بالريشة والحنين.. اللبنانية سلمى داغر تحمي البيت التراثي من فوضى الإسمنت

الفنانة التشكيلية ليلى داغر في محترفها – عبرّت عن نوستالجيا كبيرة للبيوت الاثرية في بيروت- جزيرة نت.
التشكيلية ليلى داغر: هدفي المحافظة على ما تبقى من البيوت الأثرية على امتداد الوطن (الجزيرة)

                                                                    لاريسا صليعي-بيروت

ليلى داغر من الفنانات اللبنانيات المولعات بمدينتهن. أحبت بيروت، وعاشت تطوراتها وانقلاباتها وتغيرات أحيائها وأزقتها وشبابيك بيوتها وبواباتها الجميلة.

في محترف التشكيلية ليلى، ركن خاص لمعرض عبرت فيه عن "نوستالجيا" (حنين للماضي) للبيوت الأثرية من خلال مجموعة رسومات، هذا الشوق الكبير للبيوت القديمة والأثرية، جاء صداه مدويا كأنه جرس إنذار يُقرع بالألوان والخطوط من أجل هدف واحد هو "المحافظة على ما تبقى من هذه البيوت الأثرية على امتداد الوطن" تحت عنوان "ذاكرة وتراث بيروت".

تمّكنت ليلى من نقل أفكارها بريشتها، معبرةً عن توقها لبقاء البيت التراثي وخوفها من أن يصير ذكرى خالدة في لوحاتها فقط. فكيف نوقف مجزرة التغيير المُستهدِف لذاكرة المدينة وتراثها الجميل؟

سؤال كامن في اللوحات، ولا تتحدث ريشتها عن موضوع آخر، فهذا همها الأول وهدفها هو إبراز رسالة وطنية مناهضة لهدم البيوت التراثية في بيروت وتهديد ديمومتها.

‪لوحة للتشكيلية ليلى داغر تعكس قلقًا وخوفا من تغيير وجه العاصمة بيروت وضواحيها‬ (الجزيرة)
‪لوحة للتشكيلية ليلى داغر تعكس قلقًا وخوفا من تغيير وجه العاصمة بيروت وضواحيها‬ (الجزيرة)

الأبنية التراثية تجمع مأساة العصرنة
تنظر ليلى إلى إشكالية مصير الأبنية التراثية، وترى أن "حفظها لا يقتصر على حفظ حجرها وبنائها، إنما الحفاظ على الهوية اللبنانية".

تتّسم أعمالها في المعرض بمشاهد للأبنية بصورة انطباعية وألوانٍ شفافة، لكنها محفوفة بالفوضى والاضطراب، بخطوط متداخلة كأنها تتصارع فيما بينها.

أعمال ليلى متقاربة الأحجام المتوسطة، تظهر في وسطها البيوت التراثية، تحفّ بها فوضى الحداثة، ويتكرَّر المشهد حتى تضيق ليلى ذرعا بالمأساة، فتلجأ إلى تقنية مُتجدّدة بلوحات طويلة بانورامية قليلة العرض، تجمع فيها كل مأساة العصرنة المهددة للتراث.

صرخة خوف من تغيير لبنان وسط فوضى الخرسانة
في أعمالها انتقاد لما آلت إليه الحال البيروتية بروحٍ تجمع الحسرة والمأساة بالسخرية. وتجلى إبداع ليلى في لوحات حملت روح مدينة بيروت، بتراثها ونظامها وفوضاها وجمالها وجنونها وألمها وأملها.

ليلى الأستاذة الجامعية التي ترسم بريشة مهنيتها الطريق للعشرات من الطلاب سنويا، حملت معها صرخة صادقة نابعة من حس وطني وخوف جماعي من تغيير ملامح لبنان وسط فوضى "الباطون" (الخرسانة)، التي فرضت نفسها علينا دون أي استئذان.

ليلى أطلقت جرس الإنذار في لوحات عدة، وتمنت عبر أعمالها إحياء التراث المهدد بالانقراض، وتأسفت لما آلت إليه الحال البيروتية، ولم تجد من المسؤولين أي ردود فعل أو قرارات حاسمة لحماية الأبنية التراثية، رغم أن توقف السوق العقارية في السنوات الفائتة خففّ من تدمير الأبنية التراثية.

