رحلة تاكسي درويش من رام الله إلى عمّان بربع دينار

رحلة تكسي درويش في مهرجان الصورة
رحلة تاكسي درويش في مهرجان الصورة (الجزيرة)

    ميرفت صادق-رام الله

في مكتب قديم بباب مقوّس يفضي إلى دوار المنارة وسط مدينة رام الله، كان ناصر درويش يتلقى اتصالات المسافرين التي لم تنقطع منذ سبعة عقود لحجز مقاعدهم إلى استراحة أريحا ثم إلى الأردن عبر جسر الملك حسين.

وبين صور سيارات من الخمسينيات والستينيات وحتى التسعينيات، يروي مكتب درويش -الذي يعد أقدم محطات نقل الركاب بالضفة الغربية- "ذاكرة الزمن الجميل" كما سماها مسار تثقيفي نظمه "مهرجان الصورة في فلسطين" والذي يحتفي بأرشيفات فوتوغرافية قبل وبعد النكبة.

ويقول مدير المكتب وأقدم سائقيه محمود درويش الحاج ياسين (57 سنة) إنه أسس كأول محطة للنقل الخاص عام 1955 على يد عائلته في رام الله بعد تهجيرها من مدينة اللد. وكان أبناؤها يمتهنون النقل على خط اللد يافا قبل أن تقع مدينتهم في أيدي العصابات الصهيونية في النكبة عام 1948.

وفي صدر المكتب صورة بالأبيض والأسود لمؤسسه درويش الحاج ياسين، وأسفلها عُلق مفتاح عمره سبعون عاما لبيته في اللد. يقول محمود ابن الجيل الثالث من سائقي العائلة وهو يبتسم "هذا الحديد بقي في دمنا أبا عن جد".

‪حتى عام 1967 أصبح لدى مكتب درويش 22 مركبة نقل أميركية الصنع‬  (الجزيرة)
‪حتى عام 1967 أصبح لدى مكتب درويش 22 مركبة نقل أميركية الصنع‬  (الجزيرة)

أبو الهول
بدأ المكتب بنقل الركاب في خط (رام الله عمان الشام بيروت) وصار لديه فرع في دمشق ولا زال قائما باسم "مكتب تاكسي أبو الهول" حتى اليوم، وكذلك في بيروت وأصبح اسمه "مكتب تاكسي الحداد".

وحتى عام 1967 أصبح لدى مكتب درويش 22 مركبة نقل أميركية الصنع " ثمن الواحدة لا يقل عن 1700 دينار أردني، وكان يعادل عشرين دونما في رام الله" كما يقول.

وفي المكان الذي لم يتغير منذ إنشائه، يشير محمود درويش إلى صورة ثلاث حافلات اشتراها والده من الأردن عام 1952 كانت أيضا تنقل الخضار والفواكه من فلسطين إلى بلاد الشام. ويقابلها أقدم صورة لوالده مع سيارتين من نوع " توزوطو فوكسكون " الأميركية عام 1951.

على الجدار المقابل علقت صورة سيارة من نوع شيفروليه وتعود لعام 1965 يقف بجانبها الأب درويش في المكان الذي تحول إلى مقر الرئاسة الفلسطينية برام الله، وكان مقرا للحكم الأردني ثم سجنا ومقرا للحكم العسكري الإسرائيلي حتى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993.

وحصلت عائلة درويش تاريخيا على تراخيص قيادة ونقل من أربع سلطات، إذ امتلك جده يوسف الحاج ياسين ترخيص قيادة ونقل من الانتداب البريطاني باللّد، ثم حصل والده على رخصة من الحكم الأردني بعد النكبة وحتى حرب 1967، ثم من الاحتلال الإسرائيلي حتى قدوم السلطة الفلسطينية.

