الأردن وإسرائيل.. فجوة دون القطيعة

In this photo released by the Jordanian Royal Palace,Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu and Jordanian King Abdullah II meet in Amman, Jordan, Thursday, Nov. 13, 2014. The meeting was to discuss ways to restore unrest in Jerusalem. Kerry met earlier Thursday with Jordanian Foreign Minister Nasser Judeh and with Palestinian President Mahmoud Abbas. Abbas didn't join the trilateral discussion on Thursday evening. (AP Photo/Jordanian Royal Palace, Yousef Allan)

أحداث الأقصى
إهانة السفارة
مستقبل غامض

ما زالت حادثة السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأردنية تترك بصماتها على علاقات تل أبيب وعمّان، من حيث زيادة عمق الفجوة بينهما مع حرصهما على تطويق تبعاتها، رغم أن المشهد الإسرائيلي بدا في الآونة الأخيرة وكأنه ينفض يديه من الأردن، بعد عقود طويلة من التحالف الأمني والسياسي بينهما، وهناك أحاديث متزايدة في إسرائيل عن أن الملك الأردني الحالي عبد الله الثاني قد يكون آخر ملوك السلالة الهاشمية التي تحكم المملكة.

السطور التالية تتحدث عن طبيعة الفجوة القائمة والجفوة المتزايدة بين عمان وتل أبيب، وبحث تبعاتها المتوقعة عليهما، وما هو الحد الذي قد تبلغه في ظل وجود الراعي الأميركي للطرفين.

أحداث الأقصى
لم تمر العلاقات الأردنية الإسرائيلية بأحسن ظروفها خلال الأسابيع والأشهر والأخيرة في ضوء جملة تطورات سياسية وميدانية متلاحقة، لعل أهمها أحداث المسجد الأقصى وما واكبها من اعتداءات إسرائيلية على الحرم القدسي، وخشية أردنية من انتزاع إدارتها للوقف الإسلامي، وتوجه إسرائيلي لم يعد خفياً بتغيير الحقائق على أرض الواقع في هذه البقعة المقدسة.

شعر الأردن بأن إسرائيل تريد تجاوزه أيضا عبر تركيب الكاميرات الذكية ونصب البوابات الإلكترونية هذا العام (2017)، سواء باتفاق معه أو بفرضها كأمر واقع، مما أظهر المملكة ليست ذات صلة بما يحدث في هذه البقعة المقدسة، وهو ما قد يحرمها من شرعية تعتبرها أساسية في استقرار حكمها بين الأردنيين أنفسهم

ينبع التمسك الأردني بإدارة الوقف الإسلامي في الحرم القدسي أساسا من منطلقات دينية وسياسية، وتعتقد دوائر صنع القرار في عمان أن هذا النفوذ لا يمكن التفريط فيه بسهولة، باعتباره أحد أركان القصر الملكي في الأردن، ومن مسوغات بقاء الحكم الهاشمي في المملكة.

ولعلنا لم ننس بعدُ الأزمة التي نشبت بين السلطة الفلسطينية والأردن في أكتوبر/تشرين الأول عام 2016، إثر اتفاق عمان وتل أبيب على تركيب كاميرات في ساحات الحرم القدسي لدواع أمنية إسرائيلية، دون أن تكون رام الله في صلب هذا الاتفاق على اعتبار أن الأردن يرى -بتوافق مع إسرائيل- نفسَه الوصي الحصري على إدارة شؤون الحرم القدسي.

هذه المرة (أي 2017) شعر الأردن بأن إسرائيل تريد تجاوزه أيضا عبر تركيب الكاميرات الذكية ونصب البوابات الإلكترونية، سواء باتفاق معه أو بفرضها كأمر واقع، مما أظهر المملكة ليست ذات صلة بما يحدث في هذه البقعة المقدسة، وهو ما قد يحرمها من شرعية تعتبرها أساسية في استقرار حكمها بين الأردنيين أنفسهم.

ورغم حرص الأردن على تطويق أحداث الحرم القدسي -كما في كل مرة- فإن الإسرائيليين هذه المرة أرادوا تجاوز الدور الأردني، سواء لاعتبارات داخلية إسرائيلية تريد التسريع بفرض السيادة اليهودية على الحرم القدسي، وتمرير اقتحامات المستوطنين له باعتبارها حدثا عاديا يجب ألا يثير استفزاز الأردنيين، أو لاعتبارات خارجية أردنية ترى في عمان عاصمة مهزوزة، تعاني من إشكاليات سياسية وأمنية وربما وجودية.

