تهنئة غير المسلمين بأعيادهم.. هل يتناقض الأخلاقي والعقدي؟
بات من شعائر كل عام أن نشهد مناقشات وسجالات حول مسألة تهنئة غير المسلمين بأعيادهم (وخاصة الكريسماس ورأس السنة) حيث نجد هنا فريقين بارزين:
الفريق الأول يحشد النصوص لأجل إثبات حرمة التهنئة، بل ويذهب بعضهم إلى أن ذلك كفرٌ، وينقل أن التحريم هو مُعتَمَد المذاهب الفقهية الأربعة، وأنه لم يقل بجواز ذلك أحدٌ من غير المعاصرين. بل إنني قرأت لأحدهم أن التهنئة -بمجردها- حرام عند جميع الفقهاء (هكذا!).
الثاني يستدعي نصوصًا عامة في الإحسان إلى أهل الكتاب والبر بهم، وأن إباحة الزواج منهم تستدعي الملاطفة معهم وتهنئتهم، ويحاول إثبات وجود خلاف فقهي قديم في المسألة، ويستعين بفتاوى معاصرة لرشيد رضا، ومن تبعه من المعاصرين، كالشيخ مصطفى الزرقا والشيخ يوسف القرضاوي وغيرهما. وأنه يجب عدم إقحام الإيمان والكفر في المسألة؛ لأنها مسألة عملية (فقهية) لا نظرية (عقدية أو كلامية)؛ فضلاً عن أنها من مسائل الفروع لا من مسائل الأصول، ومن ثم فلا يَلزم فيها التكفير.
التهنئة مع عدم الرضا، ويتحقق هذا بكون التهنئة واردة على سبب مباح أو مصلحة شرعية كما سبق، ولاسيما أن عيد ميلاد السيد المسيح صلى الله عليه وسلم هو عيد ميلاد نبي (ولا يضر الخلاف في تاريخه؛ فإنه كالخلاف في تاريخ مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم) أو كالتهنئة برأس السنة وهي سبب مباح كذلك.
وكنت أكتفي -عادة- بالمراقبة من بعيد؛ فما كنت أَعدّ هذه المسألة مما يَحتمل كل هذا الجدل؛ لأنها أضحت من مسائل العادات التي تندرج ضمن مرتبة "مكارم الأخلاق". ولكن الجدل الأخير دفعني إلى النظر فيها من زاوية مختلفة؛ لجهة أنها مثال ينضم إلى أمثلة عديدة توضح مشكلتنا -نحن- مع الموروث الفقهي، وانحسار المتفقهة الذين يُحسنون قراءة النصوص، وفهم السياقات التاريخية والحديثة، ثم كيفية تنزيل هذا الموروث على واقعنا نحن؛ من دون الاكتفاء بمجرد حكاية ونقل الأقوال: تحريمًا أو تحليلاً؛ فالفريقان السابقان يكتفيان بالنقل، وغير قادرين على حلّ الإشكال المتمثل -في رأيي- في غياب منهجية التفقه واستثمار النص الفقهي في الواقع المعاصر.
ويمكن لي رد الإشكال هنا إلى عدة مسائل منهجية هي:
- ربط المسائل الفرعية بأصولها الحاكمة لها.
- الربط بين الأحكام (أو التقويمات) وعللها.
- الربط بين الأحكام والفضائل التي تحتها.
مسألة التهنئة بالأعياد التي يثار حولها هذا اللغط ترجع إلى أصل فقهي يتم تخريجها (أو قياسها) عليه في كتب الفقه، وهي مسألة ابتداء المسلم للذمي (اليهودي والنصراني) بالسلام، وهو محل خلاف فقهي قديم، مع أن هذا الأصل لا يثار الإشكال حوله كما يثار حول فرعه وهو التهنئة، ولذلك سأبدأ هنا ببيان الأصل، ثم الفروع التي بُنيت عليه (ومنها التهنئة) ووجه الربط بينهما.
اختلفت المذاهب الفقهية في مسألة بَدَاءة غير المسلم بالسلام على 4 أقوال:
الأول: التحريم، وهو مذهب الشافعية والحنابلة؛ لورود النهي النبوي عن ذلك.
الثاني: الكراهة، وهو مذهب المالكية، وحمل الحنفية النهي الوارد في الحديث على الكراهة فقط، ولذلك أجازوه للمصلحة كما سيأتي.
