السياسة الأميركية بين الشرعية والأداء

بقلم/ محمد بن المختار الشنقيطي

"نحن نعرف أننا قتلنا الكثيرين، وأسرنا الكثيرين، وصادرنا الأسلحة. لكن السؤال يبقى: هل هذا مرادف لكسب المعركة"؟؟.. هكذا صرح وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد يوم 30/12/2003 متحدثا عن المأزق الأميركي في العراق.

وتعكس ألفاظ الوزير رمسفيلد ببلاغة معضلة السياسة الخارجية الأميركية، لا في العراق وحده، بل في العالم أجمع. إنها سياسة ألهتها الوسائل عن الغايات، واستنزفها ولع العقل الأميركي بالفاعلية والأداء، على حساب المشروعية الأخلاقية.

ومنذ يوم 11 سبتمبر/أيلول الدامي تعيش الولايات المتحدة حالة استنفار، وتسخر موارد مادية وبشرية هائلة من أجل تفادي هجمة جديدة. لكن لجنة الكونغرس المكلفة بالتحقيق في هجمات 11 سبتمبر/أيلول تؤمن بأن الضربة القادمة آتية لا محالة، وأنها ستكون أقسى وأنكى من ضربة 11 سبتمبر/أيلول.

ومن المؤسف أن النخبة السياسية الأميركية لا تتمتع بالشجاعة الأخلاقية والرؤية الفكرية التي تمكنها من الغوص في جذور المشكلة الأمنية التي تؤرق الشعب الأميركي، وأن موارد هذا الشعب تهدر في معركة خاسرة في النهاية.

فمهما يبذل الجيش والأمن الأميركي من جهد، ومهما تنفق الخزينة الأميركية من مال، فإن مسار السياسة الخارجية الأميركية كفيل بتبديد كل ذلك الجهد، ودفع العالم كله إلى بغض أميركا ومنابذتها.


من المؤسف أن النخبة الأميركية لا تتمتع بالشجاعة الأخلاقية التي تمكنها من الغوص في جذور المشكلة الأمنية التي تؤرق الشعب الأميركي، وأن الموارد تهدر في معركة خاسرة

إن السياسات الخارجية الأميركية مصنع للعداوات يعمل بكامل طاقته، وهو مصنع جبار يفوق إنتاجه أي جهد يبذله الأميركيون للإمساك بأعداء أميركا أو قتلهم.

يخطئ من يظن أن العرب والمسلمين هم وحدهم من يكره السياسة الأميركية، فقد أفصحت استطلاعات للرأي منذ أيام في كندا –وهي أقرب دول العالم إلى الولايات المتحدة تاريخا وثقافة وحضارة– عن أن 48% من الشباب الكنديين يعتبرون الولايات المتحدة "دولة شريرة".

أما في أوروبا فقد تجاوز الأمر حدود ذلك بكثير. وتكفي نظرة سريعة على افتتاحيات كبريات الصحف الأوروبية لإدراك ذلك. ولا تقل الشعوب الآسيوية امتعاضا من السياسات الأميركية، بما في ذلك شعوب الدول التي عرفت بدورانها في الفلك الأميركي طيلة نصف القرن المنصرم، مثل كوريا الجنوبية والفلبين.

فالمظاهرات الحاشدة ضد السياسات الأميركية في هذه الدول أصبحت ظاهرة شبه يومية. وتجرؤ الرئيسة الفلبينية على الخروج من بيت الطاعة الأميركي في العراق أبلغ شاهد على ذلك، باعتبار الفلبين أوثق الدول الآسيوية صلة سياسية –وحتى دينية– بالولايات المتحدة. وتبقى الدول التي تواجه فيها السياسة الأميركية أعظم السخط من الشعوب، وأعظم الطاعة من الحكام، هي الدول العربية والإسلامية.