هذه الاعتبارات الداخلية والخارجية أوصلت تل أبيب إلى قناعة مفادها أن الأمر لا يستدعي منها مشاورة عمان في كل صغيرة وكبيرة فيما يخص القدس، أو يجعلها مواكبة لتطورات القدس على مدار الساعة، وهو ما أغضب القصر في عمان، وشكل ذلك بداية التوتر مع تل أبيب.

إهانة السفارة
فيما كان الأردن وإسرائيل يبذلان جهودهما لتطويق أحداث المسجد الأقصى -أو هكذا بدا لنا على الأقل- اندلعت أزمة أخرى أشد وأقسى هذه المرة، لأنها وقعت في قلب البيت الأردني جغرافياً وأمنياً، عبر قتل أحد حراس أمن السفارة الإسرائيلية لمواطنيْن أردنييْن بدم بارد، دون أن يشكلا خطرا على حياته!

نبعت خطورة حادث السفارة من عدة اعتبارات أساسية لعل أهمها أنها حصلت في ذروة هبة الأقصى، وهو ما يعني انتقال شرارة هذه الأحداث إلى داخل الدولة الأردنية، بما يشكله ذلك من نذير خطر على الأمن الأردني الداخلي.

السلوك المتراخي وغير المبرر من قبل الدولة الأردنية مع حارس السفارة الإسرائيلية الذي قتل مواطنيْها كاد يفجر أزمة داخلية تعصف بالأوضاع السياسية فيها، على اعتبار أن الحديث يدور عن إسرائيلي قتل أردنييْن -مع سبق إصرار وترصد- في قلب العاصمة عمان وفي وضح النهار، ورغم كل ذلك سمحت الدولة بمغادرته البلاد دون أن يتم التحقيق معه فضلا عن اعتقاله

علما بأن حادث السفارة الإسرائيلية وقع أثناء بذل المؤسسة الأمنية الأردنية جهودا حثيثة لفرض سيطرتها على الأوضاع الأمنية التي تطبعها هواجس داخلية وخارجية، سواء ما تعلق منها بوجود حراكات ميدانية لبعض المجموعات المسلحة التي تعبث بالأمن الداخلي للمملكة، أو توترات على الحدود المحيطة بالأردن، في ظل تطورات الأزمة السورية وما يقال عن عمليات عسكرية وشيكة قد تشهدها هذه المناطق.

وأكثر من ذلك، فإن السلوك المتراخي وغير المبرر من قبل الدولة الأردنية مع قاتل مواطنيْها كاد يفجر أزمة داخلية تعصف بالأوضاع السياسية فيها، على اعتبار أن الحديث يدور عن إسرائيلي قتل أردنييْن -مع سبق إصرار وترصد- في قلب العاصمة عمان وفي وضح النهار، ورغم كل ذلك سمحت الدولة بمغادرته البلاد دون أن يتم التحقيق معه فضلا عن اعتقاله!

السلوك الذي اتخذته دوائر صنع القرار الأردني تجاه القاتل الإسرائيلي، وصفته أوساط أردنية واسعة بالمتساهل في دماء أبنائها، في حين أبدت إسرائيل حفاوة غير مسبوقة بعودة الحارس القاتل، واستقبله زعماؤها بصورة مثيرة لاستفزاز الأردنيين.

وهو ما عكس استهتارا إسرائيليا بالنتائج السلبية المتوقعة على الداخل الأردني من الطريقة التي تم بها طي صفحة هذا الحادث، وكأن تل أبيب لم يعد يعنيها أن تشهد جارتها اضطرابات وتوترات أمنية قد تعصف بها!

حادث السفارة الإسرائيلية في عمان دفع الأوساط السياسية في الجانبين لإجراء مقارنة سريعة بين سلوك الملك الحسين الأب مع حادث مماثل، لدى محاولة إسرائيل الفاشلة اغتيال خالد مشعل (الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس) عام 1997 في قلب العاصمة الأردنية، وإجباره لذات رئيس الحكومة اليوم وآنذاك بنيامين نتنياهو على إطلاق سراح مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين وإنقاذ حياة مشعل، مقابل تسليم عملاء الموساد الذين قاموا بتنفيذ المحاولة!

حادث السفارة الإسرائيلية في 2017 أتاح فرصة لطرح السؤال التالي: لماذا لم يقم الملك الابن عبد الله الثاني بما قام به أبوه؟ مع أن إسرائيل قد تبدي استعدادا لتنفيذ الكثير من المطالب مقابل إطلاق سراح جنودها القتلة، وقد كانت فرصة للملك الأردني ليعزز نفوذه وشعبيته في الداخل الأردني بأن يشترط على إسرائيل كثيرا من المطالب مقابل تسليم حارسها القاتل، لعل أهمها أن يعيد الأوضاع في الحرم القدسي لما كانت عليه قبل الأحداث الأخيرة.