الثالث: الجواز، وهو وجه عند الشافعية حكاه الماوردي، ولكن النووي اعتبر هذا الوجه شاذًّا، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، وهو المرويّ عن الصحابة: ابن عباس وأبي أمامة، وعن بعض التابعين كابن أبي مُحيريز. واحتج هؤلاء بعموم الأحاديث الآمرة بإفشاء السلام على من عرفتَ وعلى من لم تَعرف. وقد ردّ النووي هذا الرأي؛ بحجة أنه عام جرى تخصيصه، ولكنني أرى أن العموم باقٍ على أصله، وربما رأى هؤلاء أن أحاديث النهي واردة على سبب خاص، ومن ثم فهي لا تَقوى على تخصيص العموم في كل أحواله وأزمنته.
الرابع: الجواز بقيد المصلحة، فمذهب الحنفية أنه لا بأس بالابتداء بالسلام؛ إن كانت له عنده حاجة، وهذا رواية ثالثة عن أحمد بن حنبل، واختارها ابنُ تيمية، بل قال علاء الدين المرداوي أحد أئمة المذهب: هي الصواب.
ولشدة الخلاف وقِدَمه، مال الأوزاعي إلى رعايته فقال "إن سلَّمْتَ فقد سلّم الصالحون، وإن تركتَ فقد ترك الصالحون" ويرجع سبب الاختلاف إلى أمرين رئيسين:
الأول: ورود أحاديث نبوية تنهى عن ابتداء غير المسلم بالسلام، ولن أخوض في احتمالات تأويل هذه الأحاديث: هل هي مطلقة أم واردة على سبب خاص؟ فابن قيم الجوزية -على سبيل المثال- فهم أنها خاصة بالحرب، وأنها واردة على يهود بني قريظة الذين ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى حربهم، ولذلك نهى عن ابتدائهم بالسلام؛ لأن السلام أمانٌ لهم. وعلى هذا فالإشكال وقع حين حُملت أحاديث النهي على إطلاقها، ثم تحول النقاش من بحث سياق ورودها إلى بحث دلالة النهي، وهما أمران مختلفان.
الثاني: العلة التي لأجلها وقع النهي، فقد رأى عامة الفقهاء أن العلة هي التعظيم؛ وتعظيم الكافر يقتضي تعظيم كفره؛ فلم يَفصلوا بين الشخص وبين معتقده؛ خصوصًا في إطار قسمة العالم إلى دار حرب ودار إسلام، ومسلمين وذمة، مع ما ورد في الجزية من اقتران بالصغار في القرآن {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (سورة التوبة، آية 29). ولهذا قال النووي "الاختيار ألا يبتدئه بشيء من الإكرام أصلا؛ فإن ذلك بسط له وإيناس وملاطفة وإظهار ود". ومن رجحوا جواز ذلك للحاجة رأوا أن المحذور (وهو التعظيم هنا) ليس واردًا؛ لأن الابتداء بالسلام إنما وقع؛ لأجل الحاجة لا لأجل التعظيم، أي أن الابتداء وقع على سبب مباح لا سبب منهي عنه.
ويتخرج على هذا الأصل (وهو الابتداء بالسلام) الكلامُ على مسائل فرعية عدة مثل عيادة غير المسلمين في مرضهم، وتعزيتهم في موتاهم، وتهنئتهم في أعيادهم ومناسباتهم، وإجابة دعوة غير المسلمين إلى المناسبات والولائم. وقد نص الفقهاء على هذا الربط بين الأصل والفرع، وعلى تخريج (أو إلحاق) هذه المسائل الفرعية بمسألة الابتداء بالسلام؛ رغم ورود نص بعيادة غير المسلم تحديدًا؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم عاد يهوديًّا، كما ثبت في الصحيح.
ففيما يخص العيادة، نجد أن الخلاف الذي وقع في السلام جرى هنا، وبيانه كالآتي على 3 أقوال:
الأول: مذهب الشافعية الذين اختلفوا في العيادة بين مانِع لها ومُستحِب لها، ولكن الذي مالت إليه كتب الشافعية التمييز بين أمرين: جواز العيادة في حالة عموم الذمي، واستحباب العيادة (وأنها قُربة) في حالة ما إذا كان هذا الذمي قريبًا أو جارًا أو نحو ذلك، ونصهم يقول: تُستحب عيادة "مريض مسلم ولو عدوًا ومَن لا يعرفه، وكذا ذميٍّ قريب أو جار أو نحوهما، ومن يُرجى إسلامه. فإن انتفى ذلك جازت عيادته". بل إن بعض الشافعية -كالأذرعي- وسّع الدائرة فشمل مع الذمي (المواطن من دار الإسلام) غيره كالمعاهَد والمستأمَن (مواطنون من غير دار الإسلام)؛ إذا كانا بدار الإسلام.