وتلك هي المفارقة الكبرى في الصورة بأكملها، فحينما بدأت الدول المتحالفة مع واشنطن في العراق سحب قواتها مؤخرا، اتجهت الحكومة الأميركية إلى الدول العربية، فإذا "الخبرة الأمنية المصرية" طوع يدها، والقوات الباكستانية مستعدة لمعاضدتها، والعلاقات السعودية والكويتية مع العراق تعود إلى الدفء فجأة.

في ظروف كهذه لا تستطيع أميركا أن تقيم وزنا لمشاعر الشعوب العربية والإسلامية، لأن المشاعر الشعبية في عالم، والقرار السياسي في عالم آخر.

إن مواقف القادة العرب لا تمثل خنوعا أمام سياسات جائرة ضد شعوبهم فحسب، بل هي مواقف تخذّل الدول الأخرى التي تريد أن تنتهج مسلكا عدلا في تعاطيها مع قضايا تلك الشعوب.

وليس من المبالغة القول إن الموقف العربي الرسمي هو نقطة الضعف الأساسية في الموقف الأوروبي من القضايا العربية. فحينما بعث الاتحاد الأوروبي رئيس وزراء اليونان إلى قمة شرم الشيخ العربية، ليناقش إمكانات تنسيق عربي أوروبي لدرء غزو العراق، وجد القادةَ العرب يتشاتمون بلغة الأعراب "الموت أمامك والقبر قدامك"!! فما الذي يتوقعه المرء من الأوروبيين بعد ذلك؟!

ومهما يكن من أمر، فقد أدرك بعض الحكماء الأميركيين مخاطر الكراهية لأميركا التي سببتها السياسة الأميركية في كل أرجاء الأرض، ودعوا إلى تدارك الأمر قبل فوات الأوان. لكن تحذيراتهم لا تزال صيحة في واد ونفخة في رماد.

ففي الذكرى الأولى لهجمات 11 سبتمبر/أيلول كتب ريتشارد نيو مساعد رئيس مؤسسة راند –أكبر مؤسسات الدراسات الإستراتيجية الأميركية وأكثرها مصداقية– مقالا في مجلة المؤسسة بعنوان "العنف ضد أميركا.. فرصة للتفكير النزيه"، أوضح فيه بمنطق الخبير المتمرس أن لا شيء سينقذ الولايات المتحدة من النفق المظلم الذي دخلته يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 سوى "التفكير النزيه".

وألح على أن "من أعظم التحديات أمام السياسة الأميركية فهم وحلّ الخلافات بين أميركا والعالم الإسلامي"، وعلى رأس هذه الخلافات المحنة الفلسطينية، ودعم الأنظمة المستبدة الفاسدة.

وحذر ريتشارد نيو من أن قرارات شجاعة وصعبة تنتظر القيادة الأميركية، ومنها "أن إعادة النظر في بعض العلاقات الثنائية الحيوية بين أميركا وبعض الدول أمر لا يمكن تفاديه في المستقبل، ومن هذه الدول: السعودية ومصر وباكستان وإسرائيل".

كما ألف أحد ضباط وكالة "سي.آي.أي" مؤخرا كتابا وصف فيه غزو العراق بأنه "هدية أعياد الميلاد إلى أسامة بن لادن". والجدير ذكره هنا أن هذا الضابط كان يترأس الشعبة المسؤولة عن مطاردة بن لادن في سي.آي.أي، فهو من أقدر الأميركيين على إدراك ملابسات الصراع بين أميركا والقاعدة في إطار أوسع من مجرد المواجهة العسكرية المباشرة.


أكثر من ينتقدون غزو العراق اليوم من الساسة الأميركيين المعارضين لا ينتقدونه من منطلق أخلاقي وإحساس بتأنيب الضمير, بل من منطلق عملي وهو أن الرئيس بوش لم يحسن التخطيط لما بعد الحرب

لكن المؤسف أن النخبة السياسية الأميركية لا تزال تستعبدها العقلية الذرائعية التي تميل إلى أن شرعية الحلول تنبع من فاعليتها، فكل حل "ناجحٍ" –بهذا المنطق- مقبول بغض النظر عن عدم أخلاقيته.

