فورين بوليسي: الشبكة العنكبوتية التي مزقها التناحر

People use computers in an internet cafe in Beijing, China, 27 January 2015. China internet officials on 27 January 2015 defended its efforts to block virtual private networks (VPN), which are used to get around the country's strict internet controls. VPNs encrypt and reroute internet traffic past the national firewall to access more than 2,700 blocked websites including Gmail, Facebook and Youtube, websites of several human rights organizations, as well as some media
العالم الافتراضي الذي كان موحدا من قبل بات الآن متشظيا ومقسما (الأوروبية)

أفردت مجلة فورين بوليسي الأميركية في عددها الأخير مقالا مطولا لاثنين من كبار الخبراء في مجال التكنولوجيا، تناول بالتحليل تغوّل حكومات الدول على شبكة الإنترنت العنكبوتية.

واختارت المجلة عنوانا ذا دلالة للمقال هو "الشبكة العنكبوتية التي مزقها التناحر"، في إشارة إلى انتقال الحروب والصراعات إليها بين الدول مع بعضها بعضا من جهة، وبين الحكومات ومواطنيها من جهة أخرى.

وقال الخبيران شين ماكدونالد وآن شياو مينا -في مقالهما المشترك- إن العالم الافتراضي الذي كان موحدا من قبل بات الآن متشظيا ومقسما إلى "دول جديدة متناحرة".

فالحكومات على وجه الخصوص تستغل نفوذها في صياغة السبل الكفيلة بربط مواطنيها بالشركات الرقمية والأسواق الإلكترونية.

ووصف الكاتبان هذا النهج بأنه نمط جديد من "السياسة الواقعية" أطلقا عليها مصطلح "السياسة الرقمية"، والتي تعتبر بمثابة مدونة قواعد وخطط تبين الكيفية التي تستغل بها الحكومات سلطاتها السياسية والتنظيمية والعسكرية والتجارية لإبراز نفوذها في الأسواق العالمية والرقمية.

الحكومات تستغل نفوذها في صياغة السبل الكفيلة بربط مواطنيها بالشركات الرقمية والأسواق الإلكترونية (الصحافة الأميركية)
الحكومات تستغل نفوذها في صياغة السبل الكفيلة بربط مواطنيها بالشركات الرقمية والأسواق الإلكترونية (الصحافة الأميركية)

نداء باريس
وتضيف فورين بوليسي أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان قد أطلق في منتدى حوكمة الإنترنت الذي أقيم الشهر الماضي في مقر منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (يونسكو)، "نداء باريس من أجل الثقة والأمن في الفضاء الإلكتروني".

وحظي هذا النداء لصياغة مبادئ مشتركة تضمن أمن الفضاء الإلكتروني بدعم العديد من الدول وشركات التكنولوجيا الخاصة ومنظمات المجتمع المدني.

وكان من بين الموقّعين خمسون دولة بينها دول الاتحاد الأوروبي واليابان وكندا، وأكثر من 150 شركة تقنية بينها فيسبوك وغوغل ومايكروسوفت، إلا أنّ الولايات المتحدة وروسيا والصين لم توقّع على البيان.

وتشير المجلة إلى أنه على الرغم من رفض دول ذات سيادة هذا النداء، فإن الدور الذي اضطلعت به شركات أميركية في الضغط من أجل إبرام اتفاقيات دولية بشأن الإنترنت في ظل غياب حكومة بلادها، يبرز إحدى النقاط الرئيسية التي شدد عليها ماكرون وهي: "أن الإنترنت فضاء يديره حاليا مجتمع تقني من أطراف خاصة فاعلة".

لكن ليس كل السياسة الرقمية -بحسب الخبيرين ماكدونالد وآن شياو- تحكمها معاهدات دولية ونداءات للحوكمة، فشركة غوغل -على سبيل المثال- أطلقت مؤخرا محرك البحث "دراغون فلاي" الذي صُمم خصيصا لتمكين الحكومة الصينية من مراقبة المحتوى والأخبار، وربط استفسارات مواطنيها بأرقام هواتفهم ومن ثم هوياتهم.

وتقول إنه إثر معارضة موظفي غوغل إطلاق محرك البحث الجديد وإبداءهم عدم ارتياحهم البالغ منه لأنه -بنظرهم- يعزز سطوة الدولة الصينية على الفضاء الرقمي، اضطرت الشركة إلى إلغاء المشروع.

غير أن الحكومة الصينية تشبثت بموقفها وأبلغت غوغل أنها إذا أرادت إقامة مشاريع تجارية في الصين، فإن عليها أن تفعل ذلك بالشكل الذي تريده بكين تماما، مثلما تفعل منصات التكنولوجيا العملاقة.

وتضيف أن الصين -باعتبارها من أكبر الأسواق الرقمية في العالم- فإنها أنشأت وشجعت إقامة منظومة مؤلفة من أدوات وتطبيقات من إنتاجها الخاص، مثل محرك البحث "بايدو"، وبرنامج "وي تشات" للدردشة والتواصل الاجتماعي، وموقع "تاوباو" للتسوق عبر الإنترنت.

