارت المشاركة فيه أو التهنئة به محرمة لذاتها لأجل هذا.

وهذا المعنى هو من إضافة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتبعه عليه تلميذه ابن قيم الجوزية وعامة الوهابية، وكلام ابن تيمية وارد في سياق الحديث عن أصل عام هو مشابهة المسلمين لغيرهم، ومشاركتهم لهم في شعائرهم وعاداتهم.

وفي هذا السياق، يقرر ابن تيمية أن "الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك، كالقبلة والصلاة والصيام"، وبهذا لم يفرق "بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج"، بل اعتبر أن "الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر"، لأن "الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر".

وخلص ابن تيمية إلى أن "العيد وتوابعه من الدين الملعون هو وأهله"، وبهذا لم يميز بين ما يُتَديَّن به في العيد وبين ما يلحقه من التوسع في العادات (كالطعام واللباس، واللعب والراحة).

والمتأمل لكلام ابن تيمية المطول يجد أنه استند في هذه الخلاصة التي قدمتها إلى 3 أمور:

الأمر الأول: قياس التمثيل، حيث لجأ إلى أصل كلي هو محل اتفاق بين العلماء، وهو تحريم موافقة غير المسلمين في شعائر الكفر، ثم ألحق به موافقة المسلمين غيرهم في أعيادهم، لوجود المعنى نفسه، ثم اعتبر أن هذا النوع من القياس التمثيلي أوضح من القياس الجزئي الذي يُلحق فيه الفقيه فرعا بفرع جريا على عادته في حمل الجزئيات على النص عن طريق القياس الكلي لا الجزئي، ويقول "شريعة من شرائع الكفر، أو شعيرة من شعائره، فحُرِّمت موافقتهم فيها كسائر شعائر الكفر وشرائعه".

الأمر الثاني: أن المشابهة بين المسلمين وغيرهم تؤدي إلى مفاسد جمة، ولذا وجب سد هذه الذريعة، وقد بالغ ابن تيمية حتى عد أن المشابهة في القليل ذريعة ووسيلة إلى القبائح المحرمة، بل تفضي إلى ما هو كفر بالله "من التبرك بالصليب والتعميد في المعمودية"، وأن "المشابهة في ما لم يظهر تحريمه للعالِم توقع العامي في أن يشابههم في ما هو حرام، وهذا هو الواقع"، وأنه "إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيدا حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر"، وأن "المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن"، وأن "مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل"، وأن "جنس الموافقة يُلبس على العامة دينهم حتى لا يميزوا بين المعروف والمنكر".

الأمر الثالث: عمل الناس في زمان ابن تيمية، وعاداتهم في موافقة أهل الذمة في أعيادهم ومشاركتهم لهم فيها، وقد فصّل في بيان ذلك حتى قال "لو لم نر موافقتهم قد أفضت إلى هذه القبائح لكان علمنا بما الطباع عليه، واستدلالنا بأصول الشريعة يوجبان النهي عن هذه الذريعة، فكيف وقد رأينا من المنكرات التي أفضت إليها المشابهة ما قد يوجب الخروج من الإسلام بالكلية؟".

ورغم أن ابن تيمية يتحدث هنا عن الموافقة والمشابهة ولو في قليل، وهي مسألة أوسع من مجرد التهنئة فإن مدار كلامه على اعتبار العيد شعيرة وشريعة، وهو الأصل الذي قاد إلى تحريم التهنئة بمجردها لدى فريق من الناس، والزعم بأنه لا يمكن التمييز بين التعبدي والعادي في العيد، ومن ثم أدخل الموافقة والمشاركة في العيد -وهي مسألة جزئية- في عموم الموافقة في شعائر الكفر (وهي أصل كلي).

لكن هذا الاجتهاد من ابن تيمية مخالف للنظر الفقهي المذهبي ولا يُسَلَّم له، وبيان ذلك من وجوه:

الوجه الأول: على فرض التسليم بأن العيد شعيرة وشريعة معا فإن التهنئة به لا تستلزم المشاركة والموافقة عليه، وهو جوهر النزاع، فالقياس التمثيلي الذي قام به ابن تيمية تناول مفهوم العيد من منظور المحتفلين ولم يتناول مقصود المهنِّئ به، وهما مسألتان منفصلتان خلط بينهما بعض المعاصرين.

