ميانمار ولعبة الانفتاح والديمقراطية

blogs أونغ سان سو كي

ديمقراطية اقتصادية
توظيف الضحية
قضية الروهينغا 

ميانمار ليست أكثر من كيان سياسي مشوه سياسياً وجغرافياً مثل كثير من الكيانات التي رحل عنها الاستعمار قبل عدة عقود. فمع التعدد العرقي الكبير الذي تتمتع به هذه الدولة؛ أسيئت إدارتها إلى أقصى درجة، لا لصالح الأغلبية البورمية وضد الأقليات كما هو شائع، بل لصالح جنرالات الجيش الذين أداروا المشهد هناك من أمام الستار، ثم من خلفه منذ حوالي سبعة عقود وحتى اليوم، نيابة عن الاستعمار الراحل أول مرة، ونيابة عن قوى الاقتصاد العالمي الكبيرة الآن.

ديمقراطية اقتصادية
تتجاور في القطر الآسيوي الصغير مجموعات عرقية كثيرة؛ مثل: البورمان (وهم الأغلبية) والروهينغيين (مسلمو أراكان أو راخين) والمون والكاتشين والشان والأركانيز والكارن والتشين وغيرها.

وليست هذه إشكالية في ذاتها؛ إذ إن الولايات المتحدة الأميركية (قائدة النظام السياسي العالمي الحالي) هي أكثر دول العالم تعددا في الأعراق، ولا تكاد تصفو دولة في العالم كله لعرق واحد؛ وإنما الإشكالية في توجيه دفة الدولة إلى ما يخدم طائفة معينة أو مكونا واحدا من مكونات الدولة دون جموع الشعب الغفيرة، وهذا المكوِّن المدلَّل هم قادة الجيش وضباطه الكبار.

هناك خطة منسقة لتلميع وتسويق أونغ سان سو تشي -التي كانت تحيا مع أسرتها في لندن حياة وادعة- لصالح هذه الديمقراطية العرجاء بمنحها جائزة نوبل سنة 1991، وإظهارها على أنها أم الديمقراطية البورمية، بل القديسة المستعدة للاستشهاد في سبيلها بتحملها الاضطهاد والتضييق الذي مارسته السلطة العسكرية ضدها

وقد مورست هذه السياسة في السيطرة العسكرية على الدولة والسلطة بشكل صريح منذ انقلاب 1962 وحتى انتخابات عام 2015. ولما كان تراجع الحياة في ميانمار طوال هذه الفترة سريعا وعاما؛ فقد شهدت البلاد احتجاجات ومظاهرات شعبية ضد السلطة من وقت إلى آخر، وواجهها الجيش بالقمع والقتل والتضييق، وكان لرئيسة الوزراء الحالية أونغ سان سو تشي -ذات الوجه الرأسمالي بأسرتها الإنجليزية زوجا وأولادا- نصيبُها من الكفاح ضد العسكريين، ونصيبها من السجن وتحديد الإقامة كذلك.

ومع التغيير الذي طرأ في الحليف الأكبر لميانمار (الصين) ودخولها اقتصاد السوق من أوسع أبوابه في صورة عملاق عالمي، واتساع سياسة الاقتصاد المحرَّر من القيود، وتكاثر الشركات العابرة للقومية واتخاذها مركز سيطرة ضخما في شرق آسيا وجنوبها؛ ظل لعاب عمالقة الاقتصاد يسيل عند كل فرصة تتاح أمامهم، وكانت ميانمار إحدى هذه الفرص الذهبية.

هنا بدأ التحول من السيطرة المباشرة للعسكر إلى السيطرة المقنَّعة، فبدأت الدولة الصغيرة المزدحمة بالسكان والثروات تتبنى نوعا من الانفتاح الاقتصادي لصالح عمالقة الاقتصاد العالمي والآسيوي: الصين، والولايات المتحدة، واليابان، وكوريا.

وقد تم هذا -بطبيعة الحال- بناء على تفاهمات مع الجنرالات، فجاءت موجة الديمقراطية التي جاءت بسو تشي وحزبها "الرابطة الوطنية للديمقراطية" إلى السلطة بعد خمسين سنة من الدكتاتورية الصريحة، لتكون هي المناخ السياسي الذي مُرِّرت فيه هذه التغييرات الاقتصادية؛ بناء على أن الديمقراطية -أو السكون والهدوء إن شئت أن تقول- هي الجو الملائم لجذب الاستثمارات.

