مقبرة الإسعاف في يافا.. الجرح النازف لأوقاف ومقدسات فلسطين

اعتصام عند دوار الساعة بيافا رفضا لتدنيس وجرف مقبرة الإسعاف
اعتصام عند دوار الساعة بيافا رفضا لتدنيس وجرف مقبرة الإسعاف (الجزيرة)

تعيش مدينة يافا الساحلية في هذه الأيام فصلا جديدا من معركة البقاء والصمود والحفاظ على المقدسات، وتشهد المدينة ولليوم الرابع احتجاجات شعبية غالبا ما تتحوّل إلى مواجهات ليلية مع الشرطة الإسرائيلية، وذلك احتجاجا على تدمير بلدية تل أبيب مقبرة الإسعاف ونبش قبورها بغية إقامة مشروع إسكاني للمشردين.

وعلى وقع الاحتجاجات والرباط بالقرب من المقبرة المتاخمة لمسجد حسن بيك، اضطررت بلدية تل أبيب للتراجع عن تجريف وتدمير المقبرة بعد نبش عشرات القبور، علما أن المقبرة يعود تاريخها للحقبة العثمانية الحديثة، في حين تصر الهيئة الإسلامية العربية في يافا على إلغاء المشروع الإسكاني وتحويل أرض المقبرة إلى صلاحية مجلس متولي الوقف الإسلامي.

بلدية تل أبيب تحاصر المساجد والمقدسات ببناء أبراج تجارية وسكنية (الجزيرة)
بلدية تل أبيب تحاصر المساجد والمقدسات ببناء أبراج تجارية وسكنية (الجزيرة نت)

صراع وجود
يشكل ملف المقدسات العربية والإسلامية بفلسطين التاريخية وجها آخر لصراع الهوية والوجود مع المؤسسة الإسرائيلية، التي عمدت منذ النكبة على طمس المقابر وإهمال المساجد والكنائس في البلدات المدمرة والمهجرة.

وتمعن أذرع السلطات الإسرائيلية في هذه المرحلة على انتهاك حرمة المقابر والأموات، ونبش القبور ونقل رفات وعظام الموتى لمناطق مجهولة، في وقت تتواصل فيه مخططات الشركات العقارية اليهودية لإقامة مشاريع تجارية وإسكانية فوق أراضي المقابر في يافا وحيفا.

لم تكن المقدسات وعقارات الأوقاف واللاجئين بعيدة عن المخطط الإسرائيلي لتصفية الوجود الفلسطيني بعد النكبة، ففي عام 1952 قررت الحكومة الإسرائيلية وضع اليد على ممتلكات وعقارات المجلس الإسلامي الأعلى بالداخل الفلسطيني.

والوقف الإسلامي الذي يتضمن آلاف العقارات ومئات آلاف الدونمات وعشرات المقابر والمساجد إلى ما يسمى "حارس أملاك الغائبين"، تتعرض غالبيته للتدنيس والانتهاك، ومُنع الفلسطينيون بالداخل من التواصل مع تلك الممتلكات وصيانتها أو ترميمها، وعلى مر عقود تمت المتاجرة بها وبيعها بالمزاد العلني لشركات الاستثمار اليهودية.

حراك رافض لإقامة مشاريع تجارية وسياحية على مقابر العرب والمسلين بفلسطين (الجزيرة)
حراك رافض لإقامة مشاريع تجارية وسياحية على مقابر العرب والمسلمين بفلسطين (الجزيرة نت)

انتهاك المقابر
في مقبرة الإسعاف في يافا، يتجدد نزيف جرح الأوقاف والمقدسات، كما يقول إمام مسجد حسن بيك الشيخ أحمد أبو عجوة، مؤكدا أنه سبق ذلك استهداف مقبرة القشلة الملاصقة للمسجد المحمودية الكبير، والتي تعتبر جزءا من مقبرة البرية التاريخية، حيث دفن المسلمون من الفترة المملوكية حتى الفترة العثمانية، وتمت مصادرة مساحة من المقبرة من أجل إقامة فندق سياحي وشقق سكنية، وتجريف وتدمير عشرات القبور وطمسها بالكامل وإخفاء رفات وجماجم الأموات.

وأوضح أبو عجوة للجزيرة نت أن اللجنة الشعبية للدفاع عن المقدسات في يافا بالتعاون مع الحركات والقوى الوطنية والإسلامية، أحبطت مخططا لإقامة مشاريع إسكانية على مساحات من مقبرة طاسو، إذ باعت ما يسمى "دائرة أراضي إسرائيل" المقبرة قبل 35 عاما لمستثمرين يهود عبر عقود مزورة، إلا أن المجلس الإسلامي وسكان يافا نجحوا في إثبات التزوير أمام المحاكمة واسترجاع المقبرة.

وأكد إمام مسجد حسن بيك أن لبلدية تل أبيب سجلا حافلا في تدنيس المقابر ونبش القبور وبيع المقابر الفلسطينية لشركات استثمارية إسرائيلية، إذ دمرت مقبرة الجماسين لتوسيع حي سكني لليهود بدعم من سلطة الآثار الإسرائيلية، كما بنت إدارة جامعة تل أبيب مساكن للطلبة فوق مقبرة قرية الشيخ مؤنس المهجرة.