‪بين صور لسيارات من الخمسينيات والستينيات وحتى التسعينيات يروي مكتب درويش
‪بين صور لسيارات من الخمسينيات والستينيات وحتى التسعينيات يروي مكتب درويش "ذاكرة الزمن الجميل" (‬ الجزيرة)

رحلة أسبوعية للكويت
ونقلت سيارات درويش الركاب من رام الله والبيرة وقراهما إلى بلاد الشام، ثم إلى الكويت في السبعينيات حيث رحل آلاف الفلسطينيين بحثا عن عمل بعد هزيمة 1967.

كان المكتب يسيّر رحلة أسبوعية يوم الخميس من رام الله إلى الكويت في مسافة 1650 كيلو مترا على مدار يومين. وبعد احتلال 1967، استمر في نقل الركاب من رام الله إلى منطقة العبدلي في عمان حتى عام 1971، حتى أغلقت إسرائيل الحدود، وتحول النقل من رام الله إلى آخر نقطة يسيطر عليها الاحتلال في الحدود مع الأردن حتى عام 1993.

كانت الرحلة من رام الله إلى العبدلي بالعاصمة عمان لا تتجاوز ساعة وخمس دقائق بمسافة 87 كيلومترا، وأجرة الراكب "ربع دينار أردني، عندما كانت تنكة البنزين بعشرين قرشا فقط" كما يذكر درويش. وما زال الرجل يشتاق إلى ماضي السفر بالسيارة إلى الأردن مباشرة، وإلى تناول الفطور في مطعم القدس بعمّان قبل أن يقفل عائدا إلى رام الله.

ومن ذكريات "الزمن الجميل" في تاكسي درويش، تخصصه في نقل الأعراس فيما يسمى "الفاردة" (موكب العروس) من رام الله ومناطق وسط الضفة إلى الأردن وبالعكس. ويذكر درويش أن سياراته نقلت موكب عروس عمه مسعد درويش من عمان إلى رام الله في الستينيات.

كما نقلت مركباته مثقفين وفنانين عربا لإحياء أمسياتهم في فندق هيلتون الذي تحول إلى كلية تمريض ثم مجمع تجاري وسط رام الله. كما نقلت أمراء وعائلات كويتية اتخذت من أحد أحياء رام الله مصيفا لها في الستينيات، ولا زالت بيوتها قائمة حتى الآن.

وبحكم موقعه وسط المدينة، يذكر درويش أياما طويلة من الإغلاقات الإسرائيلية تحت منع التجول في الانتفاضة الأولى نهاية الثمانينيات، وتحت الاجتياحات التي تعرضت لها رام الله عام 2002، حيث استقرت الدبابات الإسرائيلية لأسابيع أمام المكتب.

مع بداية الانتفاضة أواخر 1987 طلب النشطاء من المكتب استخدام يافطة تميزه باسم تاكسي الجسر كي لا يتعرض للمنع عند دخول القرى التي كانت عرضة لاقتحامات المستوطنين والمستعربين بسيارات مدنية

تاكسي الجسر
ومع بدايتها أواخر عام 1987 طلب نشطاء الانتفاضة من المكتب استخدام يافطة تميزه باسم "تاكسي الجسر" كي لا يتعرض للمنع عند دخول القرى التي كانت عرضة لاقتحامات المستوطنين والمستعربين بسيارات مدنية. ولا زالت هذه الشارة الزرقاء معلقة في صدر المكتب منذ ثلاثين عاما.

وتقول منسقة مهرجان الصورة ياسمين عطون -والذي ينظم في نسخته الثانية هذا العام- إنه يسعى لتعريف الأجيال الفلسطينية من خلال أرشيف الصور الفوتوغرافية بالحياة الاجتماعية والاقتصادية قبل وبعد النكبة.

وعلى مدار أسبوعين قدم المهرجان أنشطة لأرشيفات مصورة عن حياة الفلسطينيين بمناطق مختلفة. ونظم معرض لصور تاريخية التقطها عميد المصورين الفوتوغرافيين الفلسطينيين خليل رعد الذي افتتح استوديو بشارع يافا بالقدس عام 1890.

المصدر : الجزيرة