كيف تعبر الأربعين.. سن التحولات الكبرى

مراحل تطور نمو الإنسان
مراحل تطور نمو الإنسان

إذا أردت أن تعرف كم تبلغ من العمر فما عليك إلا الذهاب إلى مقهى فرنسي. سيكون الأمر هناك كالاستفتاء العام حول ملامح وجهك. كتبت ذلك باميلا دروكرمان بصحيفة "نيويورك تايمز".

فعندما ذهبتُ أنا إلى هناك -والحديث للكاتبة باميلا- في الثلاثينيات من عمري كان النُّدل يدعونني "مدموازيل"، لكن عندما أصبحت في الأربعينيات تغيّرت التحية وبشكل جماعي إلى "مدام". وكانت هذه "المدامات" بداية الأمر مترددة وتجريبية ومتفرقة، لكنها سرعان ما ترسخت وتعززت.

كان هذا التغيّر يغضبني أحيانا، وكنت أتساءل بيني وبين نفسي: هل هؤلاء الندل يجتمعون بعد العمل ليتفقوا على من يمطرونها بالكلمات التي ستغضبها؟

الجرح النفسي
الجانب الأسوأ في تعامل الندل هو محاولاتهم لأن يكونوا مهذبين معي. فهم يعتقدون أنني على قدر من العمر يمنع أي احتمال لإصابتي بجرح نفسي في حالة مناداتي بهذه الألقاب.

عندما مررت بإحدى المتسولات في الشارع حيّتني بـ"صباح الخير مدام"، بينما حيّت قبيل ذلك شابة كانت ترتدي تنورة قصيرة بـ"صباح الخير مدموازيل"، وحينها تيقنت أن شيئا ما قد تغيّر إلى الأبد.

حدث ذلك بأسرع من قدرتي على الإدراك.. ما زلت أستخدم أغلب الملابس التي كنت أرتديها عندما كنت "مدموازيل"، كما أن هناك علب طعام في مخزن الأطعمة تعود إلى فترة "المدموازيل".

العالم أيضا ظل يقول لي إنني دخلت مرحلة جديدة، فمرة عندما كنت أتمعن في وجهي داخل مصعد جيّد الإضاءة، وصفته ابنتي دون مجاملة أو رحمة قائلة "ماما، أنت لست عجوزا، لكن من المؤكد أنك لست شابة".

العقد الأفضل
ما هو بالضبط هذا الذي ليس شابا؟ لقد سمعت أشخاصا في العشرينيات من أعمارهم يصفون من بلغوا الأربعينيات بأنهم المسنون الذين يندمون على أشياء لم يحققوها. لكن المسنين الذين تجاوزوا الأربعينيات يعتبرونها العقد الذي يتمنون أن يعودوا إليه أكثر من أي عقد آخر في حياتهم.

وتساءل عالم الأنثروبولوجيا ستانلي برانديس الذي ألف كتابا عام 1985 عن بلوغ الأربعينيات مرة "كيف أمكنني التفكير في أنني أصبحت مسنا عندما بلغت الأربعينيات؟ والآن أقول: يا إلهي، كيف كنت محظوظا آنذاك! إنني اليوم أرى تلك الأربعينيات بداية الحياة، لا بداية النهاية".

ويقول الاقتصادي أندرو سكوت إن الأربعينيات لم تعد من الناحية العلمية هي منتصف العمر، فالشخص الأربعيني حاليا لديه احتمال 50% بأن يبلغ الـ95 عاما.

الرقم 40
كذلك للرقم 40 أهمية رمزية، فقد صام نبي الله عيسى عليه السلام 40 يوما، وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد بلغ الأربعين عندما أتاه الملك جبريل، وتاه بنو إسرائيل في الصحراء 40 سنة، وقال برانديس إن الأربعين تعني في بعض اللغات "الكثرة".

وسن الأربعين تعطيك إحساسا بأنها أهم سنوات العمر. وكان كاتب بريطاني في السبعينيات من عمره قال لي إن "الأربعينيات هي العمر الذي تصبحين فيه مساوية لذاتك. وإذا لم تتعلمي في ذلك العمر، فلن تتعلمي أبدا".

الأربعينيات هي الأكثر تعقيدا بين عقود العمر كلها، ففيها نستطيع لأول مرة فك شفرة ديناميات العلاقات بين الأفراد، لكننا نفقد القدرة على تذكر رقم من خانتين، وتصبح فكرة حشوات البوتوكس من الأفكار المعقولة.. سنبلغ قمة مسيرتنا المهنية، لكننا نستطيع الآن معرفة الكيفية التي ستنتهي بها هذه المسيرة

وفي الأربعينيات أيضا يُظهر البحث الذهني أن البحث في بعض الأشياء أصبح صعبا. فنحن الأربعينيين يتشتت تركيزنا بسهولة أكبر ممن هم أصغر عمرا منا.. نهضم المعلومات بمعدل أبطأ، كما أن قدرتنا على تذكر بعض الحقائق تصبح أسوأ.

