مقابر الجيوش الأجنبية في بغداد.. شواهد حية للتاريخ

شواهد قبور لجنود عثمانيين في المقبرة المخصصة لهم
شواهد قبور لجنود عثمانيين في المقبرة المخصصة لهم (الجزيرة)
الجزيرة نت-خاص

حين تسير في أزقة وشوارع بغداد القديمة ستقابلك قبور ومزارات يعود بعضها لعلماء و"أولياء صالحين"، أو ربما لزعماء وقادة، لكنك ستشاهد أيضا مقابر لجنود أجانب حاربوا وقتلوا على هذه الأرض.

ويتفاوت شعور الأهالي تجاه هذه القبور؛ فالبعض ينظر إليها بكثير من التوقير والاحترام، وآخرون يعدونها من مخلفات "الغزاة"، وبالإضافة إلى ما تتركه هذه المقابر من رمزية تاريخية فإنها تشير إلى المطامع الدولية في العراق.

وأشار أستاذ التاريخ في الجامعة العراقية عمار مرضي إلى حجم التنافس الدولي الذي مرت به البلاد، التي كانت عبر التاريخ ممرا للجيوش وعقدة وصل بين الشرق والغرب.

‪جانب من مقبرة الشهداء العرب كما تعرف محليا التي دفن فيها الكثير من المقاتلين إبان الاحتلال الأميركي‬ (الجزيرة)
‪جانب من مقبرة الشهداء العرب كما تعرف محليا التي دفن فيها الكثير من المقاتلين إبان الاحتلال الأميركي‬ (الجزيرة)

وقال مرضي إن هذه المقابر ما زالت تحظى برعاية واهتمام سفارات هذه الدول، حيث تعد هذه الأرض تابعة لها وفقا للقانون الدولي، لأن الاتفاقيات التي توقع قبل إقرار دستور أي دولة فإنها تصبح نافذة وملزمة لها، مشيرا إلى أن البعض ما زال ينظر إليها كرمز لما يعدونه وصاية على العراق ومطامع لا تزال حية حتى اليوم، على حد قوله.

المقبرة العثمانية
في منطقة باب المعظم، وبالقرب من المجمعات الطبية لجامعة بغداد تقع المقبرة العثمانية، وتبدو أشبه بمتنزه يمتلئ بالأشجار الضخمة، وهي محاطة بسياج عال وبوابة كبيرة تعلوها لافتة كتب عليها باللغتين العربية والتركية "مقبرة الشهداء الأتراك"، وتضم بين جنباتها شواهد لقبور جنود عرب وأتراك وأكراد كانوا يحاربون مع العثمانيين، قتلوا أثناء محاولتهم صد تقدم القوات البريطانية باتجاه بغداد في بدايات القرن العشرين.

وتحظى المقبرة برعاية السفارة التركية، ويرتفع فوقها العلم التركي، ويزورها بين الحين والآخر وزراء ودبلوماسيون أتراك وأجانب، لا سيما في 18 مارس/آذار كل عام، الذي يوافق ما يعرف عند الأتراك "بيوم الشهيد"، لكن الاحتفال في هذا المكان توقف بعد تدهور الأوضاع الأمنية وتوتر العلاقات مع تركيا.

وذكر حارس المقبرة طه إبراهيم أن زيارات المسؤولين الأتراك للمكان توقفت، وأضاف أن القبر الحقيقي الوحيد الموجود في هذا المكان يعود لجندي عثماني اسمه عثمان، لكن الأتراك بنوا هذه الشواهد وكتبوا عليها أسماء ضحاياهم تخليدا لذكراهم.

بوابة المقبرة البريطانية التي تضم جنودا من جنسيات مختلفة كانوا يقاتلون في صفوف الجيش البريطاني (الجزيرة)
بوابة المقبرة البريطانية التي تضم جنودا من جنسيات مختلفة كانوا يقاتلون في صفوف الجيش البريطاني (الجزيرة)

وفي منطقة الوزيرية ثمة مقبرة زالت الكثير من معالمها، وأصبح جزء منها ملعبا للأطفال، إنها المقبرة البريطانية أو "مقبرة الإنكليز" كما تعرف محليا، وتضم رفات مئات الجنود البريطانيين والأستراليين والهنود وغيرهم، ممن كانوا يقاتلون في صفوف الجيش البريطاني، وممن دفن في هذه المقبرة الجنرال ستانلي مود الذي كان قائد الحملة البريطانية على بلاد الرافدين، وغيرتورد بيل الشهيرة بالـ"مس بيل" وكانت مستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق.

جنود الإمبراطورية
ورغم أن المقبرة تضم جثامين جنود الإمبراطورية التي كانت "لا تغيب عنها الشمس"، فإنها تعاني اليوم من الإهمال، ومعظم شواهد قبورها ممحوة ومتصدعة بفعل الظروف المناخية القاسية، وتعرضت لأضرار كبيرة عام 2009 عندما ضربت سيارة مفخخة مبنى السفارة التركية المجاورة لها، بالإضافة إلى تعرضها لسقوط قذائف هاون وصواريخ، لكن لجنة حكومية بريطانية زارتها منذ سنوات وقررت ترميمها "تكريما لجنود الإمبراطورية البريطانية".

وتكتسي بعض هذه المقابر بطابع القداسة لدى السكان وينظر إليها بكثير من التبجيل، كما هي الحال مع "مقبرة الشهداء العرب" في الأعظمية، التي تقع بالقرب من ضفة دجلة الشرقية.

وقال أبو ليث، وهو أحد جيران المقبرة، إن سكان المنطقة يزورونها كل فترة لقراءة الفاتحة والدعاء لأصحابها، مضيفا أن الراقدين هنا متطوعون عرب قتلوا على يد الجيش الأميركي أيام الاحتلال الأولى، ومنهم سوريون وفلسطينيون ويمنيون وغيرهم، إلا أن عدد القتلى العراقيين فيها اليوم يفوق الجنسيات الأخرى، لا سيما الذين دفنوا أيام الاقتتال الطائفي.

وكثيرا من تشاهد أثناء مرورك بالمقبرة عائلات كاملة أتت لتزور أبناءها الذين يرقدون هنا و"قراءة الفاتحة" على أرواحهم، كما تفعل شيماء العزاوي التي تزور قبر ابنها الذي اغتيل عام 2007 ولم يستطيعوا دفنه وقتها في مقبرة العائلة فووري التراب هنا، وهي تقول إنها التقت أكثر من مرة في هذا المكان بعض أهالي القتلى العرب، الذين جاؤوا ليزوروا أبناءهم المدفونين هنا، في مشهد يثير الكثير من مشاعر الحزن والمرارة، لكنه يشير أيضا إلى وحدة مصير بين شعوب فرقت بينها السياسة ووحد بينها الموت من أجل قضية واحدة.

المصدر : الجزيرة