من التفكير باستحقاقات أيلول إلى ما بعده
الاستحقاق في إشكالياته
لكن ما العمل؟ ما البديل؟
لدى إسرائيل ما تخشاه وما تخسره
الانقسام من حول الاستحقاق
معلوم أن هذه الخطوة كانت محط خلاف، وموضع التباس، بين الفلسطينيين. ومثلا، فإن الفريق الذي محضها تأييده انطلق في ذلك من اعتبارها خطوة إلى الأمام في الصراع مع إسرائيل، وعلى أساس أن نجاحها سيعني أن الفلسطينيين حققوا إنجازا سياسيا ودبلوماسيا على غاية في الأهمية، لا سيما في مواجهة إسرائيل التي ترفض قيام دولة مستقلة للفلسطينيين.
" القيادة الفلسطينية تسعى من وراء خطوة أيلول إلى تعزيز شعبيتها بين الفلسطينيين، بتحقيقها إنجازا ما على الصعيد الدبلوماسي، في محاولة منها لتغطية الإخفاق في العملية التفاوضية مع إسرائيل " |
وفي إطار هذه النظرة، فإن هذا الفريق رأى في التوجّه إلى الأمم المتحدة نوعا من التمرّد على المسار التفاوضي العقيم، الذي استطاعت إسرائيل تحويله إلى دوامة مرهقة ومهينة ولا مخرج منها بالنسبة إلى الفلسطينيين. وبالنسبة له فإن التحول إلى دولة يمكن أن يجعل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين بمثابة صراع بين دولتين، مع كل ما يترتب عن ذلك من استحقاقات في القانون الدولي وفي التعاملات الدولية.
وفي التجربة التاريخية فقد كان ثمن اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير في اتفاق أوسلو (سبتمبر/أيلول 1993) "تطيير" هذه المنظمة لصالح السلطة، وإنهاء طابع حركة التحرر الفلسطينية وتحويلها إلى مجرد سلطة محدودة السيادة، تحت الاحتلال. أيضا فقد كان ثمن ذلك اتفاقا منقوصا ومجحفا ومهينا للفلسطينيين وحقوقهم، ما تمثل بتأجيل البتّ بقضايا المستوطنات وحقوق اللاجئين والقدس والحدود، وعدم توضيح ماهية الحل النهائي، وحتى عدم تعريف إسرائيل باعتبارها دولة محتلة، وهي أمور ما زال الفلسطينيون يدفعون ثمنها منذ عقدين.
طبعا ليست مسألة الاعتراف بهذه الدرجة من التبسيط، بل إنها جدّ معقدة، ذلك أن هذه الخطوة على كل ثغراتها وإشكالياتها والتحديات التي يمكن أن تنشأ عنها، تجد معارضة عنيدة لدى كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، أيضا. ومثلا، فهذه إسرائيل هدّدت بإنهاء العمل باتفاق أوسلو (كأنها لم تنه العمل به منذ زمن!)، وبتقييد السلطة ومنع العوائد الضريبية عنها، فيما تهدد الولايات المتحدة بوقف تمويلها لموازنات السلطة، وباستخدام حقها في النقض "الفيتو".
" مهما حصل بشأن استحقاق أيلول فإن القضية لن تنتهي هنا، وسيواصل الشعب الفلسطيني نضاله من أجل حقوقه، نجح الاستحقاق أو لم ينجح " |
مثلا، في حال أخفقت هذه الخطوة فإن الفلسطينيين معنيون بالإجابة عن سؤال "ماذا بعد؟"، ما هي الخيارات البديلة لاستعادة الحقوق بعد فشل خياري التفاوض والأمم المتحدة؟ ماذا بشأن المفاوضات؟ وما العمل بشأن السلطة؟ وإلى أين سنذهب من هنا؟ وماهية الاستعدادات والإمكانيات والمتطلبات؟
إزاء كل ما تقدم ومع التأكيد على أهمية تعزيز وضع فلسطين على الصعيد الدولي وفي مختلف المحافل الدولية، إلا أن ذلك يجب أن يرتبط بأفق سياسي واضح وبإستراتيجية تراعي متطلبات العملية الوطنية، ووحدة الشعب الفلسطيني. عدا عن ذلك فإن علم القيادة أو الإدارة هو في جزء مهم منه يتعلق بعلم استثمار الموارد وإدارتها بالطريقة الأمثل للحصول على عوائد أو نتائج أكثر وأفضل.