لكن هناك ما هو جيّد ليعادل هذه الصورة السيئة، فما نخسره من قوة نكسبه نضوجا وتبصرا وخبرة. فنحن أفضل ممن هم أصغر سنا منا في الإمساك بجوهر الأمور، وفي السيطرة على مشاعرنا وحل المشاكل. ونحن أمهر منهم في إدارة المال وفي معرفة أسباب حدوث الأشياء، وأكثر تسامحا منهم. وأهم من ذلك ما يتعلق بسعادتنا، فنحن أقل مستوى في الإصابة بالعصاب.

النسبة الصحيحة
ومن المؤكد أن علم الأعصاب وعلم النفس الحديثين أثبتا ما قاله أرسطو قبل ألفي عام عندما وصف الرجال في قمة أعمارهم بأنهم ليسوا متهورين وليسوا جبناء، بل لديهم النسبة الصحيحة والمطلوبة من كل منهما. فهم لا يشككون في كل الناس ولا يثقون في كل الناس، لكنهم يقوّمون الناس على نحو صائب.

نعم.. لقد نجحنا في التعلم وفي النمو إلى حد ما.. أصبحنا نرى التكلفة الخفية للأشياء، وتوقف آباؤنا من محاولاتهم لتغييرنا، وأصبحنا قادرين على معرفة الأشياء السخيفة، كما أصبحت عقول الآخرين أقل تعتيما بالنسبة لنا، وعرفنا أن الرحلة الأهم خلال الأربعينيات هي التي نتحول فيها من "الجميع يكرهني" إلى "إنهم لا يهتمون".

ومع ذلك، نجد أن هذه الأربعينيات هي الأكثر تعقيدا بين عقود العمر كلها، ففيها نستطيع لأول مرة فك شفرة ديناميات العلاقات بين الأفراد، لكننا نفقد القدرة على تذكر رقم من خانتين، وفيها نكون قد وصلنا -أو على وشك الوصول- إلى أعلى رقم في حياتنا لدخولنا المالية، بيد أن حشوات البوتوكس تصبح من الأفكار المعقولة. سنبلغ قمة مسيرتنا المهنية، لكننا نستطيع الآن معرفة الكيفية التي ستنتهي بها هذه المسيرة.

التحولات الكبيرة
هذه الفترة من العمر -ويا للغرابة- تفتقر إلى التحولات الكبيرة، فالطفولة والمراهقة ليستا إلا تحولات كبيرة على الدوام: ننمو طولا، نتقدم إلى صفوف دراسية جديدة، وتداهمنا الدورة الشهرية، ونحصل فيها على رخصة قيادة السيارة، والدبلومات.

وفي العشرينيات والثلاثينيات نبالغ في تصوراتنا حول شركائنا المحتملين، ونعثر على وظيفة، ونتعلم كيف نعتمد على أنفسنا. وربما تكون هناك ترقيات، وأطفال وأعراس. وتحملنا في هذه الفترة دفقات الأدرينالين، وتطمئننا بأننا نبني حياة أشخاص كبار في السن.

وفي الأربعينيات ربما نستمر في الحصول على شهادات أكاديمية، ونحصل على وظائف ومنازل وأزواج، لكنها جميعها تصبح أقل بريقا وإدهاشا منها في العقود الأصغر.

في الأربعينيات لا نزال قادرين على النشاط والتغيير والمشاركة في سباقات الضاحية التي يبلغ طولها 10 كلم، لكننا سنشعر بأن هناك أشياء أعجل مما كانت في السابق مثل الموت، وستصبح خياراتنا أقل وأكثر محدودية، وسيتضح لنا تماما أن أي واحد من الخيارات المتاحة أمامنا يستبعد خيارا آخر.

هنا والآن
سيصبح التظاهر بامتلاكنا ما ليس عندنا أمرا غير مجد. وفي الأربعينيات نكف عن الإعداد لحياة مستقبلية متخيلة.. حياتنا الحقيقية تصبح -دون جدال- هي التي تجري أمامنا الآن.. لقد وصلنا إلى ما كان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت يسميه "الشيء في ذاته".

إن التغيير الذي يحدث لنا في الأربعينيات ليس بالتغيير السهل.. كنت على الدوام أشعر بالاطمئنان لفكرة أن هناك أشخاصا أكبر مني في العالم يعالجون السرطان ويكتبون الاستدعاءات، وهناك من يقودون الطائرات، ويعلبون الهباء ويعملون على ضمان بث الإشارات التلفزيونية، وهم الذين يعرفون أي الروايات تستحق القراءة وأي الأخبار يجب أن تُنشر في الصفحة الأولى.

وفي حالات الطوارئ، كنت دائما على ثقة بأن هناك واحدا كبيرا، غامضا وقادرا وعاقلا، سيظهر وينقذني.

لستُ مثارة بفكرة أنني أصبحت أبدو كبيرة السن، لكن أكثر ما يقلقني حول الأربعينيات هو فكرة أنني أنا شخصيا أصبحتُ من كبار السن.

المصدر : نيويورك تايمز