الوجه الثاني: أن ابن تيمية أدار المسألة على مجرد خصوصية يوم العيد وأنه صار عيدا بهذه الخصوصية، وأنها هي التي جعلت منه شعيرة وشريعة، وذلك جار على قاعدته أيضا في المولد النبوي كما سأوضح لاحقا، ولكن فقهاء آخرين ميزوا بين العبادة والعادة في العيد، سواء لجهة التهنئة به أم لجهة تخصيص يوم العيد بشيء دون غيره.

  • فبخصوص التهنئة به: سُئل الإمام سراج الدين البُلقيني الشافعي عن مسلم قال لذمي في عيد من أعيادهم "عيد مبارك عليك": هل يكفر أم لا؟ فأجاب: "(1) إن قاله المسلم للذمي على قصد تعظيم دينهم وعيدهم فإنه يكفر، (2) وإن لم يقصد ذلك، وإنما جرى ذلك على لسانه فلا يكفر، لما قاله من غير قصد". وقد نقل كلام البلقيني أبو عبد الله الحطاب المالكي (954 هـ) مستشهدا به ولم يعترض عليه.
  • وبشأن تخصيص يوم العيد بشيء دون غيره، افترض قاضي خان الحنفي (592 هـ) إمكان التمييز بين العادة والعبادة في تخصيص يوم العيد، فمن اشترى يوم عيد النيروز شيئا لم يشتره في غيره احتمل فعله 3 احتمالات أو قُصود: (1) تعظيم ذلك اليوم كما يعظمه الكفرة (2) ومجرد التنعم والسَّرَف (3) والجري على عادة الناس في ذلك اليوم، فالمعنى الأول من الثلاثة كفر بخلاف المعنيين الآخرين، لأنه دخل في الموافقة التعبدية بخلاف المعنيين الآخرين.

الوجه الثالث: أن الأعياد الدينية ذات المعنى التعبدي الأخروي تحولت إلى تقاليد، على معنى العادات الاجتماعية والثقافية (أي دنيوية خالية من معنى التعبد، ومتوجهة إلى معنى الاجتماع والاحتفال)، ولا ينبغي هنا إسقاط النقاشات الحديثة حول "علمنة المفاهيم الدينية" -التي تحدث عنها غير واحد، منهم كارل شميت وطه عبد الرحمن- على نقاش ابن تيمية حول كون العيد شعيرة وشريعة، لمحاولة إلغاء البعد العادي وتثبيت الأصل التعبدي الخالص للعيد، لأننا هنا أمام قاعدة أصولية وقع الخلاف فيها، وهي تعارض الأصل والظاهر، فظاهر الأعياد اليوم أنها مسألة عادية وثقافية، فجمهور المحتفلين من النصارى لا يدخلون الكنيسة أصلا، وهو أمر يختلف عما فصّل فيه ابن تيمية من مشاركة أهل زمانه لغير المسلمين في أفعالهم وأعيادهم، وشنع عليهم بل وهوّل أحيانا.

ومع ذلك، لا يمكن نفي أن العيد ذو أصل ديني شعائري، وها هنا تعارض الأصل (التعبدي) والظاهر (العادي)، ومذهب الجمهور في مثل هذا التعارض هو تقديم الظاهر على الأصل، ومذهب أحمد بن حنبل أنه يتساوى الأصل والظاهر، وهذا يعضد فكرة أن التهنئة جارية على العادة لا على العبادة وتعظيم الكفر وشعائره.

