"القشابية".. تراث الأجداد ورفيق الشتاء بتونس

منيرة حجلاوي_القشابية القليبية يدوية الصنع مائة بالمائة_نابل-قليبية_خاص الجزيرة نت
أجيال اليوم لا تريد تعلم الحرف التقليدية (الجزيرة)

منيرة حجلاوي-نابل (تونس)

كانت المسافة بعيدة بين محطة الحافلات بقليبية بمحافظة نابل (في الشمال الشرقي التونسي) ومحله الصغير، ورغم ساقه المصابة بحادث مروري، أصر جمال الزكراوي على استقبالنا بحفاوة شديدة ليشاركنا أسرار عشقه لحياكة "القشابية".

وتعد القشابية الرجالية التونسية التقليدية بطربوشها الكبير ذات اللون البني مصدر دفء للكثيرين، خاصة سكان المناطق الجبلية والريفية الذين يواجهون بها قسوة الطبيعة والمناخ الجاف والبارد.

وفي المحل العابق بروائح الماضي، نصبت ثلاثة أنوال (آلات نسيج) لحياكة القشابية (لباس رجالي)، يقف جمال خلف أحدها متناسيا آلام ساقه الحادة؛ في حين يقف شقيقه محمد وصديق طفولتهما فريد خلف الأخرييْن.

كان الثلاثة منشغلين؛ فريد بنسيج الكليم (نوع من المفروشات) ومحمد وجمال بنسيج قشابيتين بنيتي اللون، بالكاد استطعنا الوقوف لضيق مساحة المحل؛ بعكس رحابة صدر مستضيفينا، وكانت أصوات قطع الخشب الطويلة التي ترص خيوط الصوف فوق بعضها البعض تتردد بتناغم في أرجاء المكان.

تتطلب مراحل حياكة القشابية دقة ومهارة فائقتين من التسدية (نصب آلة النسيج) باستخدام أعمدة حديدية وخشبية، وربطها ببعضها البعض بواسطة خيوط "القيام"، ثم حلّها أفقيا إلى مرحلة الحياكة، فأي خطأ بسيط يتطلب إعادة العملية كاملة من البداية.

لمسات النساء
"تتكفل النسوة بوضع اللمسات الأخيرة على القشابية بتزيينها "بالبشمار" (نوع من الخيوط)، وهذا ما يجعل القشابية القليبية متميزة عن باقي المناطق، فكل جزء بسيط فيها مصنوع يدويا؛ كما أننا نقوم بتنظيفها بالملقط والمقص من كل الشوائب"، كما يقول جمال للجزيرة نت.

‪أجيال اليوم لا تريد تعلم الحرف التقليدية‬ (الجزيرة)
‪أجيال اليوم لا تريد تعلم الحرف التقليدية‬ (الجزيرة)

الطفل وجده
لم يتجاوز جمال سن الخامسة حين انقطع عن الدراسة لقلة حيلة والده، فلازم جدّه ليتدرّب على يده أصول حياكة القشابية. وعلى عكس أقرانه الذين كانوا يفضلون اللعب، كان يجلس بجانب جده يملأ له الأنزاق (قطعة خشبية) بالصوف، وكنوع من المكافأة يظفر بعشرين فرنكا (عملة تونسية قديمة)، مقابل ما بذله من جهد.

"كنت شقيا وحرصت على تعلّم نسيج القشابية في أسرع وقت، فعندما كان عمّال جدي يغادرون المحل كنت أجلس في مكان أحدهم وأحيك قطعة الكليم لأن صناعته سهلة وقبل خروجي أرتب المكان حتى لا يفطن لي أحد"، هكذا يسترجع جمال ذكرياته ضاحكا.

ملازمته لجده ووالده الذي كان بدوره يمتهن هذه الحرفة، وتفانيه في تعلّمها؛ مكّناه عندما بلغ سن 17 من فتح محله الخاص بجوار جده بمساعدة شقيقه محمد.

مهنة مربحة
تمسّك جمال بهذه المهنة لأنها كانت مربحة في ذلك الوقت، حيث كان يجني لقاء يوم عمل خمسة دنانير (دولار ونصف الدولار)، في حين كان يجني المبلغ نفسه مقابل أسبوع كامل من العمل المضني في النجارة التي أراده والده أن يشتغل فيها.