وهنا نحن مضطرون إلى الادعاء بوجود خطة منسقة لتلميع وتسويق سو تشي -التي كانت تحيا مع أسرتها في لندن حياة وادعة- لصالح هذه الديمقراطية العرجاء بمنحها جائزة نوبل سنة 1991، وإظهارها على أنها أم الديمقراطية البورمية، بل القديسة المستعدة للاستشهاد في سبيلها بتحملها الاضطهاد والتضييق الذي مارسته السلطة العسكرية ضدها.

ولو صح هذا الادعاء فستبدو الدعوة إلى سحب جائزة نوبل منها -بسبب صمتها على ما يجري لمسلمي الروهينغا– أمرا لا معنى له؛ لأن منح الجائزة الثمينة لها قد قام بدوره تماما، واختار الشعب ممثلته القادمة من بلاد الضَّباب بناء على عاطفة جارفة ربطته بها دون أن يدرك المكيدة جيدا.

توظيف الضحية
لا شك في أن أكبر خاسر في معادلة الديمقراطية الحالية بميانمار -كما هي العادة في مثل هذه التجارب- هو الأغلبية العظمى من الشعب بكل طوائفه، حيث تَنهب ثرواتِه الشركاتُ الدولية والمستثمرون الكبار وسماسرةُ الاقتصاد المحرَّر في الداخل، إلا أن المفارقة المزعجة حقا في هذه المسألة هي أن الشعب صار موظفا في المعادلة ضد نفسه ومصالحه.

كانت مطالب الشعب الميانماري قبل انتخابات 2015 -التي جاءت بالمعارضة إلى السلطة- هي الديمقراطية ورفع الإصر الاقتصادي عن الناس؛ خاصة أنهم كانوا يتسمّعون أخبار البذخ الذي يعيشه العسكر والمحيطون بهم، في بلد يشغل مواقع مخجلة على مؤشرات الفساد العالمي

كانت مطالب الشعب الميانماري قبل انتخابات 2015 -التي جاءت بالمعارضة إلى السلطة- هي الديمقراطية ورفع الإصر الاقتصادي عن الناس؛ خاصة أنهم كانوا يتسمّعون أخبار البذخ الذي يعيشه العسكر والمحيطون بهم، في بلد يشغل مواقع مخجلة على مؤشرات الفساد العالمي ومستوى البنية التحتية، وكان الضغط الشعبي يزيد مع الوقت.

هنا تلاقت ثلاث موجات: خطة الاستغلال الرأسمالي لميانمار، والرغبة الشعبية في الديمقراطية، وحرص العسكر على أن تبقى البلاد في قبضتهم، فجاء جمع هذه الخيوط في صورة ديمقراطية شوهاء تخصص ربع مقاعد البرلمان لممثلين عن الجيش يعيَّنون بدون انتخابات، ولا يمكن أن يمرَّر تشريع بدون موافقتهم؛ خاصة في ظل تحالفهم مع حزب "رابطة التضامن والتنمية" الحاكم للبلاد سابقا والمتماهي مع الجيش.

نعم، يذهب الشعب إلى صناديق الاقتراع فعلا ويختار نسبة كبيرة من ممثليه بنفسه، إلا أن ذلك هو الذي يمنح البلاد حقنة مخدرة من الديمقراطية، فتستقر الأجواء السياسية ويختفي الاحتقان المسيطر، ويفد المستثمرون من أنحاء الدنيا إلى "آخر أراضي آسيا الذهبية"، كما دعاها بعضهم.

ويتفرغ الناس بعد ذلك للعمل أياديَ عاملة رخيصة لدى الشركات العملاقة، التي ستعتني كثيرا بالطرق والمطارات والوجه العصري للعاصمة والموانئ البحرية والمطاعم الغربية، وفي المقابل ستملأ جيوبها بالذهب من كل لون.

