"النقطة الساخنة" في لامبيدوزا.. عنوان أزمة الهجرة الأوروبية

LAMPEDUSA

في منطقة كوانترادا إمبرياكولا على بعد نحو 6 كيلومترات من مركز جزيرة لامبيدوزا، يوجد مركز استقبال المهاجرين غير النظاميين الأشهر أوروبيا الذي يعرف باسم "الهوت سبوت" أي "النقطة الساخنة".

يبدو الوضع هادئا داخل المركز على عكس ما جدّ قبل أشهر خلال "صيف الهجرة الساخن"، فلا وجود كثيفا للمهاجرين مقارنة بالأشهر القليلة الماضية، بينما يكثر عدد عناصر الصليب الأحمر الإيطالي والشرطة والجنود.

تلحظ على جنبات الطريق إلي المركز أيضا تواجدا كثيفا لعناصر الأمن الإيطالي بمختلف أصنافه رغم قلة قدوم قوارب المهاجرين وحالة الهدوء بالجزيرة. تبدو لامبيدوزا بشكل عام والنقطة الساخنة في حالة أقرب إلى العسكرة، فلا يُسمح بدخولها إلا بتصاريح إضافية تستغرق وقتا طويلا.

لا تُذكر لامبيدوزا من دون هذه "النقطة الساخنة"، إذ حكمت الجغرافيا على هذه الجزيرة أن تكون بوابة رئيسية للمهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا، وتعاظم دورها بعد تراجع مسارات أخرى بين اليونان وتركيا أو بيلاروسيا والبلقان، فباتت محطة رئيسية لمن حالفهم الحظ في الوصول إلى شواطئها.

بين ضفتين

باتت الجزيرة منذ عقود العنوان الأبرز لأزمة الهجرة في البحر الأبيض المتوسط، فهي أوّل ميناء لدخول القوارب الصغيرة التي تغادر سواحل دول شمال أفريقيا، خصوصا تونس وليبيا ثم مصر بدرجة أقل، أملا في الوصول إلى شواطئ دول الاتحاد الأوروبي.

بأحكام الجغرافيا نفسها وشبكة معقدة من المهربين والسماسرة، باتت تونس -التي لا تبعد سواحلها عن لامبيدوزا أكثر من 140 كيلومترا أو أقل- مقصدا رئيسيا ثم ممرا لعشرات آلاف المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء وحتى من آسيا نحو الجزيرة الإيطالية، ولا بد من لمن نجا من تلك الرحلة أن يمر عبر "النقطة الساخنة".

لم يكن في مركز "النقطة الساخنة" الذي يمتد بطول 200 متر وعرض 50 مترا أو أقل أكثر من 40 مهاجرا، حسبما أخبرنا عنصر من الصليب الأحمر الإيطالي تحفظ على ذكر أي معلومات أخرى، يظهر بعضهم من خلال البوابة الحديدة الخارجية، ولا يسمح لأحد بالدخول أو الحديث مع المهاجرين القلائل في المركز.

عنصران من الجيش الإيطالي يحرسان مركز النقطة الساخنة في لامبيدوزا (غيتي)

لا أعرف كيف خيّل لي أن أجد بين القليلين الذين ظهروا لي من بعيد في النقطة الساخنة الفتى الغامبي "سام" (18 عاما) الذي قابلته هو ورفاقه قبل نحو 3 أشهر في تونس بينما كان يحث الخطى على الطريق بين مدينتي القصرين وسبيطلة، قاصدا وصحبه مدينة صفاقس التي أصبحت البوابة التونسية للهجرة غير النظامية نحو إيطاليا.

تذكرت أيضا "إيما" السيدة الإيفوارية الثلاثينية التي كانت مع مجموعة أخرى على الطريق نفسها بعد أن عبرت الحدود الجزائرية التونسية وقد هدها التعب والجوع، كانت شديدة التوتر والخوف من أن يقبض عليها الحرس الوطني التونسي قبل الوصول إلى صفاقس.

قد يكونان هنا ومعهما أولئك الذين رأيتهم على الطرقات وبين المزارع يلفهم الخوف ويحدوهم الأمل. وقد يكون البحر المتوسط ابتلعهما بعد رحلة خائبة، ولربما حققوا حلمهم وعبروا "النقطة الساخنة" إلى الداخل الأوروبي. الوجوه هنا مختلفة في سحنتها، لكن تتشابه في آثار الرحلة الطويلة من التعب والأسى.

قطع سام -حسبما ذكر لي- نحو 6 آلاف كيلومتر، معظمها راجلا عبر الصحاري. ما زلت أذكر جسمه الهزيل ووجهه الطفولي الذي عركته تجربة لا يقوى عليها الرجال، وأذكر كيف قطع الطريق نحوي في الاتجاه المعاكس ملحّا في طلب سيجارة عندما رآني قد أشعلت واحدة، أعطيته ما بقي من العلبة، فأشعل واحدة وسحب نفسا طويلا وعميقا، أظن أنها أطول ما رأيت.

