فاطمة خضر.. مناضلة يشغلها هم القدس والأقصى

المقدسية فاطمة خضر ترفع العلم الفلسطيني في باحات الأقصى خلال وقفة تضامنية مع الأسير خضر عدنان(
وضع المستوطنون مؤخرا صورة لفاطمة خضر على منشور تحريضي قبالة قبة الصخرة (الجزيرة)
أسيل جندي-القدس

في باحات المسجد الأقصى يصدح صوتها بالهتاف نصرة له وانتقادا للحكام العرب، وعلى مدرجات باب العامود لا تتأخر عن المشاركة في كل الوقفات التضامنية مع الأسرى وأهالي الشهداء وضد كل القرارات التعسفية بحق القدس وسكانها وخلال المناسبات الوطنية.

إنها الستينية فاطمة خضر..  رفيقها الدائم العلم الفلسطيني الذي لم تستبدله يوما بأعلام الفصائل حتى باتت أيقونة لصمود المرأة المقدسية وهدفا للاحتلال ومستوطنيه، الذين وضعوا صورتها مؤخرا على إحدى المنشورات الداعية لتنظيم اقتحامات جماعية للمسجد الأقصى في تحريض واضح للاعتداء عليها.

بنت الوطن
أربعة استدعاءات تبعتها جلسات تحقيق مع فاطمة قالت خلالها للمحققين "افعلوا ما تشاؤون، أنا بنت هذا الوطن وصاحبة حق وقضية، وسأقف بوجه ظلمكم حتى النفس الأخير".

فاطمة خضر تقسّم وقتها بين تطريز قطعة تراثية جديدة والمشاركة في فعاليات رفض الاحتلال بالقدس (الجزيرة)
فاطمة خضر تقسّم وقتها بين تطريز قطعة تراثية جديدة والمشاركة في فعاليات رفض الاحتلال بالقدس (الجزيرة)

"باسم الحرية نضحي بالأرواح.. فلسطين عربية يا أرض الكفاح.. فلسطين بلدي لأبوي وولدي واللي متعدي روحه بايديا (يديّ).. إحنا مش ناسيين أرضك يا فلسطين يا بلادي راجعين بنار الفدائية.. ببارود ومدافع عن وطني بدافع يا بلادي راجعين بعلم الحرية".

ترددت هذه الأغنية الوطنية على مسامع المناضلة المقدسية منذ نعومة أظفارها، ورددتها آلاف المرات في طفولتها وشبابها، وتواظب على ترديدها الآن في شيخوختها بكل الوقفات التضامنية والاحتجاجات والاعتصامات التي تنظم بالمدينة المحتلة.

ليست أزقة القدس ومصليات الأقصى وساحاته تعرفها وتعاتبها إذا لم تدافع عنها، حسب قولها، بل كل أمهات الشهداء والأسرى في كافة محافظات الضفة الغربية، إذ تنشط فاطمة في تنظيم زيارات لهن برفقة مقدسيات أخريات، بالإضافة لزيارة أصحاب المنازل المهدّمة للتخفيف عنهم.

في بلدة شعفاط شمال القدس تستقر المسنة مع أبنائها في منزل مستأجر، تستقبل ضيوفها في الشارع بثوب فلسطيني تراثي وكوفية تنسدل على أكتافها، ومعصم صوفي بعلم فلسطين تضعه في يدها اليمنى "بيتي صغير لا يكاد يتسع لمطرزتي اليدوية يا خالتي"، تقول فاطمة.

هتاف وتطريز
".. أنا إما أهتف بالميدان وإما أطرز بالمنزل في أوقات الفراغ.. تعلمت التطريز بعمر التاسعة من أمي وجدتي وعرفت أن لكل غرزة حكاية، فتلك تحكي عن الربيع وأخرى عن العروس وثالثة عن السنابل"، تضيف ابنة القدس.

بينما تحضر أم أيمن (فاطمة) كأس الشاي يتجول بصر الزائر بين عشرات القطع التراثية التي وضعتها على مقاعد غرفة الجلوس بمنزلها، هنا أثواب وهناك حقائب وشالات، وفي الزاوية مجموعة من الوسائد التي تربعت صورة قبة الصخرة المشرفة عليها، ويجاورها مفتاحان ضخمان، أحدهما أهدته إياها جدتها ويعود لمنزل العائلة التي هجرت منه قبل سبعين عاما.

