طالا حديد وفيلم "إطار الليل".. شاعرية التيه والفوضى

بوستر فيلم إطار الليل

نزار الفراوي-الرباط

حينما انتظر جمهور السينما ونقادها جديد إبداعات المخرجين المغاربة الراسخين في المشهد السينمائي المحلي، جاءت المفاجأة من مكانٍ وجيلٍ غير متوقعين، فعلى منصة التتويج في ختام المهرجان القومي للسينما بطنجة، عادت الجائزة الكبرى لمخرجة شابة آتية من لندن، تحمل جنسية مزدوجة مغربية عراقية، قدمت للعالم أول فيلم طويل لها.

تتويج طالا حديد بالجائزة الكبرى للمهرجان التي تنافس عليها 15 فيلما من قبل لجنة ترأسها الروائي والناقد محمد برادة، زكاه المحفل النقدي المغربي، حيث منحت الجمعية المغربية لنقاد السينما جائزتها الموازية للمخرجة نفسها، وهو تطابق في الخيارات نادر الحدوث في تاريخ المهرجان.

في "إطار الليل"، تنطلق طالا من الحكاية ثم تكاد تستغني عنها. لا تحتاج إلا لأمشاج سردية متباعدة من أجل إنتاج المعنى وتوليد الانفعال واستفزاز وعي المشاهد. فالقصة مبرر وليست غاية، وهي إحدى عناصر المادة السينمائية وليس مجملها ولا حتى الركن الأساسي في تشكيلها.

لقاء عقدته المخرجة طالا حديد في إطار المهرجان القومي للسينما بطنجة (الجزيرة)
لقاء عقدته المخرجة طالا حديد في إطار المهرجان القومي للسينما بطنجة (الجزيرة)

مصائر تائهة
والحال أن بدايات الفيلم -ما لم يتم الانتباه إلى اللمسات الفنية على عناصر مثل الإيقاع وتشكيل الإطار وزوايا التصوير- قد توهم البعض بأن المخرجة بصدد بناء وضعيات لتقديم قصة تشويق نمطية، في انتظار المرور إلى إيقاع متسارع يستبد بالمشاهد العادي.

يحدث لقاء بين مهاجر عائد إلى المغرب بفتاة ليل من جهة، وصفقة لتهريب طفلة قصد بيعها لثري في بلجيكا من أجل الاستغلال الجنسي من جهة أخرى، ثم يحدث اللقاء المصادفة بين الشاب العائد والثنائي الذي يحاول إتمام عملية التهريب (شاب وصديقته) مقابل مبلغ كبير.

لكن هذا الاشتباك لا يلبث أن يأخذ منحى آخر يصب في اتجاه رسم ملامح عينات بشرية حاملة لكيانات هشة وأعماق منخورة ومصائر تائهة في معمعة الفوضى التي يسبح فيها العالم، وخصوصا العالم العربي.

خارطة للتيه والفرار إلى المجهول ترسمها طالا حديد وفق فضاء مكاني تشكله ثلاث وحدات: المغرب كمنطلق للرحلة، وتركيا كمحطة عبور، والعراق كمقصد لرحلة الشخصية الرئيسية. وعبر هذه الأمكنة ترتسم حكايات وتتشكل معالم شخصيات رئيسة وثانوية، قاسمها الخوف وضياع المعنى والبحث عن الأمان المفقود والشعور بالعراء.

البطل الرئيسي يعود من لندن إلى المغرب بعد علمه باختفاء أخيه وهجرته إلى العراق عن طريق جماعة ما، غالبا للقتال في أرض حرب لا يعرف حتى أطرافها. ويشد الرحال إلى العراق عن طريق تركيا للبحث عن إبرة في الصحراء.

وبينما يخوض محاولة لفك لغز الاختفاء في المغرب، يصادف المهربين رفقة الطفلة التي تستنجد به، فيفر بها إلى صديقة أوروبية تقيم في المغرب للعناية بها، في أفق أن يعود من المهمة، أو لا يعود.

من تركيا، حيث يلتقي لاجئان عراقيان، يحاول البطل الحصول على معلومات تساعده على الوصول إلى أخيه، فيتسلل إلى العراق ليهيم في مستنقع يطفح بالدم والفوضى، ويكاد الكائن فيه يطبع علاقته بالمأساة.

سمات مشتركة
الحكايات في "إطار الليل" مفتوحة، ووظيفتها تسليط الضوء على هشاشة الفرد وتيهه في عالم الفوضى والظلم، وتوريط المشاهد في أسئلة قلقة حول الذات والآخر والعالم، ذلك لأن البياضات والثقوب التي تخرق السرد الفيلمي تسائل مشاهدا غير كسول لا يستهلك القصة المرئية فقط بل يشارك في رسم المآلات الممكنة والسيناريوهات المحتملة.

الهشاشة والتيه سمة مشتركة بين الشخوص. فالبطل الرئيسي زكرياء (شخّص دوره الممثل البريطاني المصري الأصل خالد عبد الله) ضائع في طريق البحث عن أخيه الراحل إلى العراق.

عائشة، الطفلة اليتيمة الضائعة (المغربية فدوى بوجوان) خائفة من مصير مجهول في سوق النخاسة الحديثة، وتسعى إلى الهرب من مهربيها لكنها لا تعرف الى أين تذهب، فليس لها حضن تعود إليه.

الحكايات في فيلم "إطار الليل" مفتوحة ووظيفتها تسليط الضوء على هشاشة الفرد وتيهه في عالم الفوضى والظلم، وتوريط المشاهد في أسئلة قلقة حول الذات والآخر والعالم

والمهرّب نفسه عباس (الفرنسي ذو الأصل الجزائري الحسين شطري) ضائع في عالم الإدمان، ويعول عبثا على مقابل قذر لعملية خطف الطفلة من أجل مستقبل أفضل. وصديقته نادية (المغربية ماجدولين الإدريسي) خائفة من المجهول ولا تعرف كيف تتخلص من ورطة الجريمة.

والصديقة الفرنسية للبطل التي تستقبل الطفلة جوديث (الممثلة الكندية الفرنسية المعروفة ماري جوزي كروز) تائهة بفقدان طفلها كما توحي بذلك صور وألعاب في البيت، ولعلها قصدت الريف المغربي هربا من مأساة تخنقها. وكذلك الشخصيات الثانوية من تلك التي التقاها البطل في تركيا والعراق، كلها تحمل وزر الحرب والعنف وشعور الخوف من المستقبل.

تقول طالا حديد إنها لم تكن معنية بقص حكايات لها بدايات ونهايات، غير أن خرق أنماط السرد السينمائي الكلاسيكي لا يشفع لها -كما عبر عن ذلك عدد من النقاد- في وجود مشاكل في صنع الروابط التكاملية بين الوحدات السردية وإيجاد الدوافع السببية المنطقية للأشياء، مما انتقص من القيمة الفنية الكلية للفيلم.

ومع ذلك، قدمت طالا شهادة مخرجة سينمائية قادمة بقوة، معتدة بتصور خاص للكتابة السينمائية، مراهنة على جماليات الشعر والتشكيل في تغذية الإطار والحركة.

وبدأت مسارها في الفيلم الطويل بعمل يستقي من هويتها المتعددة، البريطانية المغربية العراقية، وينتظر النقاد أفق تطورها الإبداعي في قادم المشاريع.

المصدر : الجزيرة