ذكّرته أن طريقه ما زالت طويلة، وأنه لا يحتاج إلى أي نوع من الإلهاء -ومن ضمنها السجائر- في هذه الفترة للوصول إلى لامبيدوزا، التي ذكرها لي بشوق من يعرفها من دون أن يراها.

مهاجرون أثناء وصولهم إلى مركز جزيرة لامبيدوزا يوم 14 سبتمبر/أيلول 2023 (رويترز)

تقاطع الطرق الرئيسي

لا تبدو هذه "النقطة الساخنة" نشازا في جزيرة لامبيدوزا، فهما صنوان بالنسبة لكل من عبر أو يفكر في العبور عبر الجزيرة، فقد انزرعت هذه النقطة بالجزيرة منذ نحو 3 عقود، عندما أغلقت أوروبا حدودها وذاع صيتها منذ بدأت جحافل المهاجرين و"الحرّاقة" ترد سواحل إيطاليا انطلاقا من تونس أو ليبيا.

في عام 2023، وصل 155 ألفا و754 مهاجرا إلى إيطاليا، وفق وزارة الداخلية الإيطالية، بزيادة أكثر من 50 ألفا مقارنة بالفترة نفسها عام 2022. كما اعترض حرس السواحل التونسي نحو 70 ألف مهاجر حتى ديسمبر/كانون الأول في أثناء محاولتهم عبور البحر المتوسط إلى إيطاليا، في حين توفي أكثر من 2500 شخص غرقا في أثناء عملية العبور.

باتت لامبيدوزا ونقطتها الساخنة مشكلة عويصة لرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وخلال زيارتها للجزيرة يوم 17 سبتمبر/أيلول 2023، قالت إن حكومتها تعتزم اتخاذ "إجراءات استثنائية فورية" للتعامل مع عمليات وصول المهاجرين، وأن ذلك قد يشمل تدشين "مهمة بحرية إذا لزم الأمر" لمنع المهاجرين من الوصول إلى الجزيرة الإيطالية وتمديد الفترة القصوى لاحتجاز المهاجرين غير النظاميين من سنة إلى 18 شهرا.

وغالبا ما يبرهن المسؤولون الإيطاليون على عمق الأزمة بمقارنة عدد المهاجرين الذين يفدون إلى لامبيدوزا بعدد سكانها الأصلي الذي لا يتجاوز 6 آلاف نسمة، في حين وصل إليها نحو 25 ألف مهاجر في أغسطس/آب ونحو 11 ألف خلال أيام أوائل سبتمبر/أيلول، بينهم نحو 7 آلاف خلال 36 ساعة، ويتسع مركز "النقطة الساخنة" لنحو 360 شخصا فقط.

البؤرة سيئة الصيت

منذ إنشائه عام 2008، تعرض مركز "النقطة الساخنة" لانتقادات واسعة من المنظمات الحقوقية، التي أشارت في أكثر من تقرير إلى ظروف استقبال وإيواء سيئة ومعاملة غير إنسانية للمهاجرين.

وتعد النقاط الساخنة -التي صنف مركز لامبيدوزا ضمنها عام 2015- مراكز لفرز المهاجرين غير النظاميين الذين يفدون على الحدود الأوروبية وتحديد هوياتهم. وتسمح هذه المرافق باحتجاز المهاجرين لفترة محدودة من قبل السلطات المحلية بمساعدة الوكالات الأوروبية مثل يوروبول (الوكالة الأوروبية للتعاون في مجال إنفاذ القانون) ويوروجست (الوكالة الأوروبية للتعاون في مجال العدالة الجنائية) وفرونتكس (الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل.

وتتولى الشرطة المحلية تسجيل البيانات الشخصية للمهاجرين وطالبي اللجوء، وتصويرهم وجمع بصماتهم في غضون 48 ساعة من وصولهم، يمكن تمديدها إلى 72 ساعة في حد أقصى، كما يُحتجز المهاجرون حتى التعرف عليهم إذا رفضوا التسجيل.

ويُنقل المهاجرون المقرر طردهم إلى مراكز احتجاز للأجانب في وضع غير قانوني وعددها 9 في إيطاليا، ولا سيما في باري (جنوب) وروما (وسط) وميلانو (شمال).

نددت منظمات حقوقية دولية بظروف الغقامة السيئة داخل مركز النقطة الساخنة (غيتي)
ظروف الإقامة السيئة داخل مركز "النقطة الساخنة" أثارت استنكار منظمات حقوقية (غيتي)

ويعد مركز النقطة الساخنة في لامبيدوزا من بين الأقدم أوروبيا، وكان يخضع بالكامل لإدارة السلطات الإيطالية قبل أن يتولى الصليب الأحمر إدارته منذ أغسطس/آب 2023.

