"أصوات ممنوعة" يكشف صدمة إسرائيل بعد حرب 67

صورة أرشيفية للجنود الاسرائيليين يحتفلون بالنصر في 67
صورة أرشيفية للجنود الإسرائيليين يحتفلون بالنصر عام 1967 (الجزيرة)

أمير العمري

شهد مهرجان برلين السينمائي في طبعته الـ65 عرض فيلم وثائقي طويل من إسرائيل بعنوان "أصوات ممنوعة" Censored Voices للمخرجة مور لوشي.

وكشف الفيلم للمرة الأولى عن عدد من التسجيلات الصوتية التي نجحت لوشي في الوصول إليها، وكانت قد أجريت مع عدد من الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في حرب يونيو/حزيران 1967 بين العرب وإسرائيل.

كان المؤرخ الإسرائيلي أبراهام شابيرا، والكاتب عموس عوز، قد أجريا تلك التسجيلات في عدد من الكيبوتزات الإسرائيلية بعد انتهاء الحرب بأيام قليلة (من أسبوع إلى أسبوعين) لمعرفة رد فعل الجنود على ذلك النصر الكبير الذي تحقق على الجيوش العربية الثلاثة في مصر وسوريا والأردن، وكيف استقبل الجنود "صدمة" النصر، وكيف ينظرون إلى مشاركتهم في الحرب، وبوجه خاص، ما اكتنفها من أعمال قتل جماعي بلغت ضراوتها في سيناء، حيث قتل عدد كبير من الجنود المصريين ووقع عدد آخر في الأسر.

‪الكاتب عاموس عوز يستمع لشهادات جنود إسرائيليين‬ (الجزيرة)
‪الكاتب عاموس عوز يستمع لشهادات جنود إسرائيليين‬ (الجزيرة)

صدمة نفسية
ويبتعد الفيلم تماما عن الصورة الشائعة في الوثائقيات الإسرائيلية التي تركز عادة على البطولة والنصر والشجاعة، والقدرات الخاصة على الاقتحام والمناورة وتبرير الحرب.

صحيح أن الفيلم، من خلال التعليق الافتتاحي الصوتي المصاحب، بصوت المخرجة، يرى أن الحرب كانت ضرورية، فهي تتبنى النظرية السائدة في إسرائيل التي يتعلمها التلاميذ بالمدارس وتقول إن إسرائيل كانت مهددة بالزوال، وإن عبد الناصر كان قد حشد قواته في سيناء لمحو إسرائيل من الوجود، كما حاول خنقها اقتصاديا بعد إغلاق مضيق العقبة.

لكن الفيلم يرى، في الوقت نفسه، أن الحرب، التي تحقق فيها نصر فاق كثيرا ما كان متوقعا، قد أحدثت صدمة نفسية شديدة للجنود الذين شاركوا فيها وكانوا شبابا يافعين وقتها.

وسعت المخرجة لاكتشاف كم كانت الحرب -رغم كل مبرراتها- أمرا بشعا، فهي لم تتسبب فقط في تدمير جيوش "العدو" بل وفي تدمير الروح المعنوية لكثير من الجنود الذين لم يتوانوا عن الحديث عما شاركوا فيه من فظائع بعد أيام قليلة من انتهاء الحرب، وفي الوقت الذي كان الشارع الإسرائيلي يحتفل بالنصر الكبير ويعتبر هؤلاء الجنود "أبطالا قوميين".

يقول أحد الجنود الإسرائيليين في الفيلم تعليقا على "تحرير القدس" إن القدس كما رآها في تلك الليلة لم تكن مدينة محررة بل مدينة تحت الاحتلال

شهادات الجنود التي نستمع إليها في "أصوات ممنوعة" تقول إن الصدمة جاءت بعد أن أصبحت إسرائيل قوة احتلال، وأصبح مطلوبا منهم قمع وترويع وتهجير الفلسطينيين في الضفة الغربية مثلا، وممارسة كل أنواع التفرقة والاضطهاد، مما ولد لديهم صورة كئيبة لمعنى الحرب ومعنى الاحتلال، وأن الهدف لم يعد حماية الدولة اليهودية بل سلب الآخرين حريتهم.

ويقول أحد الجنود في الفيلم تعليقا على "تحرير القدس" إن القدس كما رآها في تلك الليلة "لم تكن مدينة محررة.. بل مدينة تحت الاحتلال"!

وكان من المفترض أن تنشر تلك التسجيلات في الكتاب الذي أعده أبراهام شابيرا بعنوان "اليوم السابع" إلا أنها تعرضت للرقابة العسكرية في إسرائيل التي منعت أكثر من 70% منها من النشر.

