بالفيديو- في يوم الأم.. مريم تغني لأمها الصماء بلغة الإشارة

جمان أبو عرفة-القدس المحتلة 

كان يوم الأم أو عيد الأم هذا العام مختلفا بالنسبة لخلود سالم (36 عاما)، فقد تحققت أمنيتها بسماع أغنية عيد الأم التي حُرمت منها طوال أمومتها. لم تسمع خلود الأغنية بأذنيها، لكنها رأتها عبر أنامل ابنتها المتحدثة، حيث قامت مريم أبو رموز (18 عاما) بترجمة الأغنية إلى لغة الإشارة لتعايد أمها الصماء، مشيرة إلى طرف فمها المبتسم بإصبع السبابة قائلة "كل لغات العالم تنطق باسمك أمي".

في تلك اللحظة خانت لغة الإشارة الأم خلود، حيث انشغلت يداها بمسح دموعها المنهمرة فرحا وفخرا بابنتها التي نجحت بتربيتها لتكون أصغر مترجمة معتمدة للغة الإشارة في فلسطين، وصاحبة مبادرة "الأنامل المتحدثة" لتعليم لغة الإشارة.

لم يحل سفر خلود الحالي دون معايدة ابنتها لها من القدس عبر مكالمة مرئية، ودون ردها بقبلات هوائية ورسائل مكتوبة باستمرار إلى مريم لتخبرها بأشواقها.

فقدت خلود السمع في عمر السنتين بعد سقوطها على أذنها، لكنها استطاعت إكمال دراستها حتى الثانوية العامة في مدرسة داخلية للصم والبكم، وبدأت مشوارها الجامعي الذي انتهى مبكرا بسبب الصعوبات الدراسية وعدم توفر إمكانيات تعليمية تتماشى مع فئة الصم، لكنها لم تيأس والتحقت بدورات عديدة وانكبت على القراءة حتى أصبحت معلّمة في إحدى مدارس الصم.  

‪مريم أبو رموز أصغر مترجمة معتمدة للغة الإشارة في فلسطين‬ (الجزيرة)
‪مريم أبو رموز أصغر مترجمة معتمدة للغة الإشارة في فلسطين‬ (الجزيرة)

تحدي التربية
تحدثت خلود للجزيرة نت بلغة الإشارة التي ترجمتها مريم بصوت يرتجف غبطة. تقول خلود إنها عملت 14 عاما معلمة للصم والبكم، أنجبت خلالها مريم حيث كانت تأخذها معها لتتعلم لغة الإشارة، وتضيف أنها كانت دائمة التفكير حول تربية مريم وكيفية التواصل معها.

كان والد مريم أيضا من فئة الصم، فعمدت الأم إلى دمجها بأقرانها وأقاربها لتتعلم النطق، بعد أن غدت لغة الإشارة لغتها الأساسية ووسيلة تواصلها الوحيدة مع والديها إلى جانب لغة الشفاه.

كما تعزز نطقها بعد ذهابها إلى المدرسة وسعي أمها الدؤوب إلى إسماعها القرآن والأناشيد وقصص الأطفال والرسوم المتحركة.

تقول خلود إن المهمة كانت شاقة خصوصا مع تقدم الصفوف الدراسية وحاجة مريم لمن يدرسها، لكن مساندة الجدة عفاف سالم كان كبيرا حيث احتضنت مريم كأم ثانية لها وساندتها دائما.

حلمت خلود على الدوام أن تصبح ابنتها طبيبة أو مهندسة أو مترجمة، لتثبت لمن حولها أن الصم قادرون على تربية أطفال ناجحين، وقد تحقق حلمها فعلا، حيث غدت مريم سندا كبيرا لوالديها، وجسرا للتواصل بينهما وبين المجتمع.

‪مريم تدرس تخصص السمع والنطق في سنتها الجامعية الأولى‬  (الجزيرة)
‪مريم تدرس تخصص السمع والنطق في سنتها الجامعية الأولى‬  (الجزيرة)

نصيرة الصم
بعد انتهائها من ترجمة ما أشارت به أمها، قالت مريم للجزيرة نت إنها كانت تنزعج من نظرات الشفقة والسخرية وهي برفقة والديها، وأكثر ما آلمها وأشعل عزيمتها سؤال استنكاري لإحدى صديقاتها بالمدرسة حين كانت إلى جانب والدها الأصم قائلة "ألا تخجلين من والديك؟".

هذا الموقف ومواقف شبيهة دفعت مريم عام 2018 لإنشاء مبادرة "الأنامل المتحدثة" لتعليم لغة الإشارة للناطقين وإنهاء العزلة بينهم وبين الصم والبكم، حيث تضمنت المبادرة ترجمة سور من القرآن الكريم، وترجمة محاضرات وقصص وأغانٍ للغة الإشارة ونشرها على مواقع التواصل، بالإضافة إلى زيارات توعية دورية لطلبة المدارس من مختلف الأعمار.

تدرس مريم اليوم تخصص النطق والسمع في سنتها الجامعية الأولى، ورغم حداثة سنها فإنها حصلت على شهادة مزاولة المهنة في ترجمة لغة الإشارة من نقابة المترجمين الفلسطينيين، ما أهلّها للتدريس في عدة معاهد ومراكز وإعطاء دروس خصوصية في تلك اللغة.

كما عُينت كمترجمة رسمية إلى لغة الإشارة في معارض عديدة على مستوى الضفة الغربية والقدس المحتلة، إلى جانب تعيينها مترجمة معتمدة في المتحف الفلسطيني بجامعة بيرزيت شمال مدينة رام الله.

وقبل أسبوعين توّجت مريم بلقب "سفيرة الإنسانية" في مؤتمر "اصنع أملا" في مدينة دبي، حيث شاركت قبله في مؤتمرات ومسابقات عديدة حصدت فيها المركز الأول عن مبادرتها.

"كثيرا ما أصادف أشخاصا من فئة الصم لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم في الأماكن العامة ويهانون أحيانا، أريد أن أنهي هذا الأمر، نحن العائق في طريقهم لا هم، ينقصنا مترجمون في الأماكن العامة والحكومية، وينقصهم الاحتواء المجتمعي والتعليم اللائق"، تقول مريم وتروي حلمها بأن تصبح مترجمة عالمية وتفتتح مدرسة نموذجية للصم والبكم.

ترفض مريم مناداة فئة الصم والبكم بمصطلح "الأخرس والأطرش" وتقول إنهم ينزعجون من ذلك بقدر نظرة الاستهزاء والاستخفاف بهم وبمشاعرهم، مؤكدة أنهم ذوو قدرات عقلية عالية لكن بعضهم ذوو طباع حادة لعدم قدرتهم على التعبير عن أنفسهم.

وتختم ناظرة لأمها "يكفي أنهما استطاعا تربيتي وإيصالي لما أنا عليه"، ثم تبرز كفها مع إنزال إصبعي الوسطى والبنصر في إشارة تعني "أحبك"، تبادلها أمها الإشارة ذاتها وتنتهي المكالمة المرئية بينهما. 

المصدر : الجزيرة