قضية الروهينغا
في مقال اقتصادي مهم نشره موقع "كي بي أس وورلد راديو" الكوري الجنوبي عام 2015، لعرض الفرص الاقتصادية المتاحة أمام كوريا في ميانمار بعد التغييرات الديمقراطية التي بدأت تشهدها آنذاك؛ تأسف الكاتب كثيرا على شراء "شركات يابانية وشركات أجنبية أخرى معظم قطع الأراضي المخصصة من قبل الدولة للاستثمار الأجنبي".

وقال إن ذلك الشراء أدى إلى أن صار "تملّك أرض سيكون هو المعضلة الأساسية لأي شركات كورية راغبة في الاستثمار". وأضاف أن "مساعدة الحكومة الكورية للشركات الكورية في هذا الشأن أمر مهم، من خلال استثمار العلاقات المتميزة التي قد تنشأ بينها وبين حكومة ميانمار الجديدة".

لا تستطيع القيادة السياسية لميانمار إدانة أعمال العنف ضد المسلمين الروهينغا؛ والسبب هو الخوف من خسارة الكتلة الانتخابية الضخمة التي يمثلها القوميون والمتدينون المتطرفون، ونضيف إلى ذلك الخوف من اتساع التعاطف الداخلي مع المضطهدين الروهينغيين بما يضيّق فرص تهجيرهم

وواضح من المقال القصير كم يسيل لعاب نمور الاقتصاد وأسوده على ميانمار، وواضح أيضا أن النهب بدأ قبل الانتقال الديمقراطي ببيع مساحات شاسعة من أراضي الدولة للمستثمرين، وهو ما يمثل تمهيدا للمشروعات العملاقة التي قرأت اليابان مستقبلها قبل غيرها، وظاهر كذلك أن "العلاقات المتميزة" للمستثمرين ومن يمثلهم بحكومة ميانمار ستمهد الطريق لمزيد من القبض على الفرص الاقتصادية الضخمة المتاحة في البلاد.

وسط هذا كله يبدو "أراكان" إقليما واعدا اقتصاديا، وما زالت ثرواته الطبيعية والمعدنية ومساحات واسعة منه بكرا لم تستغل على الوجه الملائم إلى الآن.

والتطرف القومي والديني البوذي يمثل في هذا السياق إشكالية وحلا في الوقت ذاته، فهو إشكالية بما يشيعه من اضطرابات في الإقليم لا تسمح بوجود أي فرص للاستثمار فيه، وهو حل بما يقوم به البوذيون -في ظل عداوة تاريخية- من جرائم في حق المسلمين، وتعبئة شعبية ضدهم تساعد على تهجيرهم إلى خارج البلاد بمساعدة قوات الجيش.

وتبدو المبالغة في القتل والحرق وتسويق هذا إعلاميا بصورة واسعة -من خلال المسلمين أنفسهم- عاملا مساعدا على التهجير، وهذا هو الهدف المشترك للقوميين المتطرفين والجيش الذي يسيطر على مفاصل الدولة إلى الآن، ويستغلها اقتصاديا في ظل ديمقراطية مشبوهة.

وبهذا نفهم لماذا لا تستطيع القيادة السياسية لميانمار إدانة أعمال العنف ضد المسلمين الروهينغا؛ والسبب هو الخوف من خسارة الكتلة الانتخابية الضخمة التي يمثلها القوميون والمتدينون المتطرفون، ونضيف إلى ذلك الخوف من اتساع التعاطف الداخلي مع المضطهدين الروهينغيين بما يضيّق فرص تهجيرهم.

وتلك هي قصة كل دولة تُساء إدارتُها في ظل تنوع عرقي أو ديني أو مذهبي؛ إذ تنفجر الأقلية في وجه الأكثرية، أو الأكثرية في وجه الأقلية ذاهلة عن خصمها الحقيقي، وكأن الطرف الذي تنفجر في وجهه هو السبب في كوارثها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو الحائل دون رخائها ومجدها، في حين أن الخصم الحقيقي (تحالف الدكتاتورية والاستغلال الخارجي عادة) يتفرج على الجميع من بعيد، بل يتولى تحريك الخيوط دون أن يلمح الذاهلون أطراف أنامله العابثة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.