الثورة التونسية ومستقبل الربيع العربي

عربة مفجر الثورة محمد البوعزيزي/ ديسمبر/كانون الأول 2015
منذ الأسابيع الأولى لموجة التغيير التي اجتاحت الرقعة العربية بدايات ٢٠١١، بدءا من تونس، ومنها إلى مصر وسوريا وليبيا واليمن، أخذت تصدر المراثي تباعا عن تحول الربيع العربي إلى خريف عابس، ثم إلى شتاء قارس.

كان ذلك يصدر في البداية عن نخبة من الكتاب العرب المرعوبين من الزلزال السياسي الكبير الذي ضرب بعض الأقطار العربية على حين غرة، ثم ما فتئ هذا الخطاب الكارثي، أن اتسع أكثر مع ظهور صعوبات ومشكلات في مسار التغيير لاعتبارات كثيرة سنأتي على ذكرها لاحقا.

حتى الأميركان أنفسهم الذين كان لهم قصب السبق في إطلاق مصطلح الربيع العربي (لعلهم كانوا يستبطنون ربيع براغ المغدور به) وعبروا عن الاحتفاء الظاهر بموجة التغيير التي أتت على أهم حلفائهم في المنطقة، قد كفوا اليوم عن الحديث عن الربيع العربي وعادوا مُجددا إلى نظريتهم القديمة الجديدة المتمركزة حول الأمن والاستقرار.

لا شك أن ثورات الربيع العربي قد توحّلت أقدامها في ركام هائل من الأزمات والصراعات التي لا حصر لها، سواء بسبب دخول أطراف إقليمية ودولية على الخط بمالها وركابها لضرب هذه الموجة وتخريبها بأي ثمن، أو بسبب أخطاء ذاتية ارتكبتها القوى الجديدة التي صعدت إلى الحكم بعد ثورات الربيع العربي.

في مصر تمكن الجيش من الإجهاز على ثورة ٢٥ يناير الغِرّة، واسترجاع سلطة لم تخرج من يَدَيْه أصلا. سوريا غرقت في حرب أهلية مدمرة مصحوبة بتمزق نسيجها المجتمعي بعد أن تحولت إلى ساحة لتصارع إستراتيجيات إقليمية ودولية كبرى. ليبيا التي أطيح فيها بحكم القذافي في إطار ما عرف بثورة ١٧ فبراير استحال أمرها إلى انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة وانتشار السلاح على نطاق واسع. أما اليمن فقد تحولت ثورته السلمية إلى تحارب داخلي بسبب تآمر علي عبد الله صالح المتحالف مع الحوثيين والحسابات القاصرة للجوار العربي. ربما تبقى تونس استثناء في المشهد العام من خلال نجاحها في تأمين مسار سياسي سلمي وديمقراطي، بيد أن ذلك لم يكن من دون ثمن، بسبب إكراهات الجغرافيا، على حساب رصيد الثورة وقوى التغيير.

لعل من أهم الدروس المستخلصة من الثورة التونسية نفسها، ترابط الوضع العربي مشرقا ومغربا وخليجا، ليس بسبب واقع الجغرافيا السياسية فحسب، بل بسبب الشعور العام المشترك بين العرب بكونهم أمة واحدة رغم حواجز الدول القُطرية، ثم بسبب الإحساس الدفين بينهم بعمق الأزمة ووطأة الاستبداد

وإذا كان من الواضح أن موجة التغيير قد أطاحت برؤوس الأنظمة المستبدة والفاسدة في إطار ثورات غير مكتملة، فإنها لم تتمكن من إعادة بناء أسس نظم جديدة، أو شق الطريق نحو استقرار آمن، سواء بسبب حدة الاستقطاب السياسي الداخلي، الذي تحول في بعض الحالات إلى صراع دموي بالسلاح، أو بسبب التدخلات الدولية والإقليمية، خاصة مع تشكل نواة صلبة يقودها نادي الاستبداد العربي مراهنا على الإطاحة بالربيع العربي بكل الأشكال والسبل.

ولعل من أهم الدروس المستخلصة من الثورة التونسية نفسها، ترابط الوضع العربي مشرقا ومغربا وخليجا، ليس بسبب واقع الجغرافيا السياسية فحسب، بل بسبب الشعور العام المشترك بين العرب بكونهم أمة واحدة رغم حواجز الدول القُطرية، ثم بسبب الإحساس الدفين بينهم بعمق الأزمة ووطأة الاستبداد، ولذلك تحوّل ما كان محليا في هذا البلد المغاربي الصغير إلى حالة عربية أوسع، لها صداها في القاهرة وطرابلس ودمشق وصنعاء.