ومن الواضح أن وجه القربة في عيادة غير المسلم يقوم على الحُرمة التي اقترنت بالعيادة، أي أنها صارت عيادة لأجل المرض ولأجل حقوق أخرى كالجوار والقرابة أو للدعوة، ولهذا قال الإمام القفال الشاشي "الصواب عندي أن يقال: عيادة الكافر -في الجملة- والقُربة فيها، موقوفة على نوع حُرمةٍ يقترن بها: من جِوَار أو قَرابة" واستحسن هذا بعض متأخري الشافعية.
توضح هذه التعليلات وجه الاختلاف بين منع الشافعية من ابتداء غير المسلم بالسلام، وبين استحباب عيادته؛ لأن كلا الفعلين واردٌ على معنى غير الآخر، ونُظر فيه إلى معان دينية مستندها التأويل النصي من حيث حَمْل عيادة المريض على عموم المرضى دون تمييز، ومن حيث إنهم رأوا إمكان وقوع القُربة في عيادة الكافر، وهذا لا يتحقق في البدء بالسلام؛ لأن السلام اكتسب صفتين: الأولى: دينية من حيث إنه قُربة، وأنه حقّ للمسلم على المسلم، والثانية: سياسية من حيث إنه يعني إعطاء الأمان لغير المسلم في سياق هيمنة قسمة العالم إلى دار إسلام ودار حرب، وقسمة غير المسلمين إلى: ذمي ومحارب ومعاهَد أو مستأمَن.
القول الثاني: مذهب الحنابلة الذين تُجمل كتبهم المسائل الثلاث معًا: تهنئة أهل الذمة، وتعزيتهم، وعيادتهم، وينص أئمة المذهب (كابن مفلح والمرداوي وغيرهما) على وجود الاختلاف هنا، وأن في المذهب 3 روايات عن أحمد هي:
- أن الثلاثة (التهنئة والتعزية والعيادة) تَحرم، وهو المذهب عندهم.
- أن الثلاثة لا تحرم، وهنا تحيل بعض كتبهم إلى الكراهة، وبعضها الآخر يحيل إلى الإباحة.
- أن الثلاثة تجوز بقيد، وهو أن يكون لمصلحة راجحة كرجاء إسلامه مثلاً، وقد اختار هذا الرأيَ ابنُ تيمية، واعتبره المرداوي هو الصواب من بين الأقوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاد صبيًّا يهوديًّا كان يخدمه، وعرض عليه الإسلام فأسلم.
القول الثالث: مذهب الحنفية والمالكية وهو أنه لا بأس بالعيادة، أي أنها جائزة، بل ويجري فيها معنى القُربة كما سبق عند الشافعية. والعيادة مثل التهنئة والتعزية؛ لوحدة الأصل كما سبق، وقد كره محمد بن القاسم من المالكية للمسلم أن يُهدي إلى النصراني في عيده مكافأة له، ورأى أن هذا الإهداء من باب تعظيم عيده وعونٌ له على مصلحة كفره. فالمالكية عادوا هنا إلى أصل الكراهة التي في البدء بالسلام، وأنه تعظيم مكروه لا محرم، ومثلها جرى في التهنئة بل والهدية في العيد.
وبناء على الأصل والفروع الملحقة به (ومنها التهنئة) نخلص إلى أمرين رئيسين هنا:
الأول: ثبوت الخلاف الفقهي في الفروع الملحقة بالأصل (التهنئة والتعزية والعيادة) بناء على ثبوته في الأصل المُخَرَّج عليه (البدء بالسلام) وبناء على وجه تحقق العلة من عدمها (وهي تعظيم الكافر وكفره).