"التراث هويتي، أتجول به في معارض داخل القدس وخارجها، ولا أخرج من منزلي إلا بالزي الفلسطيني التقليدي، أنتخلّى عن جذورنا؟ أنا لاجئة بوطني وأتمسك بتراثي لاعتقادي أنه من الوسائل التي ستعيدنا لقرانا التي هجّرنا منها قسرا"، تضيف ابنة القدس وعاشقة الأقصى.

مطرزات بيد فاطمة خضر يضيق بها منزلها المستأجر ببلدة شعفاط (الجزيرة)
مطرزات بيد فاطمة خضر يضيق بها منزلها المستأجر ببلدة شعفاط (الجزيرة)

بين إجابة وأخرى إما تمدد فاطمة ساقيها متألمة وإما تتنفس بعمق، وهي تضع يدها على صدرها "جسدي منهك يا خالتي.. مئات الإصابات خلال الوقفات والاحتجاجات من الجيش والشرطة بدءا من الصعق بالكهرباء مرورا بالضرب المبرح بالهراوات وليس انتهاء بالقنابل الصوتية والغاز المدمع والرصاص المطاطي، لكن لا أكذب حين أقول إنني لا أخشى ذلك بتاتا لإيماني بأنني أقف على أرض صلبة تعرف أنني صاحبة الحق وأنهم طارئون".

مسلسل التهجير
لم يكن تعلق فاطمة بالقدس إلا نتيجة طبيعية لمسلسل من المعاناة عرّفها أكثر بقيمة الوطن. فقد ولدت بعد النكبة بعشرة أعوام، لكنها عاشت حسرة التهجير من حكايات أمها وجدتها المهجّرتين من قرية بئر ماعين قضاء الرملة عام 1948، واستقر بهما المقام في حارة الشرف المجاورة للمسجد الأقصى المبارك، وهناك بدأ العشرات من أهالي القرية حياة جديدة.

"أجمل سنين حياتي عشتها في حارة الشرف، درستُ هناك حتى الصف الثالث الابتدائي، لم نغلق أبواب منازلنا يوما، بل كانت دائما مشرعة، حملت جرة الماء على رأسي منذ صغري وكنت أملأها من عيون سلوان المجاورة.. نسهر حتى الصباح ليأتي دورنا على الفرن لخبز كعك العيد.. طيف هذه المشاهد لا يفارقني رغم مرور خمسين عاما عليها"، تقول فاطمة.

لم يمض العقد الثاني على تهجير أسرة فاطمة من قريتها بئر ماعين إلى حارة الشرف حتى أجبرت على النزوح منها مجددا إلى مخيم شعفاط بعيد احتلال القدس عام 1967، ومن هناك إلى المملكة الأردنية التي اضطروا لوصولها مشيا على الأقدام.

فاطمة تحمل مفتاح منزل عائلتها في قرية بئر ماعين ومفتاح منزل آخر (الجزيرة)
فاطمة تحمل مفتاح منزل عائلتها في قرية بئر ماعين ومفتاح منزل آخر (الجزيرة)

عودة ناقصة
وفي نبشها لتفاصيل تلك المرحلة، تقول فاطمة "في البداية مكثنا في خيم على مقربة من الحدود مع فلسطين وقالوا لنا حينها ستبقون هنا لتعودوا لبلادكم في أقرب فرصة، لكن اندلعت حرب الكرامة، وأصبحنا في مرمى النيران على الحدود، فتفرقنا في المخيمات بالأردن، ودرست هناك الصفين الخامس والسادس، كما تدربت على حمل السلاح على يد الفدائيين الذين يتجولون بين المخيمات لتوعية اللاجئين بأهمية النضال والعودة للوطن آنذاك".

وهكذا رضعت المقدسية خضر من أول نبضة لها حب الوطن والانتماء إليه، وشاءت الأقدار أن تعود لتعيش بمدينة القدس مرة أخرى بعد تزوجها بابن خالتها المقدسي عام 1975 وأنجبت أربع إناث وثلاثة ذكور تشبعوا منها بحب القدس والتفاني لأجلها.

يغادر الزائر منزل الناشطة والمناضلة المقدسية فاطمة خضر، لكن صدى كلماتها الثابتة على طريق النضال تأبى مغادرته حين يتذكر أن هذه المسنة تنهض من فراشها يوميا لتفتش عن أي فعالية يمكنها المشاركة فيها لوضع بصمتها إعلاءً لشأن القدس.

المصدر : الجزيرة