وقد سعت المخرجة للحصول على التسجيلات الأصلية التي تبلغ مائتي ساعة من شابيرا الذي كان مترددا في البداية، ثم وافق على أن تستخدم المخرجة الشرائط الأصلية، كما وافق على الظهور مع عموس عوز بالفيلم والتعليق على الشهادات التي نستمع إليها في حضور الكثير من أصحابها الذين تغيرت مواقفهم ونظرتهم للحياة وللعالم، وأصبح معظمهم اليوم من دعاة السلام أو على الأقل من رافضي استمرار السياسة الإسرائيلية الحالية ضد الفلسطينيين.

هولوكوست ضد العرب
ويحتوي الفيلم على عدد كبير من الوثائق المصورة التي حصلت عليها المخرجة من بريطانيا والولايات المتحدة وأرشيف الجيش الإسرائيلي أيضا، تصاحب التسجيلات الصوتية وتوازيها، ومنها لقطات كثيرة بالأبيض والأسود لم يسبق أن عرضت في إسرائيل نفسها من قبل.

يتحدث جندي عن الطرد والتهجير الجماعي للفلسطينيين من بلدات الضفة الغربية، ويشبّه ما وقع هناك بما وقع لليهود على أيدي النازيين خلال الحرب العالمية الثانية

وتضمنت الصور مشاهد لحملة سيناء واقتحام القدس وغزة، وتجميع الفلسطينيين في مجموعات، وإطلاق الرصاص على الرجال وقتل الأسرى المصريين، وتحول الجنود من دورهم الذي لقنوا إياه إلى قوة احتلال تمارس القهر والقمع والقتل يوميا، وما نتج من تأثير نفسي عليهم، وشعور بنوع من المرارة والرفض والتمرد الذي ربما ظل مكتوما حتى اليوم.

ويتذكر أحد الجنود كيف مارس الضباط أمام عيونهم قتل الأسرى، ودفعوهم دفعا للقتل تنفيذا لتعليمات القيادة التي كانت تطالبهم بعدم استخدام الرأفة مع الجنود المصريين في سيناء.

وفي مشهد طويل يستغرق نحو ثلاث دقائق، نرى في لقطة تتابع فيها الكاميرا من مروحية صفا طويلا ممتدا من حطام المعدات والدبابات والمصفحات المصرية على طريق طويل داخل سيناء، بينما تناثرت جثث الجنود من حولها في الصحراء.

ويتحدث جندي عن الطرد والتهجير الجماعي للفلسطينيين من بلدات الضفة الغربية، ويشبّه ما وقع هناك بما وقع لليهود على أيدي النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. ويقول إنك عندما ترى سكان قرية كاملة قد أرغموا على الرحيل دون أدنى مقاومة، عندئذ تدرك معنى الهولوكوست.

ويقول جندي آخر إنه أدرك أن الحرب قد حولته وزملاءه إلى مجموعة من القتلة.

‪أحد الجنود الإسرائيليين في حرب 1967‬  (الجزيرة)
‪أحد الجنود الإسرائيليين في حرب 1967‬  (الجزيرة)

مأزق إسرائيل
بعض الجنود يستدركون، ويقولون إن الجانب الآخر
-العربي- ربما كان سيستخدم نفس القسوة معهم إذا كانت نتيجة الحرب قد انتهت لصالحهم، إلا أنهم في الوقت نفسه لا يستطيعون تبرير ما ارتكب بحق العرب في الأراضي المحتلة، ومعظمهم من الآباء والأمهات، ويطرحون الشكوك حول مثاليات الفكرة الصهيونية وفكرة البطولة نفسها.

هل المقصود من الفيلم تقديم صورة "إنسانية" لجنود الجيش الإسرائيلي، ونقل صورة عن شعورهم بالذنب، وهل تصوير مثل هذا الفيلم الآن يعكس نوعا من "التكفير" ولو عن طريق استعادة المقابلات المسجلة في الماضي وتجمد وجوه الجنود السابقين الذين تتجمد أيضا الدموع في عيون الكثيرين منهم وهم يستمعون إلى أصواتهم المحجوبة لسنوات طويلة؟

أم أن المعنى الذي يمكن أن يخرج به المشاهد أبعد من ذلك، إذ يصل إلى الوعي بوجود إدراك مبكر – كما يقول عموس عوز- بفداحة المأزق الذي ستجد إسرائيل نفسها فيه في المستقبل، أي عجزها حتى اليوم عن تحقيق السلام رغم الانتصار في الحرب!

وإذا كانت مخرجة الفيلم مور لوشي تقول إنها مستعدة لأن تقاتل من أجل السلام، فلاشك أن الواقع القائم على الأرض يظل أقوى من كل الكلمات.. ومن كل الأفلام! 

المصدر : الجزيرة