علة من منع في الفروع الثلاثة الملحقة هي نفسها العلة الملحوظة في الأصل، وقد صرح بعض الفقهاء بهذا الشبه بين الابتداء بالسلام وبين فروعه الملحقة به، وهي تعظيم الكافر ومعتقده معًا دون فصل بينهما؛ بحيث تحصل "الموالاة وتثبيت المودة" التي تستجلب التعظيم وتوقع في مخالفة النهي الوارد بحسب تأويلهم. ولهذا حين انتفت علة التعظيم بوجود سبب آخر مباح (كالحاجة أو الضرورة) أو بوجود مصلحة (كحق الجوار أو القرابة وصلة الرحم أو الدعوة) تم تغليب السبب المباح أو المصلحة، وقيل بالجواز في الجميع، بل إن الذين رأوا جواز عيادة الكافر نصوا على أن ذلك من "مكارم الأخلاق"، وأنه "نوع بر" في حق أهل الذمة؛ لأن عيادتهم "نوعُ إحسان" في حقهم، فلما كان البر مشروعًا، كانت العيادة والتواصل مع الذمي مشروعين؛ بخلاف الحربي (من أهل دار الحرب)؛ فإنا نُهينا عن بره بنص القرآن في حين أننا لم نُنهَ عن بر الكفار المسالمين. وما يجري في عيادة الكافر يجري في باقي الفروع ما لم يتحقق فيها مانع شرعي (كالمشاركة في شعائر الكفر المتمحضة مثلاً، وهذا خارج محل النقاش أصلاً).
يوضح هذا البيان والتحليل حجم الإشكال لدى المعاصرين ممن خاضوا في المسألة تحليلاً وتحريمًا؛ فهم لم يحرروها على وجهها، بل إن بعض من صنفوا في "الإجماع في الفقه الإسلامي" حكوا الإجماع على حرمة التهنئة؛ اعتمادًا على نقول عن ابن تيمية وابن قيم الجوزية هي محل إشكال؛ خصوصًا أن ابن تيمية نفسه اختار الجواز في المسألة الأصل (البدء بالسلام) وفي المسائل الفرعية (كالتهنئة والعيادة والتعزية) ولكن بقيد المصلحة.
ومحل الإشكال -الذي التبس على المحرّمين هنا ولم يحرره المجيزون- أن كتب الحنابلة أطلقت دون تقسيم أو تفصيل، فاستعملت عبارة "تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم" ثم جاء ابن قيم الجوزية فأقحم في النقاش مسألة هي خارج محل النزاع أصلاً حين قسم التهنئة إلى قسمين:
- "التهنئة بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك".
- "التهنئة بشعائر الكفر المختصة به" وأدخل هنا أعياد غير المسلمين؛ تبعًا لابن تيمية الذي رأى أن "الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك" وأنها "من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر" ومن ثم تحولت كل تهنئة بعيد إلى مشاركة في شعيرة دينية، وصار النزاع كأنه حول جواز المشاركة في أمور عقدية لا دنيوية!.
ثم حمل ابن قيم الجوزية خلاف الفقهاء في التهنئة على القسم الأول هنا، وحكى الاتفاق على حرمة القسم الثاني وهو أمر كلي (شعائر الكفر) محل اتفاق، ولكن النزاع إنما يقوم على التهنئة بالعيد تحديدًا وهل يدخل في شعائر الكفر أم لا؟ ومن ثم فُهم من كلام ابن قيم الجوزية أن التهنئة الواقعة بالعيد إنما هي تهنئة بأمور أخروية (شعائر الكفر كالصليب وألوهية عيسى ونحوها) بل رضا بذلك، وهذا لم يقل به أحد قبله، فلا ينازع أحد في حرمة التهنئة بأمور عقدية مخالفة لعقيدة الإسلام (كرفع الصليب) أو بأمور منكرة محرمة في الشريعة (كالزنا وشرب الخمر) بل إن المسلم يأثم بمجرد القصد إلى ذلك ولو لم يفعله، ولكن كلام الفقهاء عن عموم التهنئة واردٌ على أسباب دنيوية، ويدخل فيها التهنئة بالعيد أيضًا؛ لأنه أمرٌ دنيوي، ومن هنا آل النزاع في التهنئة إلى النزاع في أصلها وهو البدء بالسلام.
ثم تابع ابن قيم الجوزية -على هذا التقسيم وحكاية الإجماع على المنع من التهنئة بالأعياد- بعضُ متأخري الحنابلة، والوهابية كعبد الرحمن بن قاسم النجدي (ت 1392هـ) ورتبوا على ذلك احتمال التكفير؛ في حال التهنئة المصحوبة بالرضا. وكان ابن تيمية قد اعتبر أن "الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر" بل إن ابن قيم الجوزية أورد في القسم الأول من التهنئة احتمال الكفر أيضًا حين قال "ليحذر [المهنِّئ] الوقوع فيما يقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه.." وقال في القسم الثاني "فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات". ثم جاء ابن عثيمين فمشى على هذه القسمة وجزم بها في دروسه وشروحه، فقال "أما التهنئة بالأعياد فهذه حرام بلا شك، وربما لا يَسلم الإنسان من الكفر؛ لأن تهنئتهم بأعياد الكفر رضا بها، والرضا بالكفر كفر" وحكى الاتفاق على ذلك تبعًا لابن قيم الجوزية، في حين أن الاتفاق هو على الأصل الكلي (التهنئة بشعائر الكفر) لا على المسألة الجزئية (التهنئة بالعيد).
