السوق نازل.. نابلس تحيي ليالي رمضان بطريقتها

عاطف دغلس-نابلس

يحمل أحد الأطفال "شعر البنات"، وهي حلوى تصنع من السكر، وآخرون يرفعون عاليا ألعابا من البالونات مختلفة الألوان والأشكال، وتصدح أصواتهم البريئة بالأناشيد الرمضانية.. هؤلاء الصبية لهم نصيب الأسد في "السوق نازل" وفعالياته المختلفة.

إلى زمن قديم تعود حكاية نابلس وتقليدها الرمضاني (السوق نازل) في مشهد يجمع بين تراث المدينة وتاريخها الممتد لآلاف السنين وينعش ذاكرتها بعرف سنوي لم يغب عن البال وإن بات يقتصر على يوم واحد في أواخر الشهر المبارك.

في "السوق نازل" كان الأطفال ينطلقون من إحدى حواري المدينة القديمة بعد الإفطار مباشرة يجوبون شوارعها وهم يحملون فوانيس تقليدية بأيديهم أعدت من البطيخ بعد أن تم تفريغه ووضعت شمعة داخله بحثا عمن يملأ جيوبهم بالحلويات والسكاكر مما جاد به الباعة المتجولون مرددين أهازيج "السوق نازل" ليستقر بهم المقام عند "باب الساحة"، وهو مكان للتجمع داخل نابلس القديمة.

وهناك ينشد العدِّيدة (الفرق الدينية) المدائح النبوية، ثم تلقى على الأسماع قصص وحكايات يرويها "الحكواتي" أو المشخصاتي"، وهو شخص يجسد الرواية بالتمثيل أيضا أو صندوق السينما الصامت.

عاشت نابلس هذا المشهد الليلة قبل الماضية، وأحيت تقليدها السنوي بحضور مئات المواطنين والأطفال عند دوار الشهداء وسط المدينة، وفاضت مشاعر الحاضرين فرحا وطربا على أصوات الأناشيد الدينية والأغاني التراثية والحكايات النابلسية.

وكان رائد خليلية وزوجته صابرين وأطفالهما الأربعة أول الحاضرين إلى السوق، جاؤوا مشيا على الأقدام من "العقبة" إحدى حارات نابلس القديمة لدوار الشهداء حيث الاحتفال، ودأب الرجل على فعل ذلك كل سنة، حيث يأتي بعائلته ليعيشوا جوا روحانيا يحافظون فيه على هذا الموروث النابلسي.

ويحاول رائد في كل مرة تعليم أطفاله شيئا من هذه العادات، ويقول إن "تزاحم الأجيال" غيّب مثل هذه التقاليد الجميلة وأوجد "عادات دخيلة" على نابلس وغيرها من المدن الفلسطينية وأفقدها رونقها، مضيفا أن دورهم الآن يكمن بالحفاظ على هذا التراث النابلسي.

‪الحضور من الأطفال في
‪الحضور من الأطفال في "السوق نازل" يجنون ألعابا وهدايا صغيرة توزع عليهم‬ (الجزيرة)

احتفال الأطفال
في المكان أيضا بدا مشهد الأطفال وهم يعتلون أكتاف آبائهم وأجدادهم، وهذا أحد طقوس "السوق نازل"، وبهذه الطريقة يبصرون الاحتفال جيدا ويتمكنون من جمع "الحسنات" من الحلويات المختلفة وبعض الألعاب والهدايا الصغيرة.

حمل الجدان طلال وسمر عبيد اللذان ولجا عقدهما السادس حفيدهما الصغير وطافا به في المكان وكأنهما ينعشان ذاكرتهما بتجربة مرا بها قديما فأعادتهما إلى ذكريات جميلة ملكوا بها وهم أطفال صغار مطلق الحرية حين كانوا يبتاعون لأنفسهم "ما لذب وطاب" من الطعام والشراب كالترمس والبوظة والعصائر بمختلف أنواعها.

وفي المكان لبى الباعة المتجولون رغبة الحضور -ولا سيما الأطفال- بتوفير احتياجاتهم من الذرة المسلوقة و"شعر البنات"، وهي لحظة يستغلها الأطفال لشراء كل ما يرغبون، فالآباء يكونون قد رتبوا أنفسهم ماليا لهذا الغرض.

وهم يتناولون طعامهم تطربهم فرقة "العراضة" النابلسية المشابهة لنظيرتها الشامية بأصواتها العذبة على وقع كلمات "السوق نازل" التي تقول

عالسوق نازل يا نازل

تحت المنازل يا نازل

وانزلت عالسوق نازل

ولقيت لي تفاحة

حمرا حمرا لفاحة

حلفت ما بدقهي "أتذوقها"

ليجي خيّي وبيّي

إجا خيّي وبيّي

أطلعني عالعلّية

لقيت شب نايم

غزّيته غزّيته

وشربت من زيته

زيته تمر حنّا

معلق باب الجنة

يا جنة ما أحلاكِ

رب السما حلاكِ

وبين الحين والآخر يتوقف ربّان الفرقة ليعيد الحضور من خلفه بعض مقاطع الأغنية وكلماتها، ويصر عليهم في ذلك ليتأكد من حفظهم لها.

‪الحكواتي النابلسي طاهر باكير يروي قصص
‪الحكواتي النابلسي طاهر باكير يروي قصص "السوق نازل" وحكاياته‬ (الجزيرة)

وما إن يفرغ المنشدون حتى يكون طاهر باكير الحكواتي النابلسي قد أعد نفسه جيدا، يرتدي الرجل زيه النابلسي القديم ويعتمر "طربوشه" الأحمر ثم يبدأ بسرد قصصه -ولا سيما "الديك الهادر"- التي تنعش الأطفال وتثير ضحكاتهم فتملأ المكان فرحا.

لكن باكير لا يأتي على تلك الحكايات قبل أن يأتي على ذكر مناقب نابلس أو "دمشق الصغرى" و"عتبة الشام" كما كانت تسمى كمدينة نسجت مع دمشق وحلب تراث بلاد الشام وكانت محطة للعلم والعلماء واشتهرت بصناعاتها التي ذاع صيتها كالصابون والحلويات، ولا سيما الكنافة.

ويضرب الرجل وبلهجته النابلسية التي يمد فيها الحرف الأخير مع كسره على الوتر العاطفي وهو يحدث الناس أخبار مدينتهم، لعله يعود بهم إلى ذاك الزمن الجميل بإحياء مراسم السوق نازل حين كانت تسوق الأطفال فتاة تكبرهم سنا في شوارع البلدة القديمة وكلما مرت بأحد الباعة المتجولين تنشد قائلة:

ينياتي ينياتي.. أجوزكن أجوزكن

فترد الطفلات الصغار: لمن يما.. لمن يما

فتقول: للحلواني.. الحلواني

فإن استجاب البائع وأطعمهن يرددن خلفها "نريده نريده" وإن لم يستجب يرددن "ما نريده ما نريده"، وهكذا مع بقية الباعة.

وهناك "كيس (وعاء) الحوايج" وكان يصنع من القماش ويتدلى بخيط رفيع من فوق أعناق الأطفال، حيث يجمعون فيه قبل موعد الإفطار الحلوى والسكاكر ليأكلوها بعد الإفطار.

كل هذا -حسب قول الحاج عدلي يعيش رئيس بلدية نابلس إحدى الجهات القائمة على فعالية "السوق نازل"- للحفاظ على هوية المدينة وتراثها الأصيل الذي يعمل الاحتلال الإسرائيلي على سرقته كما فعل بالأرض والفلافل والحمص والأزياء أيضا.

المصدر : الجزيرة