ولذا فإن أكثر من ينتقدون غزو العراق اليوم من الساسة الأميركيين المعارضين لا ينتقدونه من منطلق أخلاقي، وإحساس بتأنيب الضمير تجاه مقتل خمسة 15 ألف عراقي بريء، بل من منطلق عملي وهو أن الرئيس بوش "لم يحسن التخطيط لما بعد الحرب"، أو أنه "لم يتنبأ بمستوى المقاومة التي ستواجهه في العراق"، أو أنه "لم يبذل جهدا لجلب مزيد من الحلفاء".. إلخ.

ولو أن الغزو تم واستقر دون مقاومة كبيرة، ولم يكلف أميركا دما ومالا، فلا اعتراض عند هؤلاء، بغض النظر عن الثمن الباهظ الذي يدفعه شعب العراق من دمه وماله دون جريرة اقترفها.

ويبدو أن عقدة الضمير الغربي تجاه محنة اليهود في الحرب العالمية الثانية، لم تترك في ذلك الضمير مساحة للتعاطف مع أي شعب آخر، وبالذات إذا كان هذا الشعب عربيا أو مسلما.

وكلما بدأ ذلك الضمير يصحو من سكرة "الهولوكوست" جاء شعار "معاداة السامية" يطرق الأبواب، ليذكره بأنه لا يسمح بأي صحوة مهما تطاول الزمان.

والذي يقرأ تقرير لجنة 11 سبتمبر/أيلول الذي صدر مؤخرا في 567 صفحة، وهو حاصل مراجعة مليوني وثيقة من وثائق الحكومة الأميركية، السرية والعلنية, يدرك أن هذه العقلية الذرائعية القاصرة لا تزال متحكمة في النخبة السياسية الأميركية.

ورغم اشتمال التقرير على عشرات التوصيات العملية لتحسين الوضع الأمني في الولايات المتحدة، فإنه تجاهل تماما جذور المشكلات التي خلقت الوضع الأمني المتأزم.

فلم يطالب التقرير بإعادة النظر في أي من السياسات الأميركية المتحيزة، بل وصف بعضها –مثل الدعم المطلق لإسرائيل- وصفا مجردا بأنها مصدر من مصادر العداوة لأميركا، ثم عرج على ذلك بالقول في لغة تبريرية باردة "ولا يعني هذا أن الخيارات الأميركية خاطئة"!!

وكان رئيس اللجنة قال في كلمته التي قدم بها التقرير للصحافة، إن "19 رجلا مسلحين بالسكاكين والشفرات والمخاصر تمكنوا من اختراق دفاعات أقوى أمة على وجه البسيطة، وسببوا لشعبنا عذابا لا يحتمل، وقلبوا النظام الدولي رأسا على عقب".

ثم فسر عجز أميركا عن تفادي المصيبة التي حلت بها بأنه كان "فشلا في التصور"، وهو كلام دقيق تماما. كل ما في الأمر أن الفشل ليس في التصور العملي فقط كما قصد رئيس اللجنة، وإنما هو فشل في التصور الأخلاقي، وهو فشل أدهى وأمر من الفشل العملي، لأنه يجعل قيادة أقوى شعب في العالم وأحسنه تعليما تعمى عن إدراك البديهيات، مثل كون الشعوب المسلمة لن تسكت عن استعباد الشعب الفلسطيني، وكون عصر الاستعمار قد ولى غير مأسوف عليه.