الوجه الرابع: أن ابن تيمية شمل الموافقة والمشابهة في العبادات والعادات، ولكن ذلك لا يُسلّم له كذلك، وأذكر هنا مسألتين في وقوع الموافقة مع مجرد الكراهة وعدم التحريم:

  • موافقة غير المسلمين في التأقيت، فقد قال الإمام الجويني الشافعي (478 هـ): "وأَبْعَد بعضُ الأصحاب فمنع التأقيت بما يشتهر بالكفار ويُعزى إليهم من المواقيت، وهذا ساقطٌ لا أصل له، فإن الغرض من التأقيت الإعلام، فإذا حصل لم يختلف الأمر بأن يُعزى إلى الكفار أو إلى المسلمين، نعم يجوز أن يقال: يُكره ربط المواقيت بحسابهم من طريق الأدب".
  • إباحة ذبائحهم التي ذبحوها لأجل العيد، وإن ذُبحت "للكنائس أو لعيسى أو لجبريل"، فالإمام مالك رأى أن ذلك مكروه فقط من غير تحريم. قال محمد بن حبيب: "وإن ما ذبح للكنائس ولعيسى وللصليب ولمن مضى من أحبارهم: لَيضاهي ما أُهلَّ لغير الله به مما ذبح للأصنام، ولكن لم يَبلغ به مالك التحريم؛ لأن الله أحل لنا طعامهم وهو يعلم ما يفعلون، وترك ذلك أفضل".

والانفكاك بين التعبدي والعادي هنا له أوجه: إما أن يكون بدليل قطعي وهو تَبَيُّن قصد الفاعل/المكلف، أو بدليل ظني وهو تغليب الظاهر (العادي) على الأصل (التعبدي) للعيد، ووجه التغليب هنا هو أحوال الناس وأعرافهم كما سبقت الإشارة من قبل قاضي خان وغيره، وبناء على المعهود من المؤمن في أنه لا يهنئ بمعتقد مخالف لما يعتقده، فضلا عن أن يرضى به، وإحسانا للظن بالمكلفين في تنزيل مقاصدهم على وجه حسن يليق بمثلهم.

ثانيا: المشاركة بين الصورة والمعنى

لكل فعل صورة ومعنى أو ظاهر (صورة الفعل) وباطن (قصد الفاعل ونيته)، ومن ثم كانت الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، ولكن ينشأ الإشكال في حالة الصورة التي تحتمل معاني متباينة، هل يكفي مجرد الصورة للدلالة على تحريم الفعل نفسه؟ لا بد هنا من العودة إلى مقاصد الفاعلين أو المكلفين، وهو ما قررناه سابقا من انفكاك الجهة بين مقاصد المحتفلين ومقاصد المهنئين التي هي ما يحدد مدلولات الأفعال هنا، ولا سيما أننا نتحدث عن تعبدات وأحكام عملية (فقهية) وأحكام نظرية (عقدية)، ومن ثم لا يمكن إجراء الأحكام على الظاهر فقط مع وجود الاحتمال، كما لا يمكن المطابقة بين العيد وبين التهنئة به أو فيه، ولكن المحرِّمين يريدون أن يجعلوا صورة الفعل الظاهرة هي المعبر عن حقيقته، ومن ثم يجعلون التهنئة محرمة بذاتها، كما يفعلون الأمر نفسه في حكم الاحتفال بعيد المولد النبوي تبعا لابن تيمية بناء على قاعدته في التحريم.

وبناء على ما سبق من اعتبار العيد من الشعائر والشرائع اضطر ابن تيمية إلى التضييق جدا في الأعياد، وأن العيد يتوقف على إذن الشارع كشأن المسائل التعبدية سواء بسواء، فالسمة الأساسية للعيد هي كون "كل ما يختص به ذلك من عبادة وعادة، فإنما سببه هو كونه يوما مخصوصا"، فتخصيصه يجب أن يكون من الشارع، ومن ثم اعتبر أن تخصيص أيام أعياد غير المسلمين وتخصيص يوم للمولد النبوي كذلك ليس من دين الإسلام في شيء، فالأول كفر والآخر ابتداع.