" السير في مسار أيلول يعني أن القيادة الفلسطينية يجب أن تذهب به إلى نهايته، إلى درجة الذهاب نحو حل السلطة، أو على الأقل إنهاء دورها الوظيفي التفاوضي والأمني " |
لذا فإن المطلوب من القيادة الفلسطينية أن تحسم أمرها، ليس بتحسين شروطها في إطار اتفاقيات أوسلو، فهذا لم يعد كافيا وحده، وإنما بالتوجه نحو مراجعة كل المعادلات التي جرت بناء عليها عملية التسوية، لا سيما لجهة البحث عن خيارات سياسية أخرى بديلة، تكون أكثر تجاوبا مع حقوق الفلسطينيين.
لكن السير في هذا المسار يعني أن هذه القيادة يجب أن تذهب به إلى نهايته، إذا لم تستطع تحقيق النجاح فيه (بإقامة الدولة المرجوة)، إلى درجة الذهاب نحو حل السلطة، أو على الأقل إنهاء دورها الوظيفي التفاوضي والأمني، وتقويض المعادلات التي قامت عليها اتفاقات أوسلو من أساسها، وكشف إسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية عنصرية وأصولية.
وفي هذا الإطار يمكن للفلسطينيين، وهذا هو الأهم، أن يشتغلوا أكثر بترتيب بيتهم، وضمن ذلك إعادة اللحمة إلى ساحتهم، في إطار يحفظ سلامة التعددية والعلاقات الديمقراطية، ويكفل توجيه الجهود لمواجهة السياسات الإسرائيلية. ولعل هذه هي اللحظة العربية المواتية للفلسطينيين لإعادة تفعيل منظمة التحرير وإعادة بناء مؤسساتها، واستعادة الحركة الوطنية لطابعها كحركة تحرر وطني.
على أي حال ليس للفلسطينيين ما يخسرونه في هذه المحاولات، (إذا استثنينا فئات محدودة تعايشت مع امتيازات السلطة)، ذلك أن هكذا سلطة لم تنه الواقع الاستعماري والاستيطاني والعدواني في الأراضي المحتلة عام 1967، بل إنها طمست هذا الواقع، من دون أن تتمكن حتى من إنتاج كيانية سياسية للفلسطينيين، قادرة على التواصل والصمود والتطور.
ولنفكر في الأمر قليلا بتأنّ، ذلك أن إسرائيل -وليس الفلسطينيين- هي التي ينبغي أن تخشى انسداد كل الخيارات التي تؤول إلى إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين، وانفتاح مسار التحول من حل الدولتين أو من الحل الجغرافي نحو خيار الدولة الواحدة العلمانية الديمقراطية، وهي التي ينبغي أن تخشى من التحولات والتغيرات في البيئة السياسية العربية، كما من تعرضها لعزلة دولية.
" الفلسطينيون لهم مصلحة أكيدة اليوم بتفحّص المعطيات الجديدة والتحولات الحاصلة لتجديد مشروعهم الوطني، واستعادة حركتهم السياسية لطابعها كحركة تحرر " |
وفي الحقيقة فإن الظروف الدولية والعربية السائدة باتت تتجه بوضع علامات شك حول وضع إسرائيل وحول مشروعيتها، السياسية والقانونية والأخلاقية في المنطقة، وهذه المناخات هي التي تشجّع الفلسطينيين على طرح مشروع الدولة الواحدة الديمقراطية المدنية العلمانية، دولة المواطنين أو ثنائية القومية، ضد مشروع إسرائيل اليهودية الدينية العنصرية الاستعمارية، باعتباره المشروع الذي يساير عجلة التاريخ فيما مشروع إسرائيل يسير عكس التاريخ.
بمعنى أكثر تحديدا، فإن إسرائيل في هذه المناخات الدولية والعربية، التي تسير نحو ترسيخ قيم الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية، باتت تتحول، أكثر فأكثر، إلى مجرد ظاهرة رجعية في المنطقة، تسير على الضد من المسارات التي فتحتها الثورات الشعبية التي أعادت هذه المنطقة إلى التاريخ العالمي.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.