بعد وفاة والده وجده، تسلم جمال إرثهما، وعمل منذ ذلك الحين بمساعدة شقيقيه محمد وعلي على إبقاء المحل مفتوحا، وأضافوا إلى القشابية والكليم صناعة البطانية، وهي نوع من الأغطية السميكة والدافئة.

مورد رزق
تعتبر خيوط "القيام" والصوف المواد الأساسية لحياكة القشابية، وقديما كان الصوف متوفرا، وكان النساجون يشترونه بكميات كبيرة من عند الفلاحين خلال موسم جز الأغنام، وتتولى النسوة غسله وتنظيفه من الشوائب وغزله وتحويله إلى خيوط طويلة ناعمة بواسطة آلات تسمى "القرداش" و"المغزل".

لا يثني تقدم سن جمال ورفيقيه عن مواصلة العمل، فعند الساعة السابعة كل صباح يفتح جمال المحل ليلتحق به رفيقاه، وتتخلل يومهم فترة استراحة الظهيرة ليكملوا حتى الساعة الثامنة ليلا في جو مليء بالدفء، وفي الركن مذياعٌ قديم تشدو من خلاله الفنانة التونسية نعمة أحلى أنغامها، وفي الركن الثاني إبريق الشاي يُطهى على نار هادئة.

يمثل محل جد جمال مورد رزقه الدائم لهو وشقيقيه الاثنين، وكخلية النحل التي لا تهدأ يركز كل واحد منهم على إنهاء قطعته نظرا لكثرة الطلبات على القشابية، خاصة في فصل الشتاء شديد البرودة، مما يدفعهم إلى العمل حتى في فصل الصيف ليتمكنوا من تلبية جميع الطلبات وإرضاء الزبائن وكسب ثقتهم.

‪تكفلت أنا وشقيقي محمد بالمحافظة على محل جدنا‬ (الجزيرة)
‪تكفلت أنا وشقيقي محمد بالمحافظة على محل جدنا‬ (الجزيرة)

مصدر دفء
واقترن استخدام القشابية في وقت سابق ببساطة مستوى العيش، غير أن الإقبال عليها اليوم انتقل إلى أصحاب الطبقة الميسورة وبعض التونسيين المقيمين بالخارج لأنها تهبهم الدفء، بحسب جمال.

يواجه جمال بعض الصعوبات، أبرزها توفير مادة الصوف التي شهدت أسعارها ارتفاعا، حيث كان ثمن الكيلوغرام الواحد سابقا لا يتجاوز سبعة دنانير (نحو دولارين ونصف الدولار) في حين بلغ اليوم 12 دينارا (أربعة دولارات)، كما أنه يتكفل بمصاريف التنقل إلى محافظة سوسة المجاورة لشراء الصوف من أحد الوسطاء.

ويحرص جمال على المشاركة في معارض مدينته، وهو سعيد ومكتف بذلك لأن المشاركة تكون مجانية، في حين يرفض التواجد في معارض المحافظات الأخرى لأنه سيتكفل بمصاريف التنقل وحده، كما أن المشاركة تشترط إيجار مكان للعرض.

تراث وطني
يعمل جمال بكل ما أوتي من قوة للمحافظة على مهنة نسيج القشابية اليدوية من الاندثار؛ متحديا عمره وحالته الصحية بإدخال بعض التعديلات وروح التجديد فيها، عبر إضافة ألوان وأشكال جديدة وتوسيع دائرة زبائنه لتشمل النساء وليس الرجال فحسب.

ووفق جمال، ترفض أجيال اليوم تعلم الحرف التقليدية التي تعد تراثا وطنيا لأنهم يرونها صعبة، ويتابع ضاحكا "هم يفضلون كل شيء سهل، يريدون الحصول على المال وهم جلوس دون بذل أي مجهود".

عدم الإقبال على تعلم هذه الحرفة والخوف من فقدانها مع مرور الوقت، زادا من عزيمة وإصرار جمال والنساجين الذين يعدون على أصابع اليد؛ ليتمّوا ما توارثوه عن أجدادهم متحدّين كل العوائق.

المصدر : الجزيرة