بحثا عن عمل آمن.. مصريات يتخفين في ثوب الرجال

بحثا عن عمل آمن.. نساء يتخفين في ثوب الرجال (بيكسلز)
أربع حكايات لنساء تنازلن طواعية عن صفة أنثى من أجل البحث عن الكسب الحلال (بيكسلز)

شيماء عبد الله

النوع "أنثى"، هكذا سجلت بياناتهن في الأوراق الثبوتية الرسمية، لكن مظهرهن لا يعكس ذلك، فالملامح جادة والنظرات شديدة الصرامة، أما الزي فهو ثوب رجالي، ربما لم يسمعن من قبل ولن تمر في حياتهن مصطلحات كالجندرية أو النسوية، لكن الحياة اليومية واللهث وراء "لقمة العيش" للأبناء، والصراع من أجل البقاء، أمور طغت على تفكير كل من صيصة، وشريفة، ومروة، ولقاء.

أربع نساء من عوالم مختلفة، جمعتهن الحاجة والفكرة والثياب، كان كسب العيش رغبتهن العادلة، والزي الرجالي وسيلتهن التي استطعن بها تحقيق ما أردن، وسط عالم لا يزال يجد في عمل المرأة ما يهدر كرامتها.. أربع حكايات لنساء تنازلن طواعية عن صفة الأنثى من أجل البحث عن لقمة العيش.

42 عاما في ثوب الرجال
عاشت صيصة (62 عاما) في محافظة الأقصر (جنوبي مصر) معظم سنوات عمرها، منذ أن كانت طفلة ثم شابة متزوجة. وكعادات الصعيد في مصر، لم تكن تخرج من بيتها إلا لقضاء حاجاتها البسيطة، أو لزيارة الأهل. لكن، فجأة توفي الزوج وفي بطنها جنينها الوحيد، اعتصرها الحزن، لكنه لم يفقدها عزمها وقوتها، وكان قرارها بالخروج للعمل آخر شيء يمكن أن تجد من يشجعها عليه في البلدة الصعيدية، لكنها فعلت.

وإذا كانت قررت أن تخرج للعمل فعليها أن تبدو كما يبدو الرجال.. قصت شعرها، وأزالت عنها ما يزيدها من فتن الأنوثة، وارتدت ملابس زوجها وعباءته، ثم خرجت للعمل في صناعة الطوب.

42 عاما ارتدت صيصة خلالها ملابس الرجال، يدها بيدهم في كل شيء، سنوات من الشقاء والعرق، كانت نتيجتها زواج الابنة الوحيدة، لكن صيصة لم ترتح، فالزوج والأحفاد صاروا عبئا عليها من جديد، بعدما طال المرض الرجل الذي كان يفترض أن يكون سندا.

لكنها في هذه المرة لم تعد تقوى على حمل الطوب، فحملت صندوقا لتلميع الأحذية، وبنفس الملابس، افترشت أرضية أحد ميادين المدينة الأثرية، حتى وهن الجسد، وأصابتها الأمراض، فابتسم لها الحظ للمرة الأولى في حياتها، حين التقطتها عين الصحافة وانتشرت قصتها.

كُرمت صيصة من الدولة التي تكفلت ببيت لابنتها ومعاش لزوجها، وتكفلت إحدى الجمعيات الخيرية بكشك للسيدة التي عاشت في عباءة الرجال، وأخيرا تم تكريمها كامرأة وأم، لا كرجل مثلما عاشت معظم سنوات عمرها.

"المعلم" شريفة
في سوق الخضار بإحدى نواحي قرية الشيخ إبراهيم في قرية نجع حمادي بصعيد مصر، يقطع السوق شاب يافع بدراجة هوائية تحمل الخضار والفاكهة التي يبيعها للمارة.. يرتدي الشاب جلبابا أسود اللون وعمامة، وعلى وجهه ارتسمت ملامح الشدة والبأس، تجاورها ملامح حزن باهت، تقطعه فقط النظرات الحادة.. ينهمك الشاب الثلاثيني في بيع بضاعته، لكن الجميع تفاجؤوا حين ناداه الباعة الآخرون "يا شريفة".

لم يكن المعلم الشاب سوى فتاة في العشرينيات من العمر، ارتدت ثوب الرجال كي تخرج من عباءة الفقر.

شريفة أبو المجد عبد الباري، توفي والدها العامل الفقير، تاركا إياها مع أمها العجوز وأخت مريضة ومعاش شهري لا يتجاوز 500 جنيه (32 دولارا)، لا يكفي مصروفات الأدوية الشهرية، بل لا يكاد يكفي أي شيء.

ثلاث سنوات كانت فارقة بين وفاة الأب وموت الأم بعده، أضحت شريفة هي المسؤولة عن شقيقتها، فلم تجد سوى ثوب الرجال تتخفى فيه عن أنظار الناس، وتصبح "المعلم شريفة"، وسط مجتمع يرفض عمل المرأة واختلاطها بالرجال، لكنها فرضت نفسها وسط السوق بالعباءة الرجالية وكثير من الحزم.

فتاة محطة الوقود
انتقلت مروة رضوان -الفتاة العشرينية- من بلدتها في السويس إلى القاهرة لاستكمال دراستها، لم يكن الأمر صعبا في البداية، لكن بمرور الوقت زادت أعباء الحياة على فتاة وحيدة غيّرتها حياتها في القاهرة، وحولتها من أنثى خجولة تخشى مواجهة الناس، إلى أنثى لا يثنيها شيء عن عزمها.

لم يكن اختيار مروة للعمل في محطة بنزين أمرا شائعا، فالمحطات للرجال فقط، لكنها لم تعبأ بذلك، وتحدت القواعد من أجل كسب العيش الحلال، وهي تختلف عن صيصة وشريفة في كون الزي الرجالي الذي ترتديه ألزمتها به محطة الوقود.

عاملة في محطة وقود، وعاملة لتوصيل الطلبات، وصبي في مقهى.. رفضت مروة احتكار الرجال لبعض الأعمال، وتركت بصمتها الحقوقية في مبادرتها "الشغل مش عيب"، قبل أن تحصل على ماجستير في علم دراسة البشر وسلوك الإنسان (أنثروبولوجيا).

الأسطى لقاء
في سنتها الرابعة عشرة، بدأت لقاء الخولي تتبع والدها في ورشته. الأسطى لقاء، ذلك هو اللقب الذي أثار شغفها منذ أن سمعت أصحاب السيارات ينادون أباها به.

شبت لقاء في مجتمع صعيدي سمح لها ولأخواتها الأخريات بالتعلم، لكنه لا يسمح بنفس السهولة بعمل الفتيات في مهنة رجالية بامتياز.

غير أن لقاء لم تيأس.. راقبت الأب وساعدته، صارت كتفه الذي يستند إليه، وعصاه التي يهش بها على من يتقولون عليه أنه لم ينجب ولدا.

عرفت لقاء أسرار المهنة، وبعد حصولها على دبلوم التجارة، ارتدت بدلة الميكانيكي، وحصلت على أول لقب تحمله في المهنة الشاقة، فقد صارت "الصبي" المساعد الذي يتشرب فنون إصلاح السيارات حتى يتمكن منها.

لم يمر وقت طويل حتى توفي والد لقاء، وصار "الصبي" هو الأسطى المسؤول عن الورشة وعن البيت، وصارت أصغر الفتيات عائل الأسرة التي شاء قدرها أن تخلو من الرجال، لكن الله منحهم "الأسطى لقاء".

المصدر : الجزيرة