ولَم تسعف كثيرا مقولة الاستثناء المصري أو الليبي أو اليمني التي تذرع بها الحكام المخلوعون. وحينما وقع الانقلاب في مصر التي تعد أكثر البلاد العربية ثقلا سكانيا وسياسيا، كانت له تداعياته وآثاره الواضحة في أغلب العواصم العربية، وما زالت المنطقة تعاني من تبعاته الثقيلة على التغيير في عموم المنطقة.

وإذا كان من المسلم به أن الموجة الأولى من الربيع العربي قد تم خنقها قبل أن يصلب عودها ويشتدّ قوامها، فإن ما لا يقل عن ذلك يقينا هو أن الأوضاع التي أريد بناؤها على أنقاض الربيع العربي لا تمتلك مقومات الاستمرار، وهي تبدو الآن أكثر هشاشة وعرضة للاهتزاز من أي وقت من الأوقات.

برع نظام السيسي في الاستفادة من مناخات التذمر التي تشكلت بعد ثورة ٢٥ يناير، كما هو شأن كل الثورات تقريبا، وكذلك من الأخطاء التي ارتكبها الإخوان في إدارة وضع ما بعد الثورة، ومن ذلك عجزهم عن عقد التحالفات والتسويات السياسية المطلوبة، وعن توحيد جبهة القوى التي شاركت معهم في الثورة، كما أنه استفاد من الدعم المالي السخي الذي قدمته بعض الدول العربية النفطية.

بيد أن من يتأمل أوضاع مصر اليوم يدرك أن البلد يتجه بصورة مطردة نحو مزيد من التأزم، وبشكل أكثر عمقا وضراوة من الأزمة التي مرت به في عهد مرسي المغدور به. فالأوضاع المعيشية تزداد سوءا والأحوال الاقتصادية أكثر كارثية، بسبب تعطل السياحة وتراجع الاستثمار وكساد السوق، والحالة الأمنية تتجه إلى مزيد من الانفلات، ولا نتحدث هنا عن الوضع السياسي العام الذي تدحرج إلى دكتاتورية عسكرية عمياء.

أي أن نظام السيسي قد أضاف ببراعة فشله الاقتصادي إلى جانب فشله السياسي المحقق. ليس مهما أن يعمر السيسي سنة أو خمس سنوات أو عشرا، بل الأهم هو المصير التاريخي لهذه الحركة الارتدادية التي أريد لها أن تعيد المصريين ومعهم العرب إلى المربع الأول بحجة استعادة الأمن والاستقرار الذي هددته ثورات الربيع العربي.

يبدو المشهد العربي اليوم عبارة عن قوس واسع من الأزمات والحروب الأهلية المفتوحة في العراق وسوريا واليمن، ومصر وليبيا، بيد أن ما هو مؤكد أن الديناميكيات السياسية وكذا الأزمات التي فتحتها ثورات الربيع العربي لن تتوقف، اللهم إلا بعقد تسوية تاريخية تترجم طبيعة التوازنات السياسية الجديدة التي فرضها الربيع العربي على أرض الواقع

إذا كان من الصحيح أن دول الربيع العربي، إذا استثنينا تونس نسبيا، قد آلت إلى أوضاع كارثية، فهذا لا يعني أن المعسكر المضاد للربيع العربي هو بأحسن حال، بل هو يشهد تخبطات كبيرة في أكثر من موقع، أشد من تلك التي سوغ الانقلاب عليها، بما يوحي بأن الزمن كفيل بمزيد من استنزاف هذه القوى الارتدادية التي تغذت من صعوبات التحول وأزماته.

يبدو المشهد العربي اليوم عبارة عن قوس واسع من الأزمات والحروب الأهلية المفتوحة في العراق وسوريا واليمن، ومصر وليبيا، بيد أن ما هو مؤكد أن الديناميكيات السياسية وكذا الأزمات التي فتحتها ثورات الربيع العربي لن تتوقف، اللهم إلا بعقد تسوية تاريخية تترجم طبيعة التوازنات السياسية الجديدة التي فرضها الربيع العربي على أرض الواقع، أو أن يستمر خط الصراع السياسي والدموي صعودا ونزولا، إلى أن تتمكن إحدى القوى من ترجيح كفتها وكسر الطرف المقابل في مسار من العنف والفوضى والقتل المتبادل، على النحو الذي عرفته موجة الحروب الدينية التي مزقت نسيج القارة الأوروبية برمتها في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

حصول هذا الحسم يبدو مستبعدا بالمعطيات الراهنة بالنظر إلى كثرة المتدخلين واللاعبين في هذه الساحات العربية، فضلا عن كونه صراعا مهلكا للأوطان والأنفس ومدمرا للاقتصاد وأسس العيش المشترك، ومثل هذا الأجواء المتسمة بحدة الصراع وانتشار السلاح وانهيار مؤسسات الدولة، لا يعني شيئا سوى مزيد من تمدد جماعات العنف والإهاب مثل داعش ومشتقاتها، التي تعمل على تغيير الحدود الجغرافية وملء الفراغات التي تركتها الحكومات والمعارضات السياسية السلمية على السواء.