ومهما يكن من أمر فإن التغيير في السياسات الأميركية تجاه الدول العربية والإسلامية آت لا محالة، لكن السؤال يظل: بأي وجه سيأتي هذا التغيير؟ هل سيتم بناء على وعي الحكماء من الأميركيين بمخاطر الصدام القادم، وتخلي أميركا عن سياساتها المجحفة بالشعوب العربية والإسلامية؟ أم سيتم التغيير بارتفاع ثمن السياسات الأميركية المتحيزة حتى يصبح الاستمرار فيها مستحيلا، بعد استنزاف الكثير من الموارد، وإزهاق الكثير من الأرواح، تشبثا بخيارات خاطئة؟

الخيار الأول خيار أخلاقي، وهو ما نرغب فيه ونسعى إليه كمسلمين مقيمين في أميركا، تهمنا مصلحة الشعب الأميركي كما تهمنا مصلحة الشعوب العربية والإسلامية.

لكن الخيار الثاني وارد وعملي، وهو الخيار الذي دفع أغلب الإمبراطوريات الغربية إلى الانسحاب من مستعمراتها، بعدما أصبح ثمن البقاء فيها أعظم من أي ثمرة تجتنى منها.

وهو بكل أسف خيار يغري الأقوياء دائما. لقد قال وزير الخارجية الإسرائيلي في السبعينات أبا أيبان "إن الدول تنتهج دائما السياسات الصحيحة، لكن بعد أن تستنزف كل الخيارات الخاطئة" وهو أمر يصدق على السياسة الإسرائيلية والأميركية اليوم أكثر من سياسة أي دولة أخرى في العالم.


الحل ليس في قتل الكثيرين وأسر الكثيرين كما تفاخر وزير الدفاع الأميركي، لأن ذلك ليس مرادفا للنصر باعترافه, بل الحل هو الإنصات كثيرا للآخرين ورفع المظالم الكثيرة عنهم

إن أميركا تتعامل مع العالم العربي والإسلامي بأفق ضيق وأسلوب ذرائعي، بينما يكمن الحل في التعاطي معه بأفق أرحب ونظرة أكثر إنسانية. وبتبني هذه النظرة يستطيع الأميركيون أن يحافظوا على مصالحهم الإستراتيجية في المنطقة، من دون إجحاف بشعوبها، وبثمن أقل كلفة وأكثر أخلاقية.

فالحل ليس في "قتل الكثيرين" و"أسر الكثيرين" كما تفاخر وزير الدفاع الأميركي، لأن ذلك ليس مرادفا للنصر باعتراف الوزير نفسه، وكم ممن كسب معركة وخسر حربا. بل الحل هو الإنصات "كثيرا" للآخرين، ورفع المظالم "الكثيرة" عنهم.

وأول ذلك إنصاف الشعب الفلسطيني المكلوم، ورفع اليد عن الشعب العراقي الأبي دون تلكؤ، والتوقف عن دعم قادة يستعبدون شعوبهم ويمتهنون كرامتها، ثم لا يجدون لهم نصيرا أكثر حماسا من الولايات المتحدة، دولة الحرية وحقوق الإنسان، ووطن لنكولن وجيفرسون!! فقليل من الإنصاف والتواضع يغني عن إهدار كثير من الموارد في الدفاع عن سياسات جائرة.

أما بالنسبة للشعوب العربية والمسلمة فنقول ما كان يردده شاعر الهند العظيم رابندرانات طاغور "إن الإنجليز لم يحتلونا لأنهم أشرار، بل لأننا ضعفاء". وقد يكون في هذا القول مبالغة من شاعر كرَّمه الغربيون بأول جائزة نوبل في الآداب تُمنح لآسيوي، فأراد تبرئتهم من جرم استعباد شعبه.. لكنه قول فيه عبرة على أية حال.

فقد أراد طاغور لفت انتباه قومه إلى حقيقة على قدر كبير من الأهمية، وهي أن التغلب على جوانب القصور الذاتي هو السبيل إلى سد منافذ المطامع الخارجية، فالذي سيحرر الهند من وجهة نظر طاغور هو علاج ضعف الهنود، لا ترطيب قلوب الإنجليز. كما أن الذي سيحرر المسلمين اليوم هو قوة المسلمين وليس لعن الأميركيين.
_________________________
كاتب موريتاني مقيم بالولايات المتحدة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.