مستقبل غامض
صحيح أن علاقات تل أبيب وعمان لا تمر بأحسن أحوالها، لكنها قد تأخذ شكلا متطورا من التدهور في قادم الأيام إذا ما قُدّر للمخططات الإسرائيلية الخاصة بتجسيد الخيار الأردني الخاص بالضفة الغربية أن تمر دون تنسيق مسبق مع المملكة.

لا سيما أن ذلك قد يعني انتفاء تدريجياً لحل الدولة الفلسطينية، وإثارة متجددة للنزعات المناطقية بين الأردنيين والفلسطينيين، وهو آخر ما يريد رؤيتَه صانعُ القرار في القصر الهاشمي، في ظل التبعات التي أسفرت عن توافد آلاف اللاجئينالسوريين والعراقيين.

ما يحفظ العلاقة الثنائية الأردنية الإسرائيلية هو وجود راع أميركي لها، واعتبار الولايات المتحدة أن امتلاك عمان وتل أبيب لعلاقات مثالية قد يحمي المنطقة من الانزلاق إلى تدهور أمني، لا تريده واشنطن -على الأقل في المرحلة الحالية- في ضوء الفوضى الأمنية التي يشهدها الشرق الأوسط

ورغم ذلك، فإن العلاقات التاريخية الوطيدة بين الأردن وإسرائيل يصعب أن يتقرر مصيرها المستقبلي بسبب حادث هنا وأزمة هناك، في ظل شبكة المصالح الأمنية والعسكرية والإستراتيجية التي تربطهما، بل قد يكون هناك ترابط عضوي بين حفظ الأمنين الأردني والإسرائيلي، مما قد يكبح جماح أي تهور يأخذ العلاقة بعيدا في التدهور والانزلاق إلى مآلات غير مسبوقة دون خط رجعة!

الإسرائيليون يبدو أنهم يستغلون حاجة الأردن إليهم في البعد الأمني والمعلوماتي لحفظ أمن المملكة، سواء ما تعلق منها بإرسال المخابرات الإسرائيلية لتحذيرات أمنية مسبقة عن عمليات مسلحة قد تنفذها في الأردن منظمات معادية، أو حاجة الأردن لإسرائيل في المسائل الحياتية كالموارد المائية والنفطية والطاقة، من خلال اتفاقات اقتصادية وتجارية.

وفضلا عما تقدم، فإن ما يحفظ هذه العلاقة الثنائية الأردنية الإسرائيلية هو وجود راع أميركي لها، واعتبار الولايات المتحدة أن امتلاك عمان وتل أبيب لعلاقات مثالية قد يحمي المنطقة من الانزلاق إلى تدهور أمني، لا تريده واشنطن -على الأقل في المرحلة الحالية- في ضوء الفوضى الأمنية التي يشهدها الشرق الأوسط.

ورغم ما قد تشهده الأجواء الأردنية الإسرائيلية من توتر وتبادل للاتهامات في وسائل إعلامهما، فإن الغرف المغلقة والاجتماعات البعيدة عن الإعلام -سواء في عمان أو تل أبيب- لا تشهد هذه التوترات، فالتنسيق الأمني على أشده، ويعلم الجانبان أن إغماض عيون أجهزتهما الأمنية لحظة واحدة عن هذا التنسيق سيضر بهما أو بأحدهما.

أكثر من ذلك، فإن الاختراقات السياسية -التي تحققها إسرائيل في عدد من دول المنطقة- تجعلها أدعى لأن تحافظ على علاقاتها التاريخية مع الأردن، من باب مراكمة هذه الاتصالات والبناء عليها، وليس فتح خط مع دولة جديدة وإغلاقه مع أخرى قديمة كالأردن!

أخيراً.. تعود العلاقات الأردنية الإسرائيلية إلى المراحل التأسيسية لهما معاً، وهو ما قد يجعلهما يرتبطان بمصير مشترك، في ضوء شبكة مصالحهما المعقدة والمتشابكة على مختلف المسارات، مما سيدفعهما -آجلاً أو عاجلاً- لتجاوز الأزمة الحاصلة وعودة المياه إلى مجاريها، مع وجود ضغوط أميركية عليهما هدفها الإبقاء على علاقات أكبر حليفين لواشنطن في المنطقة ضمن إطار التعاون والتنسيق، رغم ما يمكن وصفها بسحابة الصيف العابرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.