ولهذا اعتبر ابن تيمية أن العيد "اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم فيه اجتماع، وكل عمل يُحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة، فليس النهي عن خصوص أعيادهم، بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام، وما يُحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك"، بل أدخل كذلك في مفهوم العيد 3 أمور: (1) "حريم العيد"، أي "ما قبله وما بعده من الأيام التي يُحْدِثون فيها أشياء لأجله، (2) وما حوله من الأمكنة التي يُحدث فيها أشياء لأجله، (3) وما يحدث بسبب أعماله من الأعمال، أي حكمها حكمه.

فابن تيمية يجري هنا على اتساق في تهنئة غير المسلمين وفي الاحتفال بالمولد النبوي جريا على قاعدته، وهي أن إحداث مثل هذه الأعياد ضلالة ثابتة حتى قبل ورود النهي عنه أو حصول المفسدة بفعله، فعنده أن ما يفعله غير المسلمين "في أعيادهم معصية لله، لأنه إما مُحدَث مبتَدَع وإما منسوخ، وأحسن أحواله -ولا حسن فيه- أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس".

أما ما يُحدثه المسلمون من أعياد فهو ابتداع في الدين لم يأذن به الله، فلو كان خيرا لما امتنع القيام به في زمن السلف مع "قيام المقتضي له، وزوال المانع" منه، فكل ما يبديه المُحْدِث لهذا العيد من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أن ابن تيمية يستدل بمجرد الترك هنا، ويجعله "سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس".

وهذا النوع من الاستدلال لا يوافقه عليه الأصوليون، ووفق هذا المسلك الاستدلالي يمنع ابن تيمية من مجرد المشاركة الظاهرة أو الصورية في أعياد غير المسلمين، لأنهم محّضوها لشعائر الكفر في رأيه، وبهذا بتنا أمام مطابقة بين الظاهر والباطن وإقامة مجرد الظاهر دليلا على الباطن رغم أنه لا يوجد تلازم بين الظاهر والباطن هنا، لا عقلي ولا شرعي ولا عرفي، وبيان ذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن عدم الاكتفاء بالصورة الظاهرة، وتقويم الأفعال بحسب مقاصد الفاعلين أمر جارٍ على قواعد الشريعة، خاصة في مسائل الثواب والعقاب (العمليات)، وفي مسائل الكفر والإيمان (النظريات)، حيث ميزوا في نواقض الإيمان من الأفعال بين نوعين: الفعل المتمحض للكفر كإلقاء المصحف في القاذورات والعياذ بالله، والفعل غير المتمحض، ومع ذلك أجروا الحكم في الفاعل بناء على نيته في الفعل المتمحض، وإن استثنوا من ذلك ما أجمع عليه العلماء من أن الفعل بنفسه يقوم مقام نية الفاعل، فإن ألقى المصحف بقصد الإهانة كفر، وإن ألقاه غير قاصد الإهانة أو غير عالم بأنه مصحف لم يكفر، بدليل حكاية القرآن عن نبي الله موسى (وأﻟﻘﻰ اﻷﻟﻮاح) ثم قال بعدها: (وﻟﻤﺎ ﺳﻜﺖ ﻋﻦ ﻣﻮﺳﻰ اﻟﻐﻀﺐ أﺧﺬ اﻷﻟﻮاح)، وليس لهذا التدقيق هنا ثمرة سوى أنه لو مات ﺑﻌﺪ إلقاء المصحف مباشرة، فيقام ظاهر فعله مقام نيته التي لا سبيل لنا إلى علمها بموته، ومن ثم تجري عليه أحكام الدنيا بحسب الظاهر.

الوجه الثاني: أن علة "التعظيم" التي أناط بها الفقهاء حكم المشاركة والتهنئة تطلق على معنيين:

  1. التعظيم الكامل كتعظيم الله وشعائره.
  2. ومطلق التعظيم كالانحناء مثلا.

فالتعظيم مثل الفسق، منه فسق كامل، ومنه فسق مطلق، وفي كمال الفسق قال الله تعالى: (بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)، فمن يطلق من الفقهاء النهي عن التعظيم هنا لا يريد مطلق التعظيم، وإنما يريد التعظيم الكامل الذي يدخل في معنى العبادة التي هي من تقوى القلوب.

