نفيسة البيضاء.. جارية ملكت قلوب المصريين وحكمت من وراء ستار

نفيسة البيضاء
نفيسة البيضاء حياة حافلة بالأحداث ووفاة غامضة (مواقع التواصل)

شيماء عبد الله

بياض لم يزل يذكر في الحي القديم، اسم يتردد رغم رحيل صاحبته، اختارت أن تبقى بسبيل وكتاب، لكن تشاء الأقدار أن يخلد اسمها على وكالة الشمع، في حي الغورية بالقاهرة الفاطمية.

الجارية نفيسة، بيضاء كالشمع، تلك هي صفتها التي عرفت بها، حتى أضحت سيرة يحكيها أهالي المحروسة عن أم المماليك، الجارية البيضاء التي أتت من بلاد الشراكسة، ليهيم في حبها الرجال.

لم يكن الجمال فقط هو الهبة الإلهية الوحيدة، لكن حازت ذكاء استطاعت به أن تسير أمور دولة المماليك، منذ عهد علي بك الكبير زوجها الأول وحتى عهد خورشيد باشا، آخر ولاة العثمانيين على مصر الذي أنهى أسطورة الحسناء قاهرة الرجال.

من جارية إلى سيد القصر
في بدايات القرن الثاني عشر من الهجرة، جاءت الجارية الحسناء إلى مصر، لا أحد يعرف جنسيتها الحقيقية، شركسية ربما، أو جورجية، لكن علامتها المميزة أنها بيضاء صهباء، حكى عنها عبد الرحمن الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، استطاعت أن تأسر قلب علي بك الكبير، صرعته بجمالها وسطوتها، فتحولت الجارية إلى زوجة، تأمر فتطاع، تتمنى فتتحقق الأمنيات، فتنت رجل طائفة المماليك الشراكسة الأول، الذي لم يكن يشغله سوى مشروعه استقلال مصر.

لكن الجارية الحسناء سلبته عقله وفؤاده، فبنى لها قصرا في حي الأزبكية، كانت تتقن الشعر بالعربية والتركية، ويقال إنها أتقنت الفرنسية أيضا.

مؤامرة كبرى قضت على حلم علي بك، قتل الزوج الأول في الشام، في العام 1773، بعد أن وهبها ثروته.

ثمن المؤامرة كان النفيسة، فقد كان الفوز بها هو الثمن الذي تعهد به المملوك محمد بك أبو الدهب، لمراد بك، لكي يشاركه في الانقلاب على الرجل الأول، بحسب الجبرتي.

الزواج من القاتل
مراد بك، كان الزوج الثاني في حياة نفيسة، واقترن اسمها باسمه فصارت نفيسة المرادية، وفي كتابه "دراسات في تاريخ الجبرتي"، يذكر مؤلفه محمود الشرقاوي أن التاريخ به من المفارقات ما يعجب الإنسان عن تصوره، فبقدر ما كره المصريون مراد بك بسبب أفعاله، فكما ذكر الجبرتي "كان يأخذ من غير حقه ليعطي غير مستحقه"، كانت نفيسة على العكس من ذلك، امرأة هام في حبها المصريون، فقد كانت دوما القلب الذي يرشد مراد بك للحق، كانت تعطي الفقراء، وتجير المستضعفين، تعارض فرض الضرائب، ونزعه للأملاك الخاصة.

كانت البيضاء امرأة ذات سيادة مستقلة على أموالها، وذاع صيتها بالغنى وامتلاكها القصور والجواري، وعطائها للمحتاجين، من باب زويلة كانت تدير نفيسة أعمالها من وكالتها، التي أطلق عليها اسمها، واستمرت حتى اليوم.

