صور القيود والأقفال حية بذاكرة طفل فلسطيني محرر

الأسيرة منال غانم وطفلها نور في غرفة الاسر في السجن الاسرائيلي قبل اطلاق سراحه بعد اتمام عمره العامين

الأسيرة منال غانم وطفلها نور في غرفة الأسر قبل إطلاق سراحه (الجزيرة نت)

 
لا تزال صور القيود والأقفال والسلاسل المعدنية في مخيلة الطفل نور غانم ابن الأسيرة منال غانم التي وضعته قبل عامين ونصف في السجن حيث عاش معها إلى أن فصلته السلطات الإسرائيلية عنها، فهو يحاول اكتشاف عالمه الجديد بدهشة دون أن يتوقف حنينه الدائم إلى بيته الأول وهو زنزانة أمه التي شكلت العالم الوحيد لطفولته.
 
الطفل نور الذي أتقن وببراعة لغة السجان وكأنها حفرت في عقله ويتصرف كالأسيرات، كان قبل أيام قصة لفيلم سينمائي بعنوان "الصورة الأولى"، من إخراج السينمائي الفلسطيني أكرم الأشقر.
 
ويبين الفيلم مدى تعلق نور بكل ما يمت إلى السجن بصلة، فهو يحرص على اقتناء الأقفال والسلاسل المعدنية وإغلاق الأبواب، ويردد ما يتكلمه "الشوتير" والسجان والأسيرات اللواتي يواجهن الاضطهاد، وينظر إلى البيوت والحقول والمدارس والأشخاص نظرة غريبة، وذلك بعد فصله عن والدته تطبيقا للقانون الإسرائيلي الذي بموجبه يخرج الأطفال من السجن بعدما يتموا الثانية من عمرهم.
 
شهادات من عايشه
من جانبها سردت الأسيرة المحررة ملك الخنفا للجزيرة نت جزءا من حياتها التي عايشتها في القسم الذي كان فيه الطفل نور غانم، مؤكدة أن الفيلم عرض جانبا بسيطا من رحلة العذاب والقهر والمرض التي عايشها هذا الطفل نتيجة الإهمال الطبي واستنشاقه الغاز والقمع الذي عايشه.
 
وأوضحت الخنفا أن الأسيرات أصبحن يخشين على نور أن يتقمص صورة السجان وأن يرسخ صلفه وظلمه في ذهنه، مبينة أنه كان يصرخ على الأسيرات كالسجانين ويغلق الأبواب عليهن، مؤكدة في ذات الوقت أنه اعتاد بشكل كبير على تصرفاتهن، مفضلة خروجه من السجن على أن ترسخ في ذهنه أفكار السجان رغم ألم الفراق والبعد عن والدته.
 
صعوبة التأقلم
وأكد والده ناجي نور للجزيرة نت أنه يعاني كثيرا في إقناع ابنه بأن يتعامل مع المحيط الخارجي طبيعيا "فكل شيء عنه غريب، ومنذ أن أفرج عنه لم يقترب مني أو من أشقائه إلا مرات قليلة، بدا أكثر قربا من أخته لأنها بنت وتشبه أمه".
 
وبعدما يكتشف غياب أمه وأنه أصبح في عالم آخر، يبدأ بالبكاء والصراخ: وين "منال"؟ كما تخاطبها بقية الأسيرات، فالحياة خارج السجن غير مألوفة له، ووجود نور مع والده وأشقائه لا يعني إلا المزيد من التوتر لطفل ولد في السجن وسط عالم من النساء، فهناك أمه والمعتقلات والسجّانات، ورفيقة قيده ولعبه في الأشهر الأخيرة الطفلة عائشة الهودلي، ولا وجود للرجال أو الوجوه الغريبة إطلاقاً.
 
من جهتها قالت أريج غانم عمة نور التي تحاول الاقتراب منه لتعويضه رعاية الأم الغائبة وراء القضبان وحنانها، إن ابن شقيقها لا يتوقف عن السؤال واكتشاف الأشياء ومقارنتها مع الصور المتخيلة في ذاكرته الصغيرة، "هذه سيارة، وهذه شجرة، وهذه وردة.. يقول نور عن الأشياء التي يراها للمرة الأولى في الواقع بعدما اعتاد مشاهدتها في الصور فقط".
 
وأضافت "ما زال نور يعيش السجن في كل خطوة من خطواته في بيته الجديد ومع عائلته الجديدة، فهو يجوب المنزل كأنه سجن، يطلب المفاتيح ويأخذ بإغلاق الأبواب الواحد تلو الآخر، يسأل عن أمه منال، ويسأل أين البنات يقصد الأسيرات، وما إن يسمع صرير باب حتى ينطق بكلمة "حشبونيت" (ومعناها بالعربية عدد)، وهي الكلمة التي يطلقها السجانون الإسرائيليون عندما يدخلون زنازين السجن لإحصاء الأسيرات ثلاث مرات في اليوم".
 
مرحلة فقدان
من جهة ثانية أبدى الدكتور النفسي محمود سحويل قلقه على الطفل غانم، وقال إن "الزنزانة بالنسبة لنور أمر طبيعي، وهو لم يتعرض للعالم الخارجي منذ ولادته، ويعيش الآن مرحلة الفقدان، أي فقدان عزيز لديه".
 
وأكد سحويل للجزيرة نت الذي يدير مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب في مدينة رام الله "أن الطفل يعرف أن أمه موجودة ويعلم أن محيطه اختلف، وهذا صعب، لذلك يحتاج إلى وقت طويل حتى يعتاد على غيابها، وهذا يعتمد على الجو الذي سيعيش فيه".
 
وأضاف "سيؤثر وجود نور خارج المحيط الذي عاش فيه والوجوه التي اعتاد أن يراها على نمو الطفل النفسي، ومن الممكن عندما يكبر أن يعمد إلى ممارسة سلوك عنيف كالسلوك الذي تعايش معه داخل السجن، وبنفس الأسلوب الذي كان يتعامل به السجانون الإسرائيليون مع الأسيرات من حوله".
المصدر : الجزيرة