‪
‪"حب بيروت" عكسته ليلى داغر في لوحة تظهر ضجيج العمران الحديث‬ (الجزيرة)

لكل لوحة حكاية ورسالة واضحة
"حب بيروت" عكسته ليلى في لوحة فيها ضجيج العمران الحديث. لجأت للتعبير عن "ثقل" هذا الضجيج بمزيج ألوان صارخة تجريدية تحيط ببيت تراثي "صامد"، وعلى يمينه بنايات شاهقة حديثة "دخيلة" على النمط العمراني اللبناني تشق طريقها إلى جانب البيت التراثي.

لوحة "بحبك يا بيروت" أو "حب بيروت" تعكس قلقا ينتابنا من تغيير وجه العاصمة بيروت وضواحيها رأسا على عقب من خلال فرض نمط عمراني خال من أي مقاربة تنظيمية عمرانية لمفهوم البناء المناسب لبيروت وأهلها.

وتأتي لوحة "مكونات البيت" من وحي القضية، فمجرد لجوء ليلى لرسم البيت التراثي وفرض مكانته في قلب اللوحة يوضح المخاطر المحيطة بهذا البيت، والدليل أنها عمدت لرسمه محاطا بأبنية حديثة تم استحداثها دون أي تخطيط هندسي يتلاءم مع البيت التراثي ومحيطه.

وتعكس لوحة "ذكريات" اللون الأحمر الممزوج ببعض الألوان القوية كالبرتقالي الذي يعكس الخطر والخوف على البيوت التراثية المنسية وسط الضجيج العمراني وصخب التجارة. وهذا ما بقي في الذاكرة.

وتحمل لوحة "بيروت الجميلة" معها الدمعة والشوق والحسرة لبيروت الجميلة، تعمدت ليلى رسم بقعة أرض صغيرة الحجم مهملة ومحاطة بجوانب مصدعة من الطريق ذاته، مما يجعل الوصول إلى الأبنية التراثية صعبا وليس مستحيلاً.

وتعبر لوحة "نوستالجيا" عن أهمية التراث، وتلخص الحال العشوائية للعمران وخوفها من خطر زوال البيت اللبناني، الخوف الحقيقي من الخرسانة الحديثة التي تهدد بزوال الأصالة في بيروت.

‪الباحثة سمر كنفاني: الألوان القوية تعكس الخوف على البيوت التراثية وسط الضجيج العمراني وصخب التجارة‬ (الجزيرة)
‪الباحثة سمر كنفاني: الألوان القوية تعكس الخوف على البيوت التراثية وسط الضجيج العمراني وصخب التجارة‬ (الجزيرة)

هل تخسر بيروت هويتها العمرانية؟
من جهة أخرى، لا توجد إحصائيات أو أرقام دقيقة عن عدد البنايات التراثية التي لا تزال في بيروت، لكن دراسة أجريت عام 1997 ذكرت أن عددها بحدود 572 مبنى، ورغم أن الدراسة غير مكتملة، تؤكد المعمارية والناشطة اللبنانية المعروفة بالدفاع عن تراث بيروت منى الحلاق أن 150 على الأقل من هذه الأبنية فُقدت منذ إجراء هذه الدراسة.

أما الباحثة والمتخصصة في العدالة الاجتماعية والمدن سمر كنفاني من معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية، فأجرت بحثا تفصيليا عام 2019 في الجامعة الأميركية، أكدت فيه أنه في العام 1999 كان هناك رصد لحوالي 500 معلم من الأبنية التراثية، لكن في العام 2010 لم يبق منها إلا 250 مبنى.

وتضيف سمر أنه في العام 2019 لم يتبق من "بيروت القديمة" إلا 200 بناية تراثية، وهذا دليل يثبت الخطر المحدق بمصير الأبنية التراثية في بيروت، مع استمرار هدمها واستبدالها بالأبنية الشاهقة، في تشويهٍ متعمّد لتراث العاصمة اللبنانية وصورتها الجميلة، فضلاً عن غياب القوانين الرادعة بحق المخالفين والمستثمرين.

المصدر : الجزيرة