سبيل البيضاء
لم تنس البيضاء المصريين من ريع تجارتها، فمنحتهم سبيلا للسقاية وكتابا للتعليم، كانوا يجاورون وكالتها، وعلى باب سبيل البيضاء لا تزال نقوشه تحكي عن صاحبته:

سبيل سعادة ومراد عز .. وإقبال لمحسنة رئيسهْ
يسرك منظر وبديع صنع .. وتعجب من محاسنه الأنيسهْ
جرى سلساله عذب فرات .. فكم أحيت به مهجا بئيسهْ
نؤرخه سبيل هدى وحسن .. لوجه الله ما صنعت نفيسهْ

لا تزال تركة البيضاء في القاهرة الفاطمية كما هي، السبيل والمدرسة القديمة في حماية وزارة الآثار المصرية، أما الوكالة فلم تزل تحمل اسم "البيضا"، لكنها صارت "وكالة البيضا" للشمع.

كان لنفيسة البيضاء علاقة خاصة بالحملة الفرنسية، فبعد عشرين عاما قضاها مراد حاكما على مصر، لاحت في الأفق حملة نابليون وجنوده لاحتلال مصر، ورعاية مصالح الفرنسيين، التي يهددها مراد بك، بضرائبه وجبروته.

‪لوحة
‪لوحة "سيدة تستقبل الضيوف" (الاستقبال) للرسام الإنجليزي جون فريدريك لويس‬ (مواقع التواصل )

الحكم من وراء ستار
حكت الكتب والمراجع التاريخية عن الجبرتي، وعن الحملة الفرنسية، أنه رغم الحرب التي دارت بين مراد بك وبين نابليون في الجيزة ثم البحيرة، ثم هروب مراد إلى الصعيد واستمرار المواجهات بينه وبين بونابرت، فإن نفيسة حافظت على علاقة ودودة مع الجنرال الفرنسي، حتى أنها كانت تسمح بعلاج الجنود الفرنسيين في قصرها، واستضافت بونابرت في قصرها على مأدبة فخمة للعشاء، وأهداها حينها ساعة مرصعة بالألماس.

وحين ألف ديجنت طبيب الحملة كتابا عن مصر، أهداها خمسين نسخة منه، لكن كل ذلك لم يمنع نابليون من أن يفرض عليها فدية مليون فرنك للاحتفاظ بممتلكاتها والباقي من ثروتها، لكنه حين غادر مصر أعلن أنه سيظل صديقا للأبد لهذه المرأة، ومن قصره الإمبراطوري في باريس كان يرسل للقنصل الفرنسي أن يبقى في خدمتها وطوع أمرها.

بعد وفاة مراد بك بالطاعون في الصعيد، تزامنا مع خروج الحملة الفرنسية من مصر في عام 1801، لُقبت نفيسة في ذلك الوقت بـ"أم المماليك"، لأنها استطاعت أن تحظى بحماية البريطانيين الذين أتوا بحملة فريزر لفترة قصيرة، ثم تهادنت مع العثمانيين لحماية المماليك وأسرهم الذين عادتهم الدولة العثمانية.

تزوجت البيضاء في تلك الفترة من المحتسب على أموال مصر، إسماعيل بك، الذي كان يساعدها في جمع المساعدات للمماليك، حتى قضى نحبه في معركة المماليك البحرية. 

حياة عامرة بالأحداث والزيجات والرجال، والعلاقات والحروب والمهادنات، عاشتها البيضاء، لكن نهايتها لم تكن أبدا مثل بدايتها، فكما كل امرأة قوية حكمت من وراء ستار، أتت نهاية نفيسة بعد اتهام الوالي أحمد خورشيد، الوالي العثماني، لها بالخيانة والتدبير لقلب نظام الحكم، لم تخش نفيسة شيئا ووقفت في قلعته وواجهته قائلة "نفيسة يعرفها الجميع، سلطانك ورجال دولتك ونساؤها يعرفونني، حتى الفرنسيون أعداؤك وأعدائي يعرفونني ويقدرونني، ولم أر منهم إلا التكريم والاحترام، أما أنت فلا يوافق فعلك فعل أهل دولتك ولا غيرهم".

اعتقلت نفيسة، وحين حاولت الهرب من محبسها في بيت السحيمي، قبض عليها ليزيد هوانها وعذابها، حتى نسيها الناس، وماتت دون أن يعرف أين دفنت ولا كيف انتهت حياة النفيسة البيضاء.

المصدر : الجزيرة