كل الدول تقريبا تجاهد لوضع تعريف خاص بها يوازن بين الدولة والسلطة السياسية في مجال الفضاء الإلكتروني (وكالة الأناضول)
كل الدول تقريبا تجاهد لوضع تعريف خاص بها يوازن بين الدولة والسلطة السياسية في مجال الفضاء الإلكتروني (وكالة الأناضول)

قوة رقمية عظمى
ويقول الكاتبان إن إطلاق دراغون فلاي يُعد "رضوخا علنيا" للسياسة و"اعترافا ضمنيا" بأن سوق الصين أكثر قيمة من أي موقف سياسي بشأن حرية التعبير.

ويضيفان أن البعض اعتبر أن هذه الخطوة تعكس نظرة قيادة غوغل الجديدة وأولوياتها، كما تمثل تجسيدا لقوة الصين المتعاظمة ونفوذها المتزايد بما تملكه من طبقة وسطى نشطة وتشكيلة من أجهزة الهاتف المتنوعة التي تستخدم بدائل تطبيقات أندرويد.

وبرأي كاتبي المقال، فإن كل الدول تقريبا تجاهد لوضع تعريف خاص بها يوازن بين الدولة والسلطة السياسية في مجال الفضاء الإلكتروني.

ففي الولايات المتحدة مثلا، سنّت ولاية كاليفورنيا هذا العام قانونا لحماية البيانات دون دعم من الحكومة الاتحادية، شأنها في ذلك شأن العديد من الولايات التي تسعى للتأثير على أي موقف قد يُتخذ على نطاق الدولة بشأن البيانات وعالم الإنترنت.

وتركز بعض الدول على كيفية إيجاد توازن بين الدولة ومواطنيها، مثل الهند وأوغندا، بينما تركز دول أخرى على نفوذ الشركات، مثل بابوا غينيا الجديدة التي فرضت قيودا على فيسبوك وإيرلندا التي فرضت ضرائب على أرباح شركات التكنولوجيا.

وتوجد نسخ "مؤممة" من مرافق الإنترنت، كما هو الحال في المملكة المتحدة وكوبا، أو هي في طور الدراسة وقيد التنفيذ.

وفي الصين وإيران، درج الناس على تجاوز "الجدران وبرامج الحماية" للوصول إلى مواقع ومحتويات أجنبية على الشبكة العنكبوتية.

ويعكف الاتحاد الأوروبي بالفعل على معاقبة إيرلندا لاستخدامها سياسات ضريبية تفضيلية لاستقطاب عمالقة التكنولوجيا العالمية.

بناة إمبراطوريات
بيد أن الخلاف حول الكيفية التي يجب أن تدار بها شبكة الإنترنت ليست بالأمر الجديد، فالبعض يرى أن الشبكة العنكبوتية عالم من الإنترنت الموازي، أو تتباين نظرتهم بشأن الطريقة المثلى لإدارته.

ويذهب مقال فورين بوليسي إلى أن الصين والولايات المتحدة  تمتلكان من القاعدة الجماهيرية والقدرة التقنية والتأثير على الأسواق، ما يجعلهما قوتين رقميتين عظميين.

ولدى هاتين الدولتين قدرة على دفع الشركات لمنحهما مزايا استثنائية، دون الحاجة إلى إطار من السياسات الواضحة المعالم أو الجامعة.

ورغم أن الولايات المتحدة -على سبيل المثال- تدافع عن حرية استخدام الإنترنت خارجيا، فإنها تلجأ باستمرار إلى نظام رقابة رقمية يقوم على جمع البيانات والصور وتخزينها، وتقنيات مكافحة تستعين بها أجهزتها الأمنية.

وبالمثل، فإن للصين نهجها في فرض نفوذها على الأسواق، ولديها بيئة تنظيمية فعالة لإجبار الشركات على تصنيع منتجات "متواطئة" مع أنظمة الرصد والرقابة الاجتماعية الخاصة بها.

وفي كلتا الحالتين، فإن هاتين القوتين العظميين في مجال الإنترنت تطوران بنية تحتية لنطاقات تكنولوجية كاملة، من برمجيات وهواتف إلى كوابل الألياف الضوئية.

وخلص الكاتبان إلى أن البشرية على مشارف عالم متعدد الأقطاب، لن تكون فيه سلطة الإنترنت بحاجة إلى دولة ذات سيادة، بينما قد تحتاج الأطراف المتعددة ذات الأهداف المشتركة إلى مسارات متعددة لتحقيقها.

وتُعد الشركات الكبرى -الأميركية والصينية- بمثابة بناة إمبراطوريات تعكس نفوذ الدولتين، عبر الكيانات التكنولوجية المحلية أو المملوكة للدولة.

المصدر : الجزيرة + فورين بوليسي