والواقع أن التهنئة بشعائر الكفر لا تَرِد من مسلم فضلاً عن أن ينشغل الفقهاء ببيان حكمها هنا؛ ولكن الإشكال يكمن هنا في تحديد مفهوم شعائر الكفر وما إذا كانت التهنئة بالأعياد تدخل فيها أو لا، وعلى فرض دخولها لاختصاص غير المسلم بها؛ فهل كل تهنئة تقتضي الرضا بالكفر؟ فلو كان ذلك كذلك لكان عقد الذمة نفسه محل إشكال، ولاسيما أن بعض الفقهاء عرفوه بأنه "إقرار بعض الكفار على كفرهم؛ بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة" ولما كان إقرار الذمي على الكفر في دار الإسلام لا يستلزم الرضا بكفره، فكذلك تهنئته بعيده لا صلة لها بالرضا بكفره أو تأييد معتقده.
ويمكن أن نفرض هنا في التهنئة بأعياد غير المسلمين 3 احتمالات:
الأول: التهنئة مع الرضا بمعتقدهم، وهذا يُخل بشرط صحة الإيمان الذي يجب أن يتأسس على اليقين الذي لا يخالطه شك، وبهذا يتبين لك أن المسائل العملية تتصل بالمسائل النظرية في الشريعة، وإن توهم بعضهم الفصل التام بينها، وأمثلة هذا كثيرة في الشريعة، ولذلك لا يصلح هذا المدخل لتحرير المسألة.
الثاني: التهنئة مع عدم الرضا، ويتحقق هذا بكون التهنئة واردة على سبب مباح أو مصلحة شرعية كما سبق، ولاسيما أن عيد ميلاد المسيح صلى الله عليه وسلم هو عيد ميلاد نبي (ولا يضر الخلاف في تاريخه؛ فإنه كالخلاف في تاريخ مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم) أو كالتهنئة برأس السنة، وهي سبب مباح كذلك.
الثالث: عدم وجود النية أصلاً، واعتبار أن التهنئة من قبيل العادات التي لا تستلزم نية، ومن ثم فهي محمولة على مكارم الأخلاق، وأنها من باب المجاملة.
ويتضح وجه الإشكال في كلام ابن قيم الجوزية، ويؤيد هذه القسمة أو الاحتمالات ما وجدته من كلام قاضي خان الحنفي (592 هـ) الذي قال في فتاواه "رجل اشترى يوم النيروز شيئا لم يشتره في غير ذلك اليوم: (1) إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما يعظمه الكفرة يكون كفرًا (2) وإن فعل ذلك لأجل السرَف والتنعم لا لتعظيم اليوم لا يكون كفرًا (3) وإن أهدى يوم النيروز إلى إنسان شيئا ولم يُرد به تعظيم اليوم، وإنما فعل ذلك على عادة الناس لا يكون كفرًا" وهذا يؤكد أيضًا أن الإهداء في اليوم وليس مجرد التهنئة فقط أمرٌ محتَمَل؛ وسبق عن محمد بن القاسم من المالكية أنه عدّه مكروها فقط.
توقفنا الاحتمالات الثلاثة السابقة على وجه الإبهام في التهنئة بالعيد، ومن ثم فهي متروكة إلى مقاصد المكلفين أنفسهم، ولكنها جارية على عادات الناس وأعرافهم في أنها من قبيل المجاملات ومكارم الأخلاق؛ فلا يُتصور من مسلم أن يرضى بالكفر أو أن مجرد تهنئته هي تَبَنٍّ لمعتقد المهنَّأ. ثم إن الأعياد لا يُسلَّم أنها شعائر دينية متمحضة؛ فقد باتت مناسبات ثقافية أكثر منها دينية، ثم إن القول: إن مطلق العيد من شعائر الكفر لا يصح؛ فالتهنئة بعيد الميلاد تختلف عن التهنئة بالصليب أو ألوهية عيسى أو غير ذلك من المنكرات المحرمات. ثم إن التهنئة والعيادة ونحوهما لا تجوز فقط، بل تتأكد ويدخل فيها معنى القربة مع تعلقها بفضائل كالجوار والقرابة ومكارم الأخلاق ونحو ذلك، كما سبق في العيادة ويجري في بقية الفروع الملحقة.