ترميم وصيانة مقبرة الكزاخانة في يافا بعد استرجاعها من قبل شركة يهودية زعمت المليكة لأرض المقبرة التي أقيم على أجزاء منها ما يسمى مركز "بيرز للسلام"، الذي يظهر في الصورة
ترميم وصيانة مقبرة الكزاخانة في يافا بعد استرجاعها من شركة إسرائيلية زعمت ملكيتها لأرض المقبرة (الجزيرة نت)

سياسة الاضطهاد
وأمام هذا المسلسل من الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية للمقدسات العربية والإسلامية، يقول أبو عجوة "لو تم تدنيس شواهد قبور ليهود في أي بلد بالعالم لقامت الدنيا ولم تقعد، وهنا في فلسطين المؤسسة الإسرائيلية بمختلف أذرعها توظّف القوانين وتمعن في سياسة الاضطهاد الديني بحق المقدسات تحت ذريعة التطوير والاستثمار".

وبيّن أن "استهداف المقدسات جزء لا يتجزأ من معركة الصراع والوجود مع الحركة الصهيونية على هوية وتاريخ وحضارة المكان"، لافتا إلى أن إسرائيل استغلت انشغال العالم بجائحة كورونا وحالة الضعف والوهن العربي، وجددت حربها على المقدسات والأوقاف العربية والإسلامية التي هي جزء لا يتجزأ من هوية وتاريخ وعروبة وحضارة فلسطين.

وحذر أبو عجوة من ممارسات المؤسسة الإسرائيلية ضد المقدسات العربية والإسلامية، مؤكدا أن يافا على استعداد لتقديم التضحيات، وسيواصل الداخل الفلسطيني النضال الجماهيري الداعم لاسترجاع المقابر والمقدسات، مشددا على أنه لن يتم التفريط في المقدسات والمقابر والمساجد والكنائس مهما تمادت إسرائيل في استعمال القوة وسطوة القانون والترهيب.

إسرائيل تتعمد تهميش وعدم صيانة المقابر التي وضعت اليد عليها وتمنع من فلسطينيي 48 ترميمها. (صور 1 إلى 12 من تصويري خلال عملي مع الجزيرة نت) (الجزيرة)
إسرائيل تتعمّد تهميش وعدم صيانة المقابر التي وضعت اليد عليها وتمنع فلسطينيي 48 من ترميمها (الجزيرة نت)

وقف الاستقلال
لم يتوقف تهويد وطمس المقابر عند إقليم جغرافي معين، بل تمدّد بكل فلسطين التاريخية ويتمركز بالقدس المحتلة التي تشهد مشاريع تهويدية واستثمارية فوق أرض مأمن الله -إحدى أبرز المقابر التاريخية في القدس الغربية-، وإقامة ما يسمى "متحف التسامح"، وكذلك مشاريع استثمارية وتجارية فوق المقابر وعقارات اللاجئين في المدن المختلطة، في حين يخوض وقف الاستقلال في حيفا معركة لاسترجاع عقارات وأملاك الوقف التي سربت للمؤسسة الإسرائيلية عبر التزوير، وكذلك صيانة وحماية مقبرة القسام في قرية الشيخ من التدمير والجرف لإقامة مشروع تجاري.

واستعرض مسؤول مركز لجنة الدفاع عن مقبرة القسام المهندس جمال أبو شعبان ما تتعرض له أملاك وأوقاف الاستقلال في لواء حيفا من عمليات سلب ومصادرة من قبل المؤسسة الإسرائيلية التي تستعين بمتعاونين وعملاء من أجل إبرام عقود بيع مزورة للكثير من أملاك وعقارات وأراضي الوقف والمقابر وبضمنها مقبرة القسام.

وأوضح في حديثه للجزيرة نت أن مقبرة القسام في عين العاصفة والاستهداف منذ النكبة، وتتعرض لطمس متدرج وتحاصرها مشاريع الطرقات والبنى التحتية، علاوة على محاولات التدنيس وانتهاك حرمة الأموات، مبينا أن القضاء الإسرائيلي يقر حاليا لشركة يهودية باسم "كيرور أحزقوت" إقامة مشروع تجاري على 15 دونما من أراضي المقبرة التي تبلع مساحتها الأصلية 43 دونما.

مسجد حسن بيك في يافا يحاصر بمصادرة الأراضي الوقيفة من حو حوله (الجزيرة)
مسجد حسن بيك في يافا يحاصر بمصادرة الأراضي الوقفية من حوله (الجزيرة نت)

مقبرة القسام
وشدد شعبان على أن المؤسسة الإسرائيلية تحاول بشتى طرق التحايل والتزوير وضع اليد على عقارات الوقف، ومن ضمنها أيضا المقابر، مبينا أن مقبرة القسام تعتبر من أهم الرموز التاريخية والحضارية والثقافية في فلسطين، حيث دفن بها شهداء ثورة 1936 وعلى رأسهم المقاوم عز الدين القسام، وأيضا ضحايا مجازر العصابات الصهيونية وضحايا مجازر النكبة.

وأكد أن المقدسات والمقابر ليست عقارات تجارية يتم تداولها في المزاد العلني، موضحا أن وقف الاستقلال في حيفا يعتبر ثاني أكبر عقارات وأملاك وقفية، وأنه سيستمر في نضاله لتحرير الأوقاف والعقارات وخوض معركة التصدي والصمود للحفاظ على مقبرة القسام وإفشال مخطط إقامة مشروع تجاري على رفات وجماجم الموتى والشهداء.

المصدر : الجزيرة