صحيح أن الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي قد تم كبحها في منتصف الطريق بسبب زرع الفتن الداخلية من استقطاب سياسي وحروب طائفية ودينية وإثنية لا حصر لها، بيد أنه من المؤكد أنه لا يمكن للأوضاع العربية أن تعود إلى نقطة الصفر؛ لأن ثورات الربيع العربي أحدثت رجة كبيرة في البنيان السياسي العربي ومزقت رتابة الجمود والاستمرار، وهي تفعل فعلها الظاهر والخفي سواء على صعيد الواقع أو على صعيد الوعي العام.

الأهم من كل ذلك أنها فككت أسوار الخوف في نفوس الناس وأيقظت في دواخلهم جذوة الحرية، ومن ثم أشعرتهم بالقدرة على التغيير وهشاشة الدكتاتوريات رغم سطوتها وجبروتها. والأرجح أن يبقي الواقع العربي مسكونا بثورات الربيع العربي لسنوات طويلة بين موجات من المد والجزر، وبين الثورة والثورة المضادة، وبين الحرية والفوضى إلى أن يتلمس طريقه نحو معادلة جديدة، ويحقق التوازن المفقود بين مطلب الحرية والحاجة للاستقرار، ولَك أن تقول الاستقرار المبني على الحرية والكرامة.

نعم قد يطل شبح الدكتاتورية وإرهاب الدولة مجددا على النحو الذي نراه اليوم في أكثر من موقع في العالم العربي، بيد أن ما بقي حيّا وفاعلا في نفوس العرب هو ذلك الشعور الغامر بقيمة الحرية والكرامة ثم المجاسرة بتحدي الحكم الفردي الغشوم

قد يجادل البعض بأن الأوضاع العربية كانت أحسن حالا مما هي عليه اليوم بعد ثورات الربيع العربي، وقد يكون شيء من هذا صحيحا كما جرى في أغلب ثورات العصر الحديث، إلا أن ما نشهده أمام ناظرينا اليوم من اهتزازات وكوارث مؤلمة هي مرحلة ضرورية ولازمة للتخلص من رتابة الجمود وسطوة الاستبداد والقهر، الذي فرضته حكومات غاشمة وقاسية، كما أن الشعوب الحية واليقظة هي التي تبادر بدفع ضريبة التغيير الباهظة بحكم شعورها العميق بالمسافة الفاصلة بين طموحاتها العالية وواقعها البائس، وعليه يجب النظر إلى هذه الحركة التاريخية بمنظار المستقبل لا بمنظار الماضي، الذي لن يعود مهما كان مغريا وورديا بالنسبة للبعض.

سبق للفيلسوف الألماني هيجل الذي عايش الثورة الفرنسية بكل تطلعاتها وكوارثها الدموية أيضا، أن تحدث عما سمّاه الروح الجديدة التي حلت بأوروبا على وقع الصورة الفرنسية، رغم ما لحقها من اضطراب وفوضى ومغامرات عسكرية، هزت استقرار القارة الأوروبية برمتها، والحقيقة أننا لسنا بعيدين عن الصواب إذا قلنا إن ثورات الربيع العربي قد أدخلت بدورها روحا ووجهة جديدة في العالم العربي، أعني بذلك روح الحرية والتحرر التي غمرت وعي ووجدان الشعوب العربية مشرقا ومغربا.

نعم قد يطل شبح الدكتاتورية وإرهاب الدولة مجددا على النحو الذي نراه اليوم في أكثر من موقع في العالم العربي، بيد أن ما بقي حيّا وفاعلا في نفوس العرب هو ذلك الشعور الغامر بقيمة الحرية والكرامة ثم المجاسرة بتحدي الحكم الفردي الغشوم. أو لم يكن أهم شعار للثورات العربية الراهنة "الشعب يريد" المستلهمة من بيت الشابي (إذا الشعب يوما أراد الحياة  فلابد أن يستجيب القدر)، وهذا يعني في أبسط معانيه أن الشعوب لها إرادتها وكلمتها العليا التي لا يمكن قهرها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.