ومما يؤكد أن مدار النقاش كله حول التعليل وتحقيق مناط الحكم (النهي عن البدء بالسلام، وما أُلحق به) اختلاف الفقهاء في الفعل الواحد مع اتفاقهم على العلة وجودًا وعدمًا، فالمالكية مثلاً رأوا أنه "لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئًا من مصلحة عيدهم لا لحمًا ولا إدامًا ولا ثوبًا ولا يُعارون دابة ولا يُعانون على شيء من دينهم؛ لأن ذلك من التعظيم لشركهم وعونهم على كفرهم" كما قال ابن الحاج المالكي، في حين أن المذهب عند الحنابلة أنه "لا يحرم بيع المسلمين لأهل الذمة في أعيادهم؛ لأنه ليس فيه تعظيم لهم". فأنت ترى كيف أن المالكية والحنابلة اتفقوا على حرمة التعظيم والإعانة على الكفر، ولكنهم اختلفوا في مدى دلالة هذا الفعل بعينه عليها، فمن رأى العلة متحققة في البيع في العيد منع منه، ومن رآها غير متحققة أجازه. وكذلك يجري الأمر في مفهوم التهنئة بالعيد وتحديد مدلول "شعائر الكفر المختصة بهم" والتي خضعت للتبدلات التاريخية، وتتبع أعراف الناس ومقصوداتهم كذلك، ولا تجري على مجرد الألفاظ والظواهر، وبهذا أيضًا يتضح وجه الإشكال الذي تسبب به كلام ابن قيم الجوزية في النقاش حول التهنئة حين أقحم في النقاش مسألة هي خارج النزاع أصلاً.
الأمر الأخير والجذري هنا، أن مفهوم الذمة -وهو أصل الأصول هنا- لم يَعد قائمًا كلاً أو جزءًا، فضلاً عن المسائل المتعلقة به والمبنية عليه بدءًا من قسمة العالم وصولاً إلى البدء بالسلام الذي هو الأصل الذي حُملت عليه المسائل الثلاث: العيادة والتهنئة والتعزية، مما يعني أن كل النقاش يجري خارج التاريخ اليوم، بل إن فروعًا فقهية عديدة تتصل بمبدأ التعظيم والإذلال أو الإكرام والصَّغَار قد مُحيت لأن الأصل كله قد أصبح جزءا من التاريخ، من تلك الفروع: تعلية بنيان أهل الذمة على المسلمين، وإِحداث الكنائس والبِيَع، وإِظهار المنكر، وضرب الناقوس، والجهر بكتابهم، واضطرارهم إلى أضيق الطرق، وغير ذلك من الفروع التي لا تشغل بال المجادلين اليوم حول التهنئة؛ رغم أنها ترجع إلى أصل واحد وعلة واحدة، ومن ثم فهي تُلزمهم أيضًا بالقول بها. هكذا تبدو صورة نقاشاتنا حول التهنئة بالعيد كاريكاتيرية، ويبدو الفقه مع كثير من المتحدثين بل والمفتين كما لو كان عملا سلطويًّا أو شكلانيًّا، ويغيب المتفقهة وتغيب فلسفة الفقه، وتتحول الفتوى إلى مجرد اقتباسات انتقائية ومجتزئة من الكتب أو حكاية للأقوال بلا نظام ولا قانون، وبهذا ندرك نَفاسة قول الإمام أبي المعالي الجويني حين قال "لا يستقل بنقل مسائل الفقه من يَعتمد الحفظ، ولا يرجع إلى كَيْس وفطنة وفقه طبع (1) فإن تصوير مسائلها أولًا وإيراد صورها على وجوهها لا يقوم بها إلا فقيه (2) ثم نقل المذاهب بعد استتمام التصوير لا يتأتى إلا من مرموق في الفقه خبير، فلا يُنَزَّل نقل مسائل الفقه منزلة نقل الأخبار والأقاصيص والآثار (3) وإن فُرض النقل في الجليّات من واثقٍ بحفظه موثوق به في أمانته، لم يمكن فَرْض نقل الخفيّات من غير استقلال بالدراية" والله تعالى أعلم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.