وخلال السنوات السابقة، نددت الجمعيات الحقوقية والمنظمات الدولية بالظروف غير الإنسانية داخله، ولطالما شهد المركز احتكاكات ومناوشات بين الشرطة والمهاجرين الذين يشكون من ظروف الإقامة السيئة والاكتظاظ وبطء إجراءات التدقيق والاحتجاز التي قد تستمر لأشهر.

وفي عام 2009، شهد المركز حريقا هائلا، وتكرر الأمر أعوام 2011 و2015 و2018، وأشارت السلطات إلى أن المهاجرين هم المسؤولون عن ذلك، وفي يناير/كانون الثاني 2018 انتحر مهاجر غير نظامي تونسي، مما أثار ضجة كبيرة. وفي سبتمبر/أيلول 2023، أصيب المركز بحالة من الشلل بسبب وصول آلاف المهاجرين خلال أيام، واندلعت أيضا اشتباكات بين الشرطة والمهاجرين المتمركزين على رصيف "فافالورو"، حيث تتم عمليات نقلهم.

European Commission President Ursula von der Leyen and Italian Prime Minister Giorgia Meloni visit the port where migrants arrive, on the Sicilian island of Lampedusa, Italy, September 17, 2023. REUTERS/Yara Nardi
جورجيا ميلوني (يمين) وأورسولا  فون دير لاين (وسط) في أثناء زيارة "النقطة الساخنة" (رويترز)

النقطة المحورية

وأشارت المنظمة الدولية للهجرة وقتها إلى أن الأمر ارتبط بحالة طوارئ تشغيلية، إذ وصل أكثر من 70% من المهاجرين غير النظاميين من تونس حصرا إلى لامبيدوزا، مشيرة إلى أنه "كان لدى الحكومة الإيطالية الوقت الكافي لزيادة القدرة الاستيعابية لمركز استقبال المهاجرين بعد إنشائه عام 2008، فالهجرة ليست بالأمر الجديد على إيطاليا".

ويوم 17 سبتمبر/أيلول الماضي، التقت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في لامبيدوزا، بعد أن اشتكت السلطات الإيطالية من أن البلاد تتعرض "لضغوط غير مستدامة"، ورأت فون دير لاين أن قضية الهجرة غير النظامية نحو الجزيرة تشكل "تحديا أوروبيا، وتحتاج إلى إجابة أوروبية".

من جهته، قال ماتيو سالفيني، نائب رئيسة الوزراء الإيطالي وزعيم "حزب الرابطة" اليميني، إنه "عندما تقوم 120 سفينة بحرية بإنزال المهاجرين، فإن ذلك ليس حادثا عفويا، بل يعد عملا من أعمال الحرب".

وتبعا لذلك، باتت الأحداث التي جدت في النقطة الساخنة وجزيرة لامبيدوزا في سبتمبر/أيلول 2023 محورا رئيسيا وعاملا مؤثرا في مقاربات الهجرة الأوروبية، فيما يواصل الاتحاد الأوروبي العمل على عقد اتفاقات مع دول شمال أفريقيا، مثل تونس وليبيا ووموريتانيا مصر، في محاولة لمنع وصول المهاجرين غير النظاميين إلى حدوده.

مهاجرون غير نظاميين وصلوا إلى مرفأ لمبيدوزا على متن قارب إنقاذ (رويترز)

كما يشير ميثاق الهجرة الأوروبي الجديد الذي تم إقراره في ديسمبر/كانون الأول الماضي (ميثاق بروكسل) إلى تغير نهج الاتحاد الأوروبي تجاه المهاجرين غير النظاميين، فوفق الترتيبات الجديدة من جاء من بلد يصنف آمنا، يُعاد إليه بغض النظر عن أسباب فراره منه، ويوضع من تعذر ترحيلهم مباشرة في مراكز احتجاز بانتظار حسم طلبات لجوئهم وفقا لأهليتهم مع شروط مشددة.

وانتقدت منظمات حقوقية القانون الأوروبي الجديد الذي يتماهى مع أفكار الأحزاب اليمينية المتطرفة، مشيرة إلى أنه تخلى عن المعايير الإنسانية لفائدة المصالح السياسية، إذ يستند في الأساس إلى 3 محددات، وهي الاحتجاز والترحيل وتقييد اللجوء، من دون النظر إلى معاناة المهاجرين وأوضاعهم السيئة وظروفهم الخاصة التي جاءت بهم إلى نقطة لامبيدوزا الساخنة أو غيرها.

المصدر : الجزيرة