الوجه الثالث: اختلف العلماء في عبارات مثل "ﻣﻄﺮﻧﺎ ﺑﻨَﻮْء كذا" (أي إحالة إلى منازل الكواكب والأفلاك)، لأن العبارة موهمة وتفيد نسبة الفاعلية المؤثرة للكواكب، وهو يخل بمفهوم توحيد الخالق، ﻓﺎﻟﺠﻤﻬﻮر ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻨﻊ من ذلك ﻟﻈﺎﻫﺮ اﻟﻠﻔﻆ، ولكن فقهاء اﻟﺸﺎﻓﻌﻴﺔ ﻋﻠﻰ جواز ذلك باﻋﺘﺒﺎر قصد القائل ونيته هنا وأنه مجرد توسع في اللفظ (بنوء أي في نوء) ولا يعني السببية الفاعلة، ولكن الجميع متفق ﻋﻠﻰ أن القائل إن اعتقد اﻟﻔﺎﻋﻠﻴﺔ اﻟﻤﺆﺛﺮة للكوكب نفسه ﻛﻔﺮ، ومثل هذا يقال في نحو ذلك من العبارات كقولهم "ﻣﺎ شاء الله وﺷﺌﺖُ"، فهذه العبارة موهمة التشريك، ولكن الإمام النووي بوّب لهذا ﻓﻘﺎل "ﺑﺎب ﰲ ﻛﺮاﻫﺔ ﻗﻮل: ﻣﺎ ﺷﺎء الله وﺷﺎء ﻓﻼن". قال ابن علان: "وﺣُﻤﻞ ﻋﻠﻰ اﻟﻜﺮاﻫﺔ، ﻷن اﻹﻳﻬﺎم اﻟﻤﺬﻛﻮر ﻣﺪﻓﻮع ﺑﺎﻻﻋﺘﻘﺎد اﻟﺮاﺳﺦ ﻣﻦ ﺣﺪوث اﻟﻌﺒﺪ وﺟﻤﻴﻊ ﺷﺆوﻧﻪ، وﻣﺎ ﻛﺎن ﻛﺬﻟﻚ ﻻ يقارن اﻟﻘﺪﻳﻢ"، أي أننا جرينا على المعهود من اعتقاد العبد وتغليب مقاصده لا على ظاهر اللفظ الموهم.

الوجه الرابع: أن الإقرار الظاهري لا يستلزم الرضا القلبي، وهذا مشاهد، ولهذا كان عقد الذمة لدى الفقهاء يفيد إقرار أهل الذمة على كفرهم مقابل الجزية ولا يفيد الرضا بمعتقدهم، ولأجل هذا اكتفى ابن تيمية في هذه النقطة بالإشارة إلى أن أهل الذمة مأمورون بأن يستسرّوا بشعائرهم (أي لا يعلنونها)، ولكن النقاش هنا حول ثنائية الإقرار والرضا لا حول الإسرار والإعلان، فضلا عن أن السرية والإعلان من توابع التمييز والصغار، وليس من جوهر عقد الذمة، ثم لو تزوج المسلم بذمية تعقدت ثنائية الإقرار والرضا وتشابكت الحقوق، فلا يجوز للزوج أن يفرض على زوجته الذمية معتقده ولا شرائعه في الجملة (وإن كان ثمة نقاش في بعض التفاصيل التي تمس الزوجية كالغُسل مثلا)، بل عليه أن يسمح لها بالذهاب إلى الكنيسة، ولو ذهب معها إليها على سبيل الرعاية والرفقة من دون تعظيم معتقدها أو المشاركة في شعائرها الدينية كان ذهابه من باب حسن المعاملة، وكان في ذلك معنى القربة والقيام بحق الزوجية، ولكنه لو فعل ذلك على سبيل التعظيم (الكامل) والمشاركة في الشعيرة يكفر عند الفقهاء، فأنت ترى أن الفعل الواحد احتمل حكمين اثنين متباينين، أحدهما نظري (كفر)، والآخر عملي (قربة)، والعمدة فيهما على مقصد الفاعل نفسه.

ينفي هذا كله الزعم بأن التهنئة محرمة لذاتها، وأنها -بمجردها- محرمة وكفر من غير نظر إلى العلل والقصد الباطني للفاعلين، ومن ثم فلا تلازم هنا بين الظاهر والباطن، فالفعل نفسه قد ينبئ عن الكفر وقد لا ينبئ عنه، وهنا وجه الإشكال الذي لم يدركه المحرِّمون لمجرد التهنئة، كما لم يدركه من توهموا أن الإشكال هو في غياب التمييز بين النظري (العقدي) وبين العملي (الفقهي).

ثالثا: هل العيد بذاته معصية؟

تتصل المسألة الثالثة والأخيرة هنا بأنه مع التسليم بأن العيد شعيرة دينية فإنه يجري فيه الخلاف أيضا من جهتين:

الأولى: هل غير المسلمين مخاطبون بفروع شريعة الإسلام أم لا؟

الثانية: أن المشاركة فيها تجري على مقاصد المكلفين المسلمين لا على مقاصد غيرهم من أصحاب العيد، لانفكاك الجهة هنا، فموضوع التهنئة يرجع إلى تقويم فعل المكلف ومقاصده، بغض النظر عن فعل غير المسلم ومقاصده من وراء العيد، ولا يستلزم أحدهما الآخر، كما أنه لا يمكن جعلهما فعلا واحدا.

وبما أن الجهة الثانية ترجع إلى النقاش السابق فلنوضح الجهة الأولى، ذلك أن فقهاء المالكية -وهم أكثر الناس إعمالا لمبدأ سد الذرائع- لم يحرموا بيع المسلم لغير المسلم في يوم عيده، بل حكى ابن رشد الجد قولين عن الإمام مالك: القول الأول أنه "يُكره للمسلم أن يكون لهم عونا على ذلك"، وكره كذلك إيجارهم وسائل النقل التي يستعينون بها في أعيادهم، ولم يحرمها.

والقول الثاني: يباح، قال ابن رشد الجد "مكروه وليس بحرام، لأن الشرع أباح البيع والاشتراء منهم، والتجارة معهم، وإقرارهم ذمة للمسلمين على ما يتشرعون به في دينهم من الإقامة لأعيادهم، إلا أنه يُكره للمسلم أن يكون عونا لهم على ذلك، فرأى مالك هذا -على هذه الرواية- من العون لهم على أعيادهم فكرهه".

ويرجع النظر هنا -بحسب ابن رشد- إلى مسألة أصولية وهي: هل الكفار بشريعتنا مخاطبون بها أم لا؟ فإن قلنا إنهم غير مخاطبين بها جاز ولم يكن في بيعهم إعانة من المسلم لهم على معصية، وإن قلنا إنهم مخاطبون بها كُرهت إعانتهم، وكانت إعانة المسلم لهم إعانة على معصية.

يوضح هذا النقاش المفصل في هذا المقال والمقال السابق أوجه الإشكال المنهجي لدى بعض المفتين المعاصرين وغياب المنهجية في التفقه، كما يوضح أوجه التداخل بين النظري (الاعتقادي) والعملي (الفقهي)، ومن ثم فلا ينبغي التورط في الفصل التام بينهما أو الجري وراء الصورة الظاهرة فقط وحمل الباطن عليها، فالصورة مركبة وتفتقر إلى نظر فقهي منهجي.

نعم، الأصل والكمال أن يكون العلم والعمل متلازمين، فكل عمل يجب أن يتأسس على نظر صحيح، والعلم من دون عمل لا يستقيم، ولكن تنزيل هذا في ميادين الفقه والكلام على أحوال المكلفين ليس بذلك الوضوح، وتظهر ثمرة هذا التمييز بين الظاهر والباطن في الحكم بالإيمان والكفر من جهة، وهو ما يترتب عليه إجراء أحكام الدنيا (وبعضها قضائي)، وفي ترتب الثواب والعقاب في الآخرة من جهة أخرى (